النقد الأخلاقي للحداثة عند طه عبدالرحمن
|
| |
لقد بقي مشكل الأخلاق في التداول الإسلامي مجرّد مشكل وعظي يؤدّيه طائفةٌ معيّنة، ولم يتحوّل إلى جدار نظري صلب يمكن أن يكون بمثابة دخول في فلسفة الأخلاق، ذلك المبحث الفلسفي الهام منذ بدء الفلسفة؛ بيد أن كانط، ومن قبله إسبينوزا وغيرهم، قد أعطاه راهنية جديدة وفريدة، بحيث يمكن أن نقسّم الفلسفة الأخلاقية ما قبل كانط وما بعده. فبعد أن هدّم كانط العقل المحض، وأظهر أنّه لا يمكن الوثوق به لأنّه غير قادر على إنشاء يقين عملي أو صناعة ميتافيزيقا، عاد كانط من جديد إلى العقل العملي ليشرّع الأخلاق الإنسانيّة للإنسان، ويبوّئه المكانة المعياريّة في ذلك. وكلّ النقاش الأخلاقي سواء ما تعلّق بمجرّد الأخلاق أو تعلّق بشكلها الديني أو الدنيوي وأيضًا بشكلها القانوني ومشكل العدالة، فهو نقاش تعود جذوره إلى كانط، حتى الفلسفة المعاصرة مع هابرماس، إلى روالز الذي أسّس نظريّة في العدالة تستندُ إلى الأخلاق الكانطيّة.
الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن حاولَ أن يعيد الاعتبار لسؤال الأخلاق باعتباره البوّابة الرئيسة لإعادة إحياء الإنسان بعدما تقاذفته قوى الماديّة الناتجة عن عمليّات العقلنة غير المسدّدة بالأخلاق، وكذا كصناعة موقف أصيل ومستقلّ يمكن الانطلاق منه لنقد الحداثة الغربية من خلال أرضيّة مغايرة، بحيث تكون الأخلاق كمدخلٍ للنقد وأيضًا كمشاركة أصيلة إسلاميّة في تلك الحداثة الكونيّة.
فإنّنا نعلم أن الحداثة قد حدّدت نفسها بوصفها عقلنة مستمرّة بإزالة السّحر عن العالَم (من المهمّ الرجوع لأطروحة ماكس فيبر في ذلك)، وذلك لأنّ الحداثة -حسب هيدغر- قد صنعت نقلة أنطولوجيّة لمفهوم الإنسان، بحيث حوّلت الإنسان من مجرّد إنسان إلى كونه “ذاتًا”، فمفهوم الذات هو مفهوم حديث، واستتبع ذلك بتغيُّر السرديّة الكونية حول العالم، فالطّبيعة لم تعد سرًّا بل نُزع السرّ عنها باسم السّحر، ومن ثمّ فإنّ تعاطي الذات الحديثة مع الطبيعة أصبح يحدوه مفهوم التقدّم والعقلنة المتّصلة.
في كتابه الأهم: “سؤال الأخلاق؛ مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة”، يفنّد طه عبد الرحمن ذلك التصوّر المادي للحداثة الغربية من خلال أطروحته في الأخلاق، فإنّ عبد الرحمن قد نقدَ أغلب التصوّرات الفلسفيّة وكذا الدينيّة الإسلاميّة حول الأخلاق، وذلك لأنّ كلّ المقولات الفلسفيّة الأخلاقيّة تنبني -حسب عبد الرحمن- على أساس ثلاث استراتيجيّات: تبعيّة الأخلاق للدين (أوغسطين، ألاكويني)؛ تبعيّة الدين للأخلاق (كانط، وهو الأهم وسوف أتعرض له حصرًا في المقال)؛ استقلال الأخلاق عن الدين (هيوم)[2]. وكذا، فإنّ التصوّر الفقهي للأخلاق في الثقافة الإسلاميّة، ينبني على أساس واحد، كما يقول طه عبد الرحمن، وهو: تصوُّر الأخلاق كعنصر تكميلي للإنسان، في حين أنّ طه عبد الرحمن يرى الأخلاق ضرورة للإنسان، فلا إنسان بلا أخلاق، حتى ولو كانت أخلاقًا دنيويّة (وهو يُشكّك في وجود أخلاق دنيويّة، ويرى أن كلّ الأخلاق دينيّة).
إنّ الإنسان الحديث شديدُ الغفلة، لأنّه قد تناسى أصله الأخلاقي المتمثّل في الدين، وراح -حسب عبد الرحمن- يعوّض الأخلاقيّة بالعقلانية المجرّدة التي هي أقلّ رُتب العقلانيّات الإنسانيّة، والتي قد تشترك في مجرّد العقل مع غير الإنسان، فقد تناسى هذا الإنسان العقلانيّة المسدّدة والمؤيّدة اللتين تتنزّل الأخلاق فيهما مرتبةً عالية تستند إلى الأصل الديني للإنسان. فطه عبد الرحمن يقول إنّ العقل له ثلاث مراتب يتنزّل فيها: فأولًا، هناك العقل المجرّد والنّظري والمحض، وهو الذي حظي من عبد الرحمن بتأبين كبير، وحكمَ بعدم صلوحيّته أخلاقيًّا ومنطقيًّا كونه ضيّقًا ومحدودًا وفقيرًا. ثانيًا، هناك العقل المسدّد، وهو العقل الذي له صلوحيّة عمليّة ولكنّها محدودة، كونه غير مؤيّد بالدليل الصحيح والعمل القويم. ثالثًا، هناك العقل المؤيّد، وهو العقل الذي يحظى باحتفال رائع من عبد الرحمن، فهو العقل الصالح الذي يجعل كلّ طبيعة آية، كما أنّه يرتقي بالنظري إلى آفاق موسّعة تتعدى ما هو طبيعي[3].
وإذا كان كانط هو مُشرّع الأخلاق الحديث، فإنّه قد اكتسب هذه المنزلة لأنّه هو مَن قلب الطاولة على العقل النّظري، واعتبر الصلوحيّة العقليّة هي صلوحيّة عملية للعقل العملي. فالعقل العملي سابق على العقل التأملي، حسب عبارته في “نقد ملكة الحكم”. لقد وضعَ كانط رهانًا جدّ خطير حول مسألة الأخلاق[4]، فقد اعتبرَ كانط أن الأخلاق تُؤسّس على نحو عقلي إنساني وليس على أساس دين بعينه، فالتخلّق هو طبيعة في الإنسان لا يكتسبها من الدين، ونحن نتديّن لأنّنا أخلاقيّون وليس العكس. إن الأخلاق هي مكسب الإنسان الذي يستطيع أن يشرّع من خلالها لنفسه، وهذه الأخلاق لا تتأسّس إلّا على الحُريّة، والحريّة وحدها كقيمة متعالية. حتى إنّه يمكننا أن نقول إنّ تصوّر كانط للأخلاق، هو تصوّر أخلاقي للأخلاق. كيف ذلك؟
إنّ كانط وقد أثبتَ أخلاقيّة الإنسان، فقد منح لهذه الأخلاق بُعدًا كونيًّا من خلال فكرة الواجب. إن قانون الخُلق لا يكون كذلك إلّا إذا كان قانونًا عامًّا للإنسانيّة، فحسب كانط “افعل الفعل وكأنّك تعامل الإنسانيّة في شخصك، وفي شخص كلّ إنسانٍ سواك، باعتبارها دائمًا وفي الوقت نفسه غاية في ذاتها[5]“. وبهذا، فقد أعطاها بُعدًا كونيًّا وعموميًّا، إضافة إلى أنّ الأخلاق الكانطيّة هي أخلاق الحداثة