الشعر السمعي في إصدارٍ نظري شامل:
جان بيار بوبييو يكشف وجهاً مستوراً ومهماً من شعر القرن العشرين
باريس ـ أنطوان جوكي
بمناسبة
مرور قرن على ظهور الشعر السمعي (1908-2008)، أصدر الشاعر الفرنسي جان
بيار بوبييو بحثاً مهماً تحت عنوان "الشعر السمعي عناصر نموذجية تاريخية"
(دار Le Clou dans le Fer)، يبيّن فيه حيوية وتنوّع الاختبارات التي تنتمي
إلى هذا النوع الشعري المُهمَل ليس فقط من قبل جمهور الشعر ولكن أيضاً من
قبل دور النشر والمناهج المدرسية والجامعية، وبالتالي ضرورة إعادة قراءة
تاريخ الشعر الحديث على ضوء هذه الاختبارات لإظهار أهميّتها ودورها الكبير
في صناعة هذا التاريخ.
وأوّل ما يتوقف عنده بوبييو في هذا البحث هو
طبيعة هذا الشعر الكوزموبوليتية والمعاصرة وعدم تردد أربابه في اللجوء إلى
التكنولوجيات الصوتية والاتصالية الأكثر حداثة، مفضّلين الاتصال المباشر
بالجمهور على الاتصال الناتج عن قراءة كتبهم. ثم يحلل بوبييو أهمية هذا
الشعر على مستوى استعادة طاقاتٍ شعورية وغريزية يتمتّع بها الطفل خلال
مرحلة ما قبل الكلام وتتعلّق بالهذر الصوتي الصافي واللامتناهي الذي يعُبّر
الطفل بواسطته عن عواطفه وآلامه وملذّاته، استعادة تفرض على اللغة الشعرية
(واللغة بشكلٍ عام) التواءاتٍ وتوتّراتٍ وإضافاتٍ وتفريغاتٍ شكلية ولفظية
تسمح لنا بالاستمتاع بالعالم، بالجسد واللغة وبإعادة ابتكار هذه الأخيرة
أو، على الأقل، بتوسيع إمكانياتها التعبيرية.
وتحت تسمية "الشعر
السمعي"، تندرج ابتكاراتٍ وممارساتٍ متنوّعة ومجدِّدة ظهرت منذ الخمسينات
وتستخدم الصوت والأدوات الالكترونية السمعية التي قد تقتصر على ميكروفون
عادي خلال أداء ارتجالي مُسجَّل أو أمام الجمهور (كالصراخ الإيقاعي لفرنسوا
دوفرِن)، وقد تصل إلى حد الاستخدام الخلاق للآلة المسجّلة مرفقاً بتلاعُبٍ
بالشريط المُسجَّل، أو بثّ شرائط مسجّلة سلفاً خلال أداءاتٍ مسرحية
(كقصائد هنري شوبان السمعية أو قصائد برنار هايدسيك المدوّنة كقطعةٍ
موسيقية)، أو حتى استخدام الكمبيوتر والتقطيع المشهدي أو الصوتي (بريون
جيزين). لكن ندرة وكلفة هذه التكنولوجيات تدفع معظم وجوه هذا الشعر إلى
إهمالها وإلى الاكتفاء بالإملاء العاري وبحركات الجسد وفضائه. وهذا
بالتحديد ما دفع هايدسيك في الستينات إلى تفضيل تسمية Poésie action التي
تعكس أداءً تلعب فيه حركات الجسد دوراً مهماً، أحياناً على حساب النص أو
القراءة، كما يتجلى ذلك في عمل شعراء كثر، مثل أدريانو سباتولا وجوليا
نيكولاي وأوجينيو ميتشيني وجيوفاني فونتانا وجوليان بلاين وسيرج باي
وكريستوف تاركوس وناتالي كانتان وكثيرين غيرهم. وتقترب هذه الممارسة مما
يُعرف "بالشعر الأدائي" الذي انطلق مع مجموعة "فلوكسوس"، ويضم بدوره أسماءً
كثيرة مثل جاكسون ماك لو، ديك هيغينس، إيميت ويليامس، شارل درايفوس، ميشال
جيرو، أخناتون...
من الصعب إذاً رسم حدودٍ لهذا الشعر. فالإملاء العاري
وإن مفخّماً لا يمكن تمييزه، من حيث المبدأ، من القراءة الشعرية كما
يمارسها بعض الشعراء الذين ينتمون إلى الشعر المكتوب، مثل غيراسيم لوقا
الذي شارك غالباً بقراءاتٍ إلى جانب وجوه الشعر السمعي وأُدرِج في هذه
الخانة بدون أن ينتمي في الواقع إليها. وتقترب الممارسات الصوتية واللفظية
التي لا تنقل أي معنى محدَّد من الموسيقى الصوتية التي مارسها فنانون مثل
كورت شفيترس وستين هانسون وجيرار روم وأرنست جاندل وفرانز مون وأرّيغو
توتينو وكارلا برتولا وسيباستيان ليبيناس، أو من الموسيقى الالكترونية
السمعية ثم الرقمية التي مارسها شعراء وفنانون مثل هنري شوبان وألبرتو
فيتاتشيو وشارل أميركانيان ومايا يانتار وإيفان إيتيان ومايكل لانز...،
وذلك إلى حد أصبحت فيه هذه الممارسات جزءاً من النوعَين الموسيقيين
المذكورَين. وفي هذا السياق، يتوقف بوبييو أيضاً عند الحفلات الموسيقية
التي تقوم حصراً على الأداء الصوتي والتي يقف خلفها فنانون كبار مثل روبرت
أشلي وستيف رايخ وألفين لوشر وفرقة ميريديت مونك، وهي ممارسات تقترب كثيراً
من مفهوم الشعر السمعي.
ولعل أكثر ما يُفسّر هذا التقارب بين الموسيقى
الصوتية والشعر السمعي وانحلال الحدود بينهما هو عمل ديتر شنيبيل
Glossolalie 61 الذي يعرّف به هذا الأخير "كموسيقى لمنشدين وعازفين"، قبل
أن يضيف:"منفّذو هذا العمل يتصرّفون كمنشدين. فالكلام هو موسيقى، أو، على
الأقل، أحد أصوات النسيج الموسيقي. ويتجلى ذلك بقوة حين نستمع إلى لغةٍ لا
نفهمها". وحول هذا العمل، لا يتردد فينسان بارّاس إلى النظر إلى "طريقة
تطوّر النص بشكلٍ مقطّع وإلى انحلاله على شكل همساتٍ ومحاكياتٍ صوتية
وأصواتٍ لغوية معزولة وأصواتٍ جسدية مختلفة تختلط جميعها وبطريقةٍ حميمة
بالأصوات التي يُنتجها العازفون، كلحظةٍ جوهرية لذلك المسار الجمالي الذي
عبره في جميع الاتجاهات أرباب الفن السمعي والحرفية المفرطة والشعر
الالكتروني والشعر الصوتي خلال النصف الثاني من القرن العشرين".
ولا
يُهمل بوبييو الشعراء الذين لا تقع أعمالهم حصرياً في ميدان الشعر السمعي
واشتهروا، مع ذلك، كوجوهٍ مهمة له، مثل بول دو فري وويليام بوروس وميشال
سوفور وجان لوك باران وسيلفي ناف وبوبييو شخصياً، كما لا يُهمل الشعراء
الذين انتموا إلى مجموعة TXT الذين جهدوا، كل واحدٍ على طريقته، إلى إسماع
ما أطلق عليه كريستيان بريجان تسمية "صوت المكتوب"، مثل بريجان نفسه وجان
بيار فرهيغين وشارل بينكان وجان لوك لافريّ... ويُحدِّد بوبييو معيارَين
يفرضان نفسهما داخل الشعر السمعي: من جهة، الكتاب (أو الصفحة، أو المطبوعة)
الذي لم يعد الركيزة الأكثر مناسبة لنشر هذا النوع من الشعر، ومن جهة
أخرى، الأسطوانة (أو الشريط المسجَّل، أو الفيديو). لكن الطريقة الأكثر
رواجاً منذ فترة هي الكتاب المرفق بأسطوانة (CD) والذي يُشكّل فيه الجزء
المسجَّل العمل الشعري الحقيقي، بينما يلعب الجزء المطبوع دور القطعة
الشعرية المدوّنة (partition).
وداخل الشعر السمعي، يُميّز بوبييو
خيارَين جماليين يمكن أحياناً أن نعثر عليهما داخل عمل شاعرٍ واحد أو أن
يُشكّلا عامل مواجهة بين شاعرٍ وآخر (شوبان هايدسيك). فمن جهة، لدينا
بدائية راديكالية نعثر داخلها على ميلٍ تشييدي تقتصر مادّته على الوحدة
اللغوية الأصغر (أي الحرف)، وميل فيزيائي وعفوي يجهد في إسماع المكوّنات
العضوية والغريزية للصوت والكلام، كالنفس والتأوّه والحشرجة والتشويهات أو
التنغيمات الصوتية والضحك والصراخ. وروّاد هذا الشعر هم الدادائيون ريشارد
هوالسنبِك وهوغو بال وتريستان تزارا وراوول هاوسمان، ولكن أيضاً
المستقبليون الإيطاليون مارينيتّي وأومرتو بوتشيوني وجياكومو بالا
وفرانشيسكو كانغيولّو، والشعراء الروس "فيليمير كليبنيكوف وأليكسي
خروتشونيك، بدون أن ننسى إسهامات بيار ألبر بيرو وكورت شفيترس وكميل بريان
وأنتونان أرتو. أما ممثلو هذا الشعر منذ الخمسينات فهم الشعراء الحرفيون
إيزيدور إيزو وموريس لومِتر، وشعراء ألمان مثل جيرار روم وهانز كارل
هارتمان وأوسفالد فينر وأرنست جاندل وكارل فريدريش كلاوس، وشعراء إيطاليون
مثل باتريسيا فيشينيللي وأرّيغو توتينو ولكن خصوصاً هنري شوبان وفرنسوا
دوفرِن وبوب كوبينغ.
ومقابل البدائية الراديكالية، ظهر شعراء شكّلت
المكوّنات النحوية واللغوية والحوارية هاجسهم الرئيسي، ولم يعد الجسد
والصوت واللفظ الهدف المنشود بل الناقل (vecteur) لعملٍ شعري يتفرّع، من
جهة، إلى تنويعات شكلية أو لعبية تشكّل المكوّنات الخطابية مادّتها وتُعرَض
كما هي أو يتم تحويلها أو تشويهها، ومن جهةٍ أخرى، إلى مقاربات براغماتية،
واقعية أو حوارية، تضع في صلب اهتماماتها القدرات الاتصالية للغة. ويُمثّل
الميل الأول شعراء مثل ميشال ميتاي وباتريك دوبوست وكوزيما وايتر وكريستوف
فيات، بينما يمثّل الميل الثاني الشاعر برنار هايدسيك إلى جانب جون جيورنو
وإيلمار لابان وأكّي هوديل وكارلا برتولا وألبرتو فيتاتشيو وديميتري
بولاتوف وتوما بريشي وغي بلو وآن جايمس شاتون وسيريل بريت... أما روّاد هذا
الشعر بشقّيه فهم جول رومان ومارتين بارزون وأبولينر وتزارا وهوالسنبك
ومارسيل جانكو وألبر بيرو.
طبعاً، لم يقتصر عمل بوبييو في بحثه على
تعداد الشعراء الذين تم ذكرهم، بل يقوم الباحث بوصف وتحليل ممارسة وخصوصيات
كل واحد منهم ضمن تسلسلٍ تاريخي يمنحنا فرصةً فريدة لفهم تطوّر الشعر
السمعي على مدى قرنٍ من الزمن. وفي هذا السياق، يقترح علينا، بموازاة نصّه
العام، ملخّصات طويلة ومستقلّة حول أبرز وجوه هذا الشعر وتياراته وتعريفاتٍ
دقيقة ومفصّلة لجميع تقنياته. من هنا أهميته القصوى