إيف بونفوا يعلّمنا أن ثمة شجرة في المكان
قبل أن ندرك أنها شجرة الشعر
هو تجربة إنذار مبكرة للحياة بالانقراض… إذا انقرض الشعر
عقل العويط
كيف يستطيع الشاعر أن يجعلنا نرى شجرةً قبل أن يعلّمنا إدراكُنا أنها شجرة؟ إيف بونفوا، الذي غادر الوجود الحسي قبل نحو من أسبوع، عن ثلاثة وتسعين عاماً، هو الذي عمل على “إقناعنا” بهذه “الحقيقة”، من طريق التجربة الشعرية المديدة التي خاضها، مؤمناً بأن الشعر هو “الفضّاح الأكبر” الذي يصنع الجمال، وهو “اليقظة” و”تجربة الإنذار” المبكرة التي تستبق المعاني والحوادث، وتوسّع اللغة والأمكنة، وتبتكر الفضاءات، وقد جعله هذا الإدراك الشعري – الفلسفي – الفني ليس كبير شعراء فرنسا فحسب، بل ضميراً للوجدان الشعري في العالم كلّه.
“يصبح هناك شعر عندما تتخذ كلمات على غرار “شجرة” أو “حجر” هيئة “الأعجوبة”، يقول إيف بونفوا. فكيف تصير كلمة الشجرة، أو كلمة الحجر “أعجوبية”؟ كيف يتحقق ذلك؟ أيتحصل بالدأب على الكلمات، حيث في هذا الدأب يكمن جمالها، ومن هذا الدأب تستمدّ قوة إقناعها “الأعجوبي”؟ أيجوز لقارئ الشعر أن يقول إن إيف بونفوا هو شاعر “الخدعة” الإيجابية؟ لِمَ لا. يجيب قارئ الشعر، متداركاً بالقول إنها خدعة الساحر الذي يسحر الكلمات. فلنبحث مع الساحر إذاً عن وجود خدعةٍ شعرية في مكانٍ ما. ليس في المكان الحسي فحسب، بل خصوصاً في اللغة، حيث “الكلمات كمثل السماء/ اليوم،/ شيء ما يتجمّع، يتبدّد/ الكلمات كمثل السماء/ لا نهائية/ لكن كلّها تقع فجأةً في حفرة الماء”. في “خديعة العتبة” هذه، وهو عنوان أحد دواوينه، “المدى الذي يبدو مرسوماً في الفراغ/ كتل أوكسيد الكوبالت النيّر في الوادي/ لا تكاد ترتعش، ربما هي انعكاس/ أشجار أخرى وحجارة أخرى في النهر” (من قصيدة “النهر”). الواقعي هنا هو اللانهائي، في نظر إيف بونفوا، لأنه يتحوّل، يتبدّد، يتكوّن من جديد، صانعاً حقائق أخرى، ووقائع أخرى، واحتمالات أخرى، تصير هي كلّها في هذا المعنى، الواقع الإضافي الأوسع والأشمل للعالم وللكلمات على السواء. هنا بالذات، ينأى الشاعر الفرنسي الكبير عن المفاهيم السوريالية، آخذاً على السورياليين، وعلى الحركة السوريالية نفسها، الابتعاد عن الواقع لبناء كينونة مغلقة، مبنية على الرموز والصور، رافضاً الاستسلام لسيادة الشكل على النص. ففي رؤياه أن على الكلمات أن تحافظ على دلالتها الأرضية التي بدونها لا وجود لعلاقة حقيقية بالعلم.
هذا الواقع الذي تآلف معه الشاعر، يختلف عن الواقع الواقعي، مثلما يختلف عن الواقع الذي درسه الواقعيون والفلاسفة، واستخلصوا منه عِبَر الوجود والكينونة والمطلق. في هذا المعنى، إيف بونفوا ليس واقعياً وليس فيلسوفاً، وفق التحديدَين المنهجيين للواقعي وللفيلسوف. إنه يرى الواقع بعينٍ أخرى، هي عين الساحر. إنها العين التي ترى الواقع واقعياً، وتراه بطريقة مختلفة عن الواقعيين والفلاسفة، وترى أيضاً الانعكاسات والمضمرات والخلفيات والاحتمالات والدلالات، ما يضفي على هذا الواقع مدركات مختلفة، غنية، خلاّقة، لانهائية، تمثّل جوهر “الواقعية الجديدة” التي نادى بها في الشعر. من هذا المنطلق بالذات، فتح إيف بونفوا سبلاً غير مطروقة من قبل، لتجديد العلاقة بين الشعر والعالم. وهو بذلك، ضخّ الشعر بالقدرة الإضافية على العيش في الواقع وفي المستقبل معاً وفي آن واحد. في هذا الباب بالذات، اجترح مجالات جديدة للكتابة الشعرية، سيبقى الشعر مديناً له بها لاجيال طويلة. وإذا كانت دواوينه الأولى بقيت “عصيّة” على الكثيرين من الشعراء ومن قرّاء الشعر، فإن تجاربه اللاحقة سرعان ما بدّدت هذه الاستحالة، فاتحةً المجال الرحب للتفاعل مع الكلمات ومع العوالم الواقعية المضافة.
كتابه “حركة دوف وثباتها” موقف شعري متكامل من الموت والحياة في علاقتهما الجوهرية الوطيدة، وفي التكامل المذهل بينهما. فما أعمق الشاعر وما أجمله حين يمزج اقتران الموت بالحياة وبالطبيعة في مفهوم متجدد، حيث يتحقق ذلك كله، في الولادات والنهايات، لكن من دون آلام وأوجاع: “ورأيتك تتحطّمين وتنعمين بموتكِ أنتِ يا أجمل من الصاعقة عندما تلطّخ زجاج دمك الأبيض”، أو حين يقول: “تلِجُ إليكِ الريح يا دوف/ يا أرضاً صمغيّة تنام بقربي”، أو: “في كلّ لحظة أراكِ تولدين،/ يا قرية الجمر، يا دوف،/ في كل لحظة تموتين”.
لا أزال أتذكر عندما قرأتُ “الألواح المنحنية”، أني رأيتُ فيها كيف تكتمل تجربة الشاعر الفرنسي الكبير بخروجه من النفق الملتبس الذي قيل إنه وضع فيه شعريته الأولى. كتبتُ في هذا الكتاب أن إيف بونفوا يسطّر ما يمكن اعتباره خروجاً على ماضيه، وأن من العبث أن نبحث عن الشعر العظيم خارج العلاقة مع الذات. ينطوي هذا الموقف على إدانة هائلة لحداثة العالم الراهنة التي تناضل من أجل “الانتصار” على الجمال الأرضي “الطبيعي”، وتنكّل بفردوس الذات وتتخلّى عنه وتلغيه من خلال اختراع فراديس اصطناعية، هي ضد الطبيعة وضد الأعماق النفسية “الطبيعية” وضد الخيال “الطبيعي” وضد مملكة الحلم “الطبيعية”.
يعيد إيف الإعتبار الى الحلم الذي يقيم مملكته في أعماق الذات، ويعلن بوضوح وقوفه “ضد” شعر “الفكر الواعي” الذي يبرمج الكتابة و”ينثْرنها” ويعقلنها الى حد أنه قد يجعلها نثراً “مفاهيمياً”. لكن، مهلاً. يستطيع الشعراء أن يكتبوا ما يشاؤون. أن يهملوا شعر الأعماق الذاتية أو أن يخلّدوه. تستطيع الحداثة الجديدة، المنقلبة على الحداثات كلّها، أن تضع حداً للتاريخ وللوجود الأرضي، وأن تبدأ سفر تكوين جديداً للإنسان والحيوان والأشياء. يستطيع طغاة هذه الحداثة ومخترعوها وعلماؤها و”شعراؤها” أن يفعلوا بالعالم وبالطبيعة وبالذات البشرية ما يريدون وما “يشعرون”. يستطيعون، إذا “تجاسروا”، أن يصيروا آلهةً، وأن يصنعوا الأرض من جديد بما فيها وبما ومَن عليها، وأن يخترعوا السماء والجحيم، وأن ينتجوا – على طريقتهم – أعماقاً “ذاتية” جديدة للإنسان. لكنهم – أتجرأ وأقول – لن يستطيعوا أن يعيدوا تكوين الخيال والعاطفة والجموح والشبق والحلم واللاوعي. لن يستطيعوا اختراع كهرباء النفس. أعود الى إيف بونفوا، والى رأيه في الشعر، وخصوصاً الى ما يمكن اعتباره “وصية” غالية لشاعر، هو ربما آخر “الكبار” الفرنسيين. أعود لأؤكد أن شاعراً كهذا، يقيم في قلب الحداثة الإنقلابية الجديدة، ويستخدم وسائلها وتقنياتها الأشد حداثة، و”يفكر” في “شعرها” وفنونها ونتاجاتها الأخرى، قد يحقّ له – أكثر من غيره وخصوصاً أكثر من الذين “ينتمون” الى “شاعرية اللأعماق النفسية” – أن “يوصينا” بضرورة “العودة” الى النبع. سأظلّ أقول للشعراء: أكتبوا ما تشاؤون. لكن تذكّروا مع الشاعر إيف بونفوا أننا حتى هذه اللحظة لا نزال نعتبر بودلير ورامبو وأبولينير وشار وآخرين آلهتنا الشعريين. نؤلّههم ونجدّف عليهم في الآن نفسه. وهذا من أسرار كهرباء النفس.
الآن، يمكننا أن نتساءل: ألهذا السبب، يا ترى، ترك الشاعر دروس الرياضيات لينصرف إلى الفلسفة، ثمّ إلى الفنون، ثمّ إلى الواقع بكليّته، من دون أن يقطع الصلة بتاريخ العلوم، جاعلاً ذلك كلّه، مختبراً حيّاً لإطلاق صرخته المجيدة عن الحقيقة، عن الحياة والموت، عن الحلم والخيال والمحسوس، والطبيعة والواقع، رافضاً الهرب إلى العالم الغيمي، معتبراً أن المواجهة هي خير سبيل لتفكيك الرموز والصور والمعاني؟
هذه المواجهة تكون بالشعر، ومن خلال الشعر. أليس الشعر هو “الفضّاح الأكبر”، على قوله؟! ولكونه “فضّاحاً”، أليس في مقدوره أن يقول ما لا تستطيع موهبةٌ أخرى أن تقوله، أكانت علمية أم فلسفية أم بين بين؟! الشعر يقول الحقيقة، وليس صحيحاً أنه يكذب. أو أنه يقدّم الأعذار الواهية. إنه يفضح الكذبة الكبرى، خدعة الحضارة التي انشقّت عن الجوهري البسيط، وعما هو أساسي، فاقدةً تواصلها مع أشكال الوجود البسيطة والممتلئة. يؤمن إيف بونفوا بضرورة الشعر وبمشروعيته إلى الحد الذي يرى فيه أن مصير العالم مرتبط بمصير الشعر. أليس إيف هو القائل إن للشعر دوراً لا شيء يعوّضه، فإذا انقرض فعلاً فإن المجموعة الإنسانية ستنهار معه؟! ألا يسعنا الآن أن نقول مع الشاعر الفرنسي إن البشرية ستتعرّض قريباً للانقراض، بسبب وقوفها الهمجي ضدّ كل ما هو شعري، وإن الشعر هو تجربة إنذار مبكرة للحياة بالانقراض… إذا انقرض الشعر؟!
■ ■ ■
وُلد إيف بونفوا في 24 حزيران 1923 في تور وسط غرب فرنسا، وانتقل إلى باريس في العام 1943، حيث تعرّف إلى الجماعة السوريالية وصار واحداً من “الرفاق” على وجه التقريب. درس الفلسفة في السوربون وحصل على شهادة الليسانس ثم على الدراسات العليا في الفلسفة. ديوانه “حركة دوف وسكونها” حقق له شهرة واسعة، لأنه تمايز فيه عن الأعراف والأنماط الشعرية السائدة آنذاك. خرج على السورياليين في العام 1947، منصرفاً إلى قراءة الكتب الفلسفية. ترجم روائع من الأدب الإنكليزي، في مقدمها مسرحيات شكسبير وأشعار ييتس، فضلاً عن ترجمة الشاعر الإيطالي بترارك والشاعر اليوناني سيفيريس. درّس الشعر المقارن في الكوليج دو فرانس من العام 1981 إلى العام 1994، كما درّس في عدد من الجامعات السويسرية والأميركية. بقي نشطاً حتى الأيام الأخيرة من حياته. وها هو العام الحالي الذي شهد غيابه قبل أيام، قد شهد له صدور “الوشاح الاحمر” و”الشعر أو الغنوسيس”. وإذا كان نال جوائز كبرى منها جائزة الشعر الكبرى في العام 1981 من الأكاديمية الفرنسية، وجائزة غونكور للشعر في العام 1987 وجائزة سينو ديل دوكا العالمية في العام 1995، وغيرها الكثير الكثير من جوائز الشعر في العالم، فإنه لم “يحظ” بجائزة نوبل للآداب، علماً أنه من أكثر المستحقين لها فعلاً لا قولاً. عدم نيله إياها، يُحسَب لصالحه، هو الذي يحتل في القرن العشرين جانباً عظيماً من وجدان الشعر في العالم.
قصيدتان:
مقام السمندل
مأخوذاً يتثبَّت السمندل/ ويفتعل الموت. تلك هي/ أُولى خطوات الوعي في الحجر،/ الأسطورةُ الأكثرَ قدماً،/ العقلُ، نارٌ عظيمة مُخترَقة./ كان السمندل عند منتصف الجدار،/ في وضح نوافدنا./ بارداً كان وجهه، لكنّني/ كنتُ أرى قلبَه ينبض دون انقطاع./ فيا محرّضتي ويا غايتي،/ يا اســـتعارةَ كلّ مـــا هو مجرّد، كم أحبّ/ لذلك من يضمّ في صمته/ قوّة الفرح الوحيدة./ كم أُحبّ الذي/ بكلّ ركام جسمه يجاري النّجوم،/ كم أُحبّ الذي/ ينتظر ساعة النّصر، ويحبس أنفاسه، ويتعلّق بالأرض.
(ترجمة محمد بن صالح)
الوشاح الأحمر
في أعالي البحار يرتفع رواق في السماء./ وراءه، الشمس. قائدُ/ سفينة الشحن القديمة يُقِلّ مسافراً/ الكوّة مفتوحة، الأمواج قريبة./ ماذا يفعل؟ وقف، رمى/ شيئاً ثمّ أشياء أخرى عبر الكوة./ قال لي: لماذا هذا الوشاح إذاً،/ أهدانيه أبي عند رحيلي/ في أول سفر من بين أسفار دون جدوى./ أحببته، بدا لي أنّه يقول ذلك،/ واحتفظتُ به ليوم موتي هذا.
(ترجمة أسماء خلا
ورشيد خالص)
من أقواله:
الشعر هو الفضّاح الأكبر. الشعر هو السبب الوحيد الذي يستحق أن نكتب لأجله في هذا الليل المدلهمّ الذي يسجننا.
القصيدة هي الدأب على الكلمات: في هذا الدأب يكمن جمالها، ومن هذا الدأب تستمدّ قوة إقناعها.
الشعر تكثيف للغة: أيّ حضورٌ أكبر وأفعل لها، وامتلاءٌ أكثر فوريةً فيها بالأشياء والاشخاص الذين ترويهم لنا القصيدة، وأيضاً وخصوصاً تصعيدٌ لكلماتها التي تروي لنا ما ترويه الواحدة تلو الاخرى. يصبح هناك شعر عندما تتخذ كلمات على غرار “شجرة” أو “حجر” هيئة “الأعجوبة”.
لا أرى الشعر تعبيراً عن فكرٍ واعٍ وحاضر، بل هو بحثٌ عما جرى في أعماق الحياة النفسية. ولا أكتب انطلاقا من فكرة مسبقة عما سوف أقوله، بل على العكس من ذلك، تهمّني الجمل والصور التي تتكوّن فيَّ من دون أن أكون قد ادركتُ بعد كنهها تماماً، بغية أن أسائلها وأكتشف فيها الحاجة أو الفكرة المختبئتين داخلها.
الكتابة هي في الخلاصة حوار بين الوعي واللاوعي.
إن التخلي عن شعر العلاقة مع الذات – وهو شعر بودلير ورامبو وأبولينير وبروتون – يوازي في معنى ما أن نقرر أن عصرنا بات يستطيع الاستغناء عن الفن السينمائي مثلا، بحجة أن الافلام مرتبطة بأوضاع درامية أو عاطفية نعيشها. ولكن أين كنّا لنكون من دون منجزات السينما ومآثرها؟ آمل حقاً ألا تنطوي الطليعية الشعرية على نفسها بهذه الطريقة الانتحارية.
كل قصيدة تضمر في عمقها قصّة، سرداً، مهما كان هذا قليل التعقيد أحيانا. فاللغة التي تشكّل هيكل القصيدة وعالمها لا يمكن أن تتبلور في الظاهر إلا من خلال أشياء أو كائنات تقيم علاقات ذات معنى في ما بينها، ويتضح من خلالها قانون التكوين في ذاته.
“السرد الحلميّ” هو عندما “يغفو” ما نكتبه من دون أن نكفّ عن الكتابة. هكذا يمكننا الاقتراب أكثر فأكثر من لاوعيٍ من نوع خاص، هو وعي الذات لداخلها .
ما هو العالم، إن لم يكن حيوات تواصل كل واحدة منها حفرها في لحظة من لحظات الوجود، أو أموراً أخرجتها رغباتنا من ليلها لاستجابة حاجتها الى الظهور، على رغم قيود الزمن ومحدوديته؟
إن الشاعر يرى في كتابته، لنقل ذلك بلا تمهيد، النوتيّ الذي يدفع مجذافه في مياه النهر، والطفل الذي يذهب وحيداً وباكياً على إحدى الدروب. الشاعر، أكان رجلاً أم امرأة، يستطيع أن يرى نفسه ويعرفها كشخص من الجنس الاخر: فأشكال الوجود المتنوعة تملك في خياله المعجون من كلمات، هيئاتٍ ملموسة جداً. يؤول اليه اذا، من هذا المنظار الذي أرسمه، أن يحمل تلك الهيئات الى مزيد من الوجود، وأن يبحث فيها، من خلال إصغائه الى تبادلاتها، عما إذا كانت تستطيع وسط تبعثرنا المهدِّد أن تجد شكل تفاهم وتناغم قادراً على إعادة تكوين “وحدة” الانسان ورغبة هذا في الانضواء تحت لوائها بناء على قواعد جديدة، وعلى جعلها سببا للوجود.