(OLIVIER MONGIN)
ترجمة: الحسن علاج
تقدم لوحة لرامبرانت (Rembrandt)، أرسطو متأملا تمثالا نصفيا لهوميروس،
بالنسبة لبول ريكور (paul ricoeur)، كامل معناها للمشروع الفلسفي. لكن ما
الذي يراه في تلك اللوحة التي طالما علق عليها؟ إنه يرى فيلسوفا، أرسطو، ال
'كلاسيكي' بامتياز، لافتا الانتباه إلى أن المصور يميزه بثلاث سمات:
فملابسه ليست، قبل كل شيء، ملابس إغريقي من القرن IV قبل الميلاد، بل
لمعاصر لرامبرانت، ثم لامس الفيلسوف ماديا تمثال هوميروس النصفي، الذي هو
رمز للشعر، انتهاء تمثل القلادة المدلاة على مستوى قامة أرسطو، الإسكندر،
الرجل السياسي الذي يشكل الفيلسوف معلما له. تحيل تلك الخصائص الثلاث غير
القابلة للإنفصال المتعلقة بثلاث شخصيات أرسطو (المفكر)، هوميروس (الشاعر)،
والإسكندر (السياسي)- ، إلى ثلاثة 'مبادئ' تمنح أيضا معناها إلى عمل
ريكور: الفيلسوف هو دوما معاصر، مهتم باللغة، وهو رجل تربية منشغل
بالسياسة.
التفكير مع معاصريه، ذلك هو روح عمل ريكور. فإذا كانت نقطة
انطلاق فكره تأملية، فإن مصادره معاصرة. وهو السبب الذي يجعل من الفيلسوف
ريكور شأنه في ذلك شأن أرسطو، معاصرا على الدوام مواجها لمعارف عصره. ولأمد
طويل قدم الفلاسفة المثال على إجراء حوارات متميزة مع القدماء: أفلاطون مع
الهندسة، ديكارت مع الجبر، كانط مع الفيزياء، برغسون مع التطورية. ومن
جهته فقد شيد بول ريكور حوارات دائمة مع خيرة الممثلين للعلوم الإنسانية،
مع أنثربولوجية كلود ليفي ستراوس، لسانيات بنفنست، الفلسفة التحليلية
الأنغلوساكسونية، التحليل النفسي الفرويدي، بل أيضا مع العلوم الإدراكية.
محاكاة الحاضر
عابر
لايكل، وفي نفس الوقت يعتبر من الأوائل الذين عرفوا بأعمال جون راولز
(John Rauls)، ميكائيل فالزر (Michael walzer) أو [أعمال] أمارتيوسين
(amartysen)، التي تركز، بعضها البعض، على المستقبل الـ 'معولم' للعدالة
الإجتماعية. غير أنه كان يجب ملاقاة أوساط محترفة يجري حوارا معها. وهو
الحال مع القضاء والطب. فضلا عن ذلك، فقد امتلك مهارة تنظيم 'نقاشات
خيالية' بين مفكرين غير معاصرين لبعضهم البعض، مبرهنا كذلك أن 'كلاسيكيا'
أرسطو، القديس أوغسطين، هوسرل (Husserl)، هيدغر (Heidegger)... -هو على
الدوام مفكر 'في الوقت الراهن'. ها هو ذا فكر يضاعف التعرجات ولا يرضى بـ
'طريق مختصر'، وهو ما يميزه عن فلسفة تزعم الإقتراب من الكائن مباشرة، مثل
أنطولوجيا (فكر 'الكائن بوصفه كائنا') هيدغر.
على أنه إذا ما كان على
الفلسفة أن تعيد دوما اكتشاف 'مصادرها' فإنها تعثر مع ذلك على 'نقطة
انطلاق' ها في ذاتها. يفضل ريكور صياغة معضلات (apories)، أعني تساؤلات تتم
استعادتها بلا نهاية، للملفوظ الدوغمائي لحقيقة ما. 'إذا كان اللغز صعوبة
أولية، أقرب إلى النحيب، يكتب بخصوص المعاناة، فإن المعضلة هي صعوبة
نهائية، تتحقق عبر عمل الفكر ذاته'. يتخذ العمل الفلسفي كموضوع له إذن مآزق
من أجل التشديد أكثر على الصعوبات. فإذا ما قام ريكور بإنجاز عطفات عبر
معارف غير فلسفية، فإنه يعمل على استعادة المعضلات التي يلح عليها تاريخ
الفلسفة، وذلك بالشروع بمعضلات الشر، [معضلات] الزمن أو الذاكرة. رافضا
معارضة القدماء والمحدثين بطريقة فجة، إنه يعمل على تنشيط السؤال الفلسفي
وذلك بالعودة إلى المصادر الأصلية لما هو معاصر. تلكم هي المفارقة الضامة
لمسيرته: فإذا كان على الفكر ألا يستسلم إلى روح الزمن أو إلى الراهن، توجب
عليه أن يكرر 'الحاضر'.
الصيغة السردية
إلا أن أرسطو لا يكتفي بتأمل
التمثال النصفي لهوميروس، إنه يلامسه كما لو كان يرغب في الإلتصاق به. هذا
يعني أن الفيلسوف يتصل جسديا باللغة. ولهذا السبب: فمن جانب، اللغة هي
بمثابة وعاء للفكر، والتي بدونها يصاب بالضعف، ومن جانب آخر، تحيل اللغة
إلى نصوص لا تتوقف عن إعطائها شكلا للعالم.
فإذا كان قد أعلى من قيمة
التجديد الدلالي في [كتاب] الإستعارة الحية (1975) فقد قدم ريكور البرهان
في الزمن والمحكي (1984) على أن السرد، محكي التخييل والمحكي التاريخي، لا
ينفصل عن الـ 'شرط الإنساني'. ربط بول ريكور، شأنه في ذلك شأن حنا أرنت
(Hannah Arendt) أنسنة الزمن، 'تشكله' ، بمهارة حكاية قصص. 'الإنسان كائن
يتفاهم متأولا وأن الصيغة التي عبرها يتأول هي الصيغة السردية'.
فإذا
كانت الأخلاق ' L'thique ' تقتضي شعرية (Po'tique)، بالنسبة لأرسطو كما
بالنسبة لبول ريكور، كذلك فإنها تعتبر مقدمة لشعرية تتساءل حول صلابة
وهشاشة الـ 'عيش معا'. شعر، فلسفة وسياسة تسير كلها حينئذ في اتجاه واحد.
فإذا كانت مهمة السياسي هي جعل فضاء ما للكلام ممكنا، إذ بدونه تصبح اللغة،
الشعر والفلسفة مهددة بآفة الإنقراض، توجب عليه أن يربي بهدف ممارسة فكره.
إن
الأساسي هو تحويل الإنسان من مذنب إلى كفء، من غير معارضة المحدودية
الإنسانية والمقدرة على الفعل. فيما وراء التعارض بين العلم والرأي، يعلي
بول ريكور من قيمة الرأي الحق و العادل.
الإفاضة في الخير
وفي
الواقع، فإن المفارقة السياسية، التي لا يمكن فصلها عن الأخذ بعين الإعتبار
النزعة الشمولية غداة أحداث بودابست في سنة 1956، تستدعي أن الجري وراء
تحقيق الخير العميم بإمكانه أن ينتج عنه شر عظيم، وأن الوجه الخفي للعقد
الاجتماعي هو الشطط في السلطة. فلهذا السبب لم يتخل ريكور أبدا عن مهمة
المربي السياسي. فإن الأمر يتعلق بتأمله في الحضارة العالمية منذ الستينات،
إرادته في تنشيط إصلاح الجامعة قبل أحداث ايار/مايو 1968، الدفاع عن فكرة
اليوتوبيا (utopie) عاملا على إرجاع الثورة إلى فكرة معينة عن الإصلاح، إنه
يعمل الفكر في أحداث عصره بهدف الحرص بشكل أمثل على تقدير السياسة.
وبشكل
أكثر رحابة، فإن تفكير بول ريكور السياسي يستند إلى اعتقاد حيث لا يكفي
صناعة أقل شر ممكن غير أن إفاضة ما في الخير هي دوما متوقعة. 'ينبغي
المراهنة على أن فوائد الخير تتجمع غير أن تقلبات الشر لا تشكل نظاما'.
إن
التفكير مع المعاصرين، الاضطلاع بمسؤولية اللغة، الإنشغال بالهم السياسي.
إن هذا التفكير يقود إلى تصور للحياة مشدود إلى المستقبل. أن تكون مع
الحياة بدلا من أن تكون مع الموت، وهو ما كان يروق لبول ريكور الصدع به.
عن المجلة الفرنسية (Le point) Hors-S'rie عدد 17 نيسان/أبريل ايار/مايو 2008
أوليفييه
مونجان (Olivier mongin) يشغل منصب مدير مجلة (Esprit)، له على الخصوص:
بول ريكور (Seuil 1994) وعمل مشترك مع ميكائيل فوسيل (Michael Foessel) تحت
عنوان: ريكور، من الإنسان المذنب إلى الإنسان القادر دار نشر (2006APDF )