إشكالية المنهج في النقد العربي الحديث والمعاصر
الدكتور العيد جلولي
- الجزائر -
عنوان هذه المداخلة وموضوعها إشكالية
المنهج في النقد العربي الحديث والمعاصر, وهو موضوع متداول في كتابات
نقادنا , تناوله عباس الجراري في كتابه ( خطاب المنهج ) , والطاهر وعزيز في
كتابه ( المنهجية في الأدب والعلوم الإنسانية ) , وسمير سعيد حجازي في
كتابيه ( إشكالية المنهج في النقد العربي المعاصر ) ,و( المناهج المعاصرة
في دراسة الأدب ) وسيد البحراوي في كتابه ( البحث عن المنهج في النقد
العربي الحديث ) , و , وخلدون الشمعة في كتابه ( المنهج والمصطلح ) , كما
تناوله كتاب آخرون في مقالات متعددة , تناوله عبد العالي بوطيب في مقالة
بعنوان (إشكالية المنهج في الخطاب النقدي العربي الحديث ) وقد استلهمنا
منها جملة من الأفكار في كتابة هذه المداخلة , وحسن المنيعي في مقاله (أزمة
المنهج في النقد العربي ) , وعزيز الشرقاوي في مقاله ( وضعنا النقدي ,
وضعنا الثقافي ) وغيرها من الكتب والمقالات ،
وهده المداخلة لا تسعى إلى طرح حلول لهذه الإشكالية , ولا إلى طرح
مقاربة جديدة لهذه المسألة , وإنما تسعى إلى إثارة الموضوع من جديد , وجعله
في الواجهة دائما , لأنه موضوع وثيق الصلة بقضايانا الفكرية والحضارية ,
كما تطمح إلى خلق فضاء جديد للحوار بين المناهج المختلفة .
تحديد منهجي واصطلاحي : إن تحديد المصطلح
تحديدا دقيقا , ومعرفته معرفة أساسية يدخل في صلب المنهج , ومن هنا
وانطلاقا من هذه القاعدة يجب تحديد لفظتي ” إشكالية” و ” المنهج ” اللذين
يشكلان صلب الموضوع , ذلك أن هذا البحث يتكون من ستة عناصر هي : إشكالية ,
المنهج , الخطاب , النقدي , العربي , الحديث .
في هذا البحث نستخدم لفظ ” إشكالية ” بدلا
من استخدام لفظ ” مشكلة ” والفرق بينهما واضح , فالمشكلة ” تتميز بكونها
يمكن الوصول بشأنها إلى حل يلغيها. فـ “المشاكل” في الحساب تنتهي إلى حل،
باستثناء بعض المعادلات الرياضية التي يكون حلها، أعني التخلص منها بعد
البحث والمحاولة، بالإعلان عن كونها لا تقبل الحل. أما المشاكل المالية
والاقتصادية والاجتماعية عموما, والمشاكل التي يصادفها العلماء في العلوم
الطبيعية بمختلف أنواعها, فهي جميعا تنتهي إلى نوع من الحل، آجلا أو عاجلا،
ما دام المجال الذي تطرح فيه ينتمي إلى الواقع الموضوعي ويقبل نوعا ما من
التجريب. وفي هذا الإطار يصدق قول ماركس: “إن الإنسانية لا تطرح من المشاكل
إلا تلك التي تقدر على حلها”. لماذا؟ لأن “المشاكل”، بهذا المعنى، إنما
تظهر من خلال تقدم البحث، فاكتساب مزيد من المعرفة بموضوع ما يفتح الطريق
أمام اكتشاف مجاهيل جديدة، تكون مناسبة لطرح أسئلة جديدة.” (1) أما لفظ ”
إشكالية ” فهي من الكلمات المولدة في اللغة العربية (وهي ترجمة موفقة لكلمة
problématique)) فإن جذرها العربي يحمل جانبا أساسيا من معناها الاصطلاحي.
يقال: أشكل عليه الأمر بمعنى التبس واختلط. وهذا مظهر من مظاهر المعنى
الاصطلاحي المعاصر للكلمة (ولكنه مظهر فقط). ذلك أن الإشكالية هي، في
الاصطلاح المعاصر، منظومة من العلاقات التي تنسجها، داخل فكر معين (فكر فرد
أو فكر جماعة), مشاكل عديدة مترابطة لا تتوفر إمكانية حلها منفردة ولا
تقبل الحل، -من الناحية النظرية- إلا في إطار حل عام يشملها جميعا. وبعبارة
أخرى : إن الإشكالية هي النظرية التي لم تتوفر إمكانية صياغتها، فهي توتر
ونزوع نحو النظرية، أي نحو الاستقرار الفكري”. (2)
وانطلاقا من هذا المفهوم للفظ ” الإشكالية
” فإن النقد العربي الحديث يعيش توترا انتهى إلى أزمة بسبب التهافت على
المناهج الغربية دون تمثل صحيح أو تلق معقول , وهذه الأزمة أو الإشكالية
تعددت مظاهرها وتشعبت مناحيها بحيث يستحيل حلها منفردة وإنما تحل في إطار
عام يشمل كل المظاهر والمناحي .
أما لفظ ” المنهج ” فهو ترجمة للكلمة
الفرنسية la méthode أو الإنجليزية the method وهما مشتقان من كلمة يونانية
هي methodos وتعني عند أفلاطون : البحث , النظر , المعرفة , كما أنها
غالبا ما تعني عند أرسطو : البحث . ونستنتج من معناها الأصلي اليوناني معنى
اشتقاقيا هو : الطريق المتبع للوصول إلى الهدف المنشود رغم الموانع
والصعاب , وإذا تصفحنا المعاجم اللغوية للبحث عن مدلول المنهج فإننا نجد
مجموعة من الدلالات اللغوية وكلها تحيل على الخطة والطريقة والهدف والسير
الواضح وهذا يعني أن المنهج هو خطة واضحة ومضبوطة بمقاييس وقواعد تؤطرها
خلفية فكرية وفلسفية و ينطلق من مجموعة من الفرضيات والأهداف والغايات ويمر
عبر سيرورة من الخطوات العملية والإجرائية قصد الوصول إلى نتائج ملموسة
ومحددة بدقة . ولهذا فالمنهج ليس ” مجرد أسلوب أو وسيلة تضبطها خطة وقواعد
تيسر السير في طريق البحث عن الحقيقة وتساعد على الوصول إلى نتائج معينة ,
ولكن كمنظومة متكاملة تبدأ بالوعي والرؤيا المشكلين لروح المنهج وكنه
اللامرئي , وتنتهي بالعناصر اللازمة لتحقيق ذلك الوعي وتلك الرؤيا من خلال
الكشف والفـحص والدرس والتحليل والبرهنة , للإثبات أو النفي “(3) ويرى
البعض أن ” العلم هو المنهج , والمنهج هو جميع الخطوات التي يتبعها الباحث
لاكتشاف أسباب وجود ظواهر أو حقائق معينة بواسطة الأدلة والمنطق , فالمنهج
كما هو واضح ليس مادة أو موضوع البحث أو الحديث أو المقال , وإنما الكيفية
أو الطريقة التي عالج بها الدارس المادة أو الموضوع الذي بين يديه , فهذه
الطريقة أو تلك الكيفية هي وحدها التي تحدد لنا إذا كان هذا العمل عملا
علميا أو غير علمي ؟ وإذا كان علميا فهل يصنف في صفوف العلم الحديث أو
العلم التقليدي ؟ ” (4)
ولأهمية المنهج وخطورته يرى البعض أنه
المقياس لمعرفة ثقافة الشعوب والأمم فإذا أردنا التعرف على طبيعة ثقافة ما ,
فعلينا أن نتعرف على طبيعة مناهج الباحثين في هذه الثقافة , ذلك أن المنهج
هو محصلة التفاعل بين إطار ثقافة الباحث الخاصة , وبين إطار ثقافته العامة
, فالمنهج تعبير واضح وصريح عن درجة تخلف الثقافة أو تقدمها , وطبيعي أننا
نقصد بثقافة الباحث الخاصة حصيلة المعرفة الأدبية أو العلمية التي يحصل
عليها من خلال مطالعاته ودراساته ومعارفه الخاصة , وبثقافته العامة كل
العناصر التي تشكل البنية العامة للفكر واللغة والقيم والسلوك والرموز
والأساطير .(5)
إشكالية المنهج : عرفت الساحة النقدية في
العصر الحديث تهافتا كبيرا على استيراد المناهج والمذاهب والتيارات
المختلفة كتهافتها على استيراد السلع والبضائع دون قيد أو شرط , ودون معرفة
دقيقة بهذه المناهج وبالبيئة أو التربة التي أنبتتها , و الظروف التاريخية
والمعرفية التي أوجدتها , و الملابسات النفسية التي خلقتها , مما أوقع
النقاد في اضطراب كبير , فالمتأمل في المحاولات النقدية التي وظفت المناهج
الغربية المستوردة في دراستها للأدب العربي يلحظ ذلك الاضطراب والقلق الذي
يطبع تلك المحاولات فجاءت تطبيقاتهم تتسم بالنقص والابتسار .
فالكثير من النقاد ينظرون للمنهج على أنه
مجرد أدوات إجرائية في دراسة النصوص والموضوعات جاهلين أو متغافلين أن ” كل
مصطلح أو منهج إلا ويحمل في أحشائه , حتما خلفية فكرية , تختصر نفسها ,
ورؤيتها , وتحليلها , من خلال المصطلح النقدي , والمنهج الذي يلائمه
ويستعمل في إطاره , ويتبادل الخدمة معه ” (6) ففهم المنهج على أنه مجرد
أدوات هو فهم سطحي , وتمثل ناقص للمنهج وطبيعته , وفي هذا الموضوع يقول
الناقد عباس الجراري : ” لقد شاع أن المنهج مجرد وسيلة للبحث عن المعرفة ,
وفحصها , أي مجرد خطة مضبوطة بمقاييس , وقواعد , وطرق تساعد على الوصول إلى
الحقيقة , وتقديم الدليل عليها , هذه مجرد أدوات إجرائية , وهي في نظرنا ,
لا تمثل إلا جانبا واحدا من المنهج , أقترح تسميته بالجانب المرئي في
المنهج ” (7) إلى أن يقول : ” ولكن هناك جانب آخر غير مرئي , باعتبار
المنهج , أولا وقبل كل شيء , وعيا ينطلق من مفاهيم ومقولات وأحاسيس ذاتية ,
وتنتج عنه رؤية , ويتولد تصور وتمثل للهدف من المعرفة , من هذين الجانبين :
المرئي واللامرئي , يتكون المنهج – أي منهج صحيح – من حيث هو منظومة
متكاملة ومتناسقة ” (8) ويفهم من هذا أن طبيعة المنهج تتكون من قطبين اثنين
هما القطب الظاهري والمتمثل في الأدوات الإجرائية , والقطب الباطني
والمتمثل في الخلفية الفكرية أو الفلسفية التي يستند عليها المنهج , وما
القطب االظاهري إلا ترجمة علمية وإجرائية للقطب الباطني أو هو الإجابة
الصريحة على الأسئلة الضمنية التي يطرحها القطب الباطني ,فإذا أخذنا مثلا
نموذج التصنيف الثلاثي للمناهج ( داخلية , خارجية , توفيقية ) الذي وضعه
الناقد المغربي الدكتور أحمد الطريسي أعراب في كتابه (التصور المنهجي
ومستويات الإدراك في العمل الأدبي والشعري ) ” نلاحظ أن المكونات الظاهرية
لكل واحد منها , تتماشى في العمق ونوعية الرؤية الخفية المؤطرة له , بحيث
يستحيل الجمع مثلا بين المكونات الظاهرة لمنهج ما , والرؤية اللامرئية
لمنهج آخر , ولا توظيف الخطوات الإجرائية لمنهج معين , في إطار خلفية نظرية
مرتبطة بمنهج مخالف , لما يمكن أن يتولد عن ذلك من تشويه وتلفيق بين وجهي
المنهج , الظاهر والخفي , والتي من المفروض أن تطبع العلاقة بينهما انسجام
وتناسق تامين , بشكل يسمح بتحقيق أنسب للأهداف والغايات المرسومة له , مما
يعكس أهمية الدور الذي يلعبه القسم الخفي من كل منهج , في قسمه الظاهر ,
ويحقق الاستيعاب الشامل والكلي للمنهج , روحا وجسدا , بعيدا عن كل تصور
جزئي قاصر .(9)
وتكمن قيمة المنهج فيما يحمله من قوة
إجرائية بغض النظر عن خلفيته الفكرية وشحنته الأيديولوجية ومن ثم تظهر
صلاحيته عند التطبيق , فالحكم المسبق على هذا المنهج أو ذاك بالسلب أو
الإيجاب هو أحد مظاهر الأزمة التي تعصف بالخطاب النقدي العربي الحديث ,
فهناك من النقاد من يجاهر بمعاداة منهج أو مناهج بحجة أنها تستند إلى
التراث وتلتمس الحل في كل قديم , رافعا راية الحداثة معتقدا أنها الثورة
على كل قديم , وفريق آخر يتخندق داخل التراث معاديا لكل وافد جديد .
والحقيقة أن الخطاب العربي الحديث بصفة عامة في مجال النقد والفكر والثقافة
والمجتمع والسياسة عرف اتجاهين مختلفين , واندرج تحت كل اتجاه تيارات
كثيرة , ومذاهب عديدة , من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار مما أحدث أزمة ”
أدت من جملة ما أدت إليه إلى التمزق والخلاف , وقد حسب قوم أن هذه الفوضى
مرحلة انتقالية ستفضي عاجلا أم آجلا , إلى النظام والانتظام , قياسا إلى ما
عرفته الأمم الأخرى من مراحل فوضوية سبقت نشوء نظام جديد كان يبحث عن
شرعيته …لكن المقلق أن مرحلة الفوضى العربية , إن صحت التسمية قد تطاولت ,
وما زالت تتفاقم منذ عقود ” (10) منذ حملة نابليون على مصر وما صاحبها من
انقسام بين المفكرين , وما تولد عنها من إحساس فظيع بين عالم غربي ينهض
ويحقق نجاحات في كل الميادين بما فيها الأدب والنقد , وعالم شرقي أفل نجم
حضارته وراح يغط في سبات عميق , وهذا الإحساس الفظيع وربما الإحساس بالنقص
هو الذي أدى في الأخير إلى أن يتهافت فريق من المفكرين والمثقفين والنقاد
إلى استيراد ثقافة الغرب المعلبة ومنها المناهج النقدية بحجة وبغير حجة
وهنا تمتثل أمامنا مقولة ابن خلدون : ” إن المغلوب مولع – أبدا – بالاقتداء
بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده , والسبب في ذلك أن
النفس –أبدا – تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه , إما لنظره بالكمال
بما وقر عندها من تعظيمه , أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي ,
إنما هو لكمال الغالب , فإذا غالطت بذلك واتصل لها حصل اعتقاد فانتحلت
جميع مذاهب الغالب وتشبهت به , وذلك هو الاقتداء , أو لما تراه , والله
أعلم , من أن غلب الغالب لها ليس بعصبية ولا قوة بأس , وإنما هو بما انتحله
من العوائد والمذاهب تغالط أيضا بذلك عن الغلب , وهذا راجع للأول “(11)
وهكذا تسرب للثقافة العربية شعار الغرب وزيه ونحلته على حد تعبير ابن خلدون
, فظهرت التيارات والمذاهب والمدارس والمناهج في كل مناحي الحياة
ومجالاتها , وتداخلت وتصارعت دون تمثل جيد أو تلق سليم مما ولد الفوضى كما
رأينا .
وإذا عدنا إلى ساحة النقد فإن هذه الفوضى
تظهر بجلاء من خلال ذلك التباين والاختلاف بين النقاد العرب في تمثل
المناهج الوافدة أو في استلهام مناهج من تراثنا القديم , ومن هنا انقسم
النقاد إلى مجموعتين ” واحدة تعتمد المناهج الغربية الحديثة بكل ما لها من
حمولة حضارية , فكرية وأيديولوجية , تجعل منه خطابا نقديا معربا أكثر منه
عربيا , نلمس آثاره السلبية في شكل اغتراب جزئي أو كلي , يطبع مختلف أطرافه
, موضوعا وتأليفا وتلقيا , وأخرى توظف مناهج عربية أصيلة , تمتد جذورها
لتضرب في عمق التاريخ العربي , أيام ازدهار الحركة الأدبية عامة , والنقدية
منها على الخصوص , مع أعلامها المرموقين أمثال الجرجاني والجاحظ وقدامة
وابن سلام إلى آخر القائمة الطويلة ” (12) والسؤال الذي يطرح في هذا المجال
: هل استطاع دعاة الحداثة من النقاد أو من الأدباء أن يؤسسوا قواعد نهائية
للنقد العربي الحديث والمعاصر, وللشعر العربي الحديث والمعاصر بحيث يمكن
القول : هذا هو النقد العربي المعاصر , وهذا هو الشعر العربي المعاصر , لأن
معظم الدارسين العرب يقرون بعدم وجود نقد عربي حديث وإنما ثمة نقد حديث
يقتات على فتات موائد النقد الغربي , وليس ثمة قصيدة معاصرة وإنما ثمة نسخة
مشوهة للقصيدة الغربية , وهل استطاع من جهة أخرى دعاة العودة إلى التراث
أن يستلهموا منه مناهج قادرة على أن تكون البديل الناجح للتيارات الوافدة ,
والمناهج الغربية المستحدثة , وهل استطاعوا أيضا أن يعيدوا استنساخ
السموأل و المهلهل والغطاريف الأوائل .والحقيقة التي أثبتها الواقع وألح
عليها أكثر من ناقد هي أن المنهج النقدي لا يقاس بقدمه أو جدته , وإنما في
تطبيقه وتمثله , والحكم عليه بعد ذلك , وهذا ما ذهب إليه عباس الجراري في
كتابه (خطاب المنهج ) حيث يقول : ” إن قيمة المنهج ليست كامنة فقط في نوع
الأدوات التي استعملها الباحث , سواء أكانت صالحة أو غير صالحة , لمجرد أن
البحث , أو أن موضة تقتضي نوعا ما من المناهج , ولكن قيمة أي منهج رهينة
بما يحققه في نطاق رؤيته وهدفه …وأود أن ألفت النظر إلى قضية أساسية ألح
عليها , وإن أغفلها الكثيرون ممن يأخذون ببعض المناهج , وهي أنه يجب أن
نعترف بتعدد هذه المناهج , وبأننا قد نقبل بعضها وقد نرفض بعضها الآخر ,
ولكننا حين نفعل لا ينبغي أن نراعي منطلقاتها الفلسفية , وإنما علينا أن
نراعي مدى صلاحيتها وطواعيتها لموضوع الدرس “(13) فالمنهج كالكائن الحي
يصيبه ما يصيب الكائن من الأمراض والعلل , ويدركه ما يدرك الكائن من العجز
والشيخوخة فيتحول إلى أشلاء بالية ” لأن المناهج مهما تكن , يأتي عليها يوم
, بعد أن تعطي كل ثمارها , فتفقد خصوبتها وتصبح عاجزة , عن أن تفيدنا بشيء
, أو أن تعرفها بجديد , ولذا فإن أنجع ما يكون حديثنا عن المناهج , ليس في
ضبط قواعده وتحديدها أدق تحديد , ولا عندما يقوم وحده كصرح نسقي أو معياري
, ولكن عندما يكون خصبا هنا والآن .”(14) وانطلاقا من هذا الوعي بالمنهج
وخصوصيته فلا وجود لمنهج صالح على الدوام , وصالح لكل الموضوعات , فما يصلح
الآن قد لا يصلح في المستقبل القريب أو المتوسط أو البعيد , وما يصلح
لموضوع قد لا يصلح لموضوع آخر, فكل موضوع أو نص هو فريد من نوعه , لا يقاس
به غيره , وما ثبت نجاحه في تربة معينة , قد لا يحرز ذلك النجاح في تربة
أخرى , فالمسألة هنا تبقى نسبية , والمحك الحقيقي , والفيصل في هذه المسألة
هو التطبيق كما قلنا في مقدمة هذه الدراسة ” ونحن حين ننظر في محاولات
نقادنا في المرحلة الحديثة المعاصرة نجد أنهم سعوا إلى التوسل ببعض مناهج
النقد الجديد التي أعطت ثمارا كلية أو جزئية عند الغربيين , ولكن سعيهم لم
يتجاوز التجريب الذي لم يتح له أن يتم دون الوقوع في الخلل , وهو خلل مرده
إلى أن التطبيق لم يكن متقنا وسليما . وما كان له أن يأتي على الوجه الأنسب
بسبب الاختلاف الذي يمس نوع المعطيات ومدى تأثيرها حين تكون مستخلصة من
بيئة ويحـاول إلصاقـها ببيئة أخرى من جهة , والذي يمس طـبيعة التعبير
وأداتـه وكل ما يرتبط بهما من جهة أخرى “(15)
ومادامت الساحة الفكرية بصفة عامة ,
والساحة النقدية على وجه الخصوص , تضم هذين الفريقين فالمعول عليه في هذا
المجال هو خلق ثقافة الحوار بين المناهج المختلفة , والتيارات المتنوعة ,
والمدارس المتعددة , وهو حوار يتقاطع مع حوار الحضارات والثقافات , ويفضي
إلى نزع فتيل التوتر بين الفريقين , ويكون في الأخير سبيلا لحل هذه الأزمة
المتعددة الجوانب , ذلك أن ” قضية المنهج في طليعة اهتمامات الدارسين
والنقاد العرب , إذ يرونها حجر الزاوية لتجاوز الأزمة التي يعانيها الفكر ,
وكذا تخطي الواقع في شتى مظاهر معاناته , إلا أن عرضها مفصولة عن السياق
المعرفي ومجموع مكونات الذات وحواجز الإبداع , يجعل التناول مبتورا لا يفضي
إلى رؤية صحيحة ومتكاملة , تبلور حقيقة المنهج , وتتيح التحكم فيه بحل
إشكاليته ” (16) فأزمة المنهج جزء من الأزمة الشاملة وأي علاج يتناول
المنهج معزولا عن سياقه العام يكون العلاج ناقصا مبتسرا وربما فاشلا مميتا .
ومرد ذلك أن اختيار منهج معين , أو مجموعة من المناهج , إنما ينطلق من
قناعات معينة لها مرجعيات أيديولوجية , ومن ثم فالاختيار ليس بريئا ولا
عفويا .
إن الانغلاق داخل التراث والتقوقع فيه ,
وحفر الخنادق وإقامة الحصون والقلاع للمحافظة على الخصوصيات الدينية
والقومية , ومواجهة ما كان يسمى الغزو الثقافي لم يعد اليوم لعبة تسلي
خصوصا في عصر ثورة الاتصالات والمعلومات , ثورة الفاكس والانترنت وأطباق
البث والالتقاط , حيث فقد المكان معناه يوم فقد حدوده بفعل الوسائل العابرة
للحدود وهذا ما عناه بول كينيدي حين قال : ” سوف ينزعج معظم الناس إلى حد
كبير إذا ما واجهتهم تلك الفكرة التي تقول إن الدولة القومية في طريقها لأن
تغدو شيئا من مخلفات الماضي ” (17) , وفي مقابل ذلك فإن الارتماء في أحضان
الآخر , والانسلاخ من التراث , والوقوع في براثن التبعية والاستلاب ليس هو
البديل لمواجهة هذه التحديات , ولاشك أن المنطق السليم , والواقع الراهن
يرفضان هذين السبيلين لعقمهما . ولعل حل هذا الإشكال الحضاري في ظل الموجة
الحضارية الثالثة وهي الموجة المعلوماتية بعد أن تخطى العالم الموجة
الحضارية الثانية وهي الموجة الصناعية هو الانفتاح المقيد “بشروط موضوعية
تضبط حدوده وتوجهاته , وتحافظ للذات على خصوصياتها وتمايزها , التي بدونها
لن تجد مكانا في الخريطة الحضارية الكونية , شريطة أن لا تبلغ هذه المحافظة
حد الانغلاق فتنقلب لتقوقع يسد الأبواب ويكرس التخلف ” (18) وأن لا يبلغ
هذا الانفتاح حد الانسلاخ فينقلب إلى انفتاح يكسر الأبواب ويهدم الخصوصيات .
لاشك أن الانفتاح المقيد بشروط هو الحل
التوفيقي الذي يأخذ بعين الاعتبار الوضع الحضاري الحالي بكل أبعاده وسماته ,
بين تراثنا القديم الذي هو من إفرازات الماضي الذي لم يعد له وجود , من
جهة , والحضارة الغربية الحديثة التي تتجاوزنا معطياتها بمراحل كثيرة , من
جهة أخرى مما سيعمل دون شك على تمكيننا من قواعد المعرفة المعاصرة , ويرسخ
جذورها في تربتنا , بعيدا عن التبعية و الاستلاب (19) وفي اختيارنا لهذا
الحل التوفيقي يجب أخذ الحيطة والحذر حتى لا نسقط في التلفيق بدل التوفيق .
وهذا يتطلب أمرين : ” أولهما الرجوع إلى تراثنا العلمي وسبر أغواره ,
واكتشافه من جديد لحصر العناصر المعرفية والمنهجية , واستحضار ما هو منها
حي وملائم لتوظيفه كما هو , أو ما هو قابل للتطوير قبل التوظيف , وكذا
لاستخلاص ما هو صالح لننطلق منه أو نستوحي أو نستمد بعض ما يقوي فينا قدرة
الإبداع أو يفتح أبوابه . وثانيهما : التفتح بوعي وعمق وحرية على تراث
الغرب , وبجد , في شتى نواحيه ومختلف ميادينه , ليس لمجرد إتباعه والبقاء
في مؤخرة الركب لاهثين خلفه , ولكن لاكتساب المقومات التي أهلته للتقدم ,
وامتلاك المفاتيح التي يبقى مسدود أي باب في وجهه يريد دخوله وارتياده ,
وبدون هذا الامتلاك وذلك الاكتساب سوف نظل مجرد مستهلكين لما يتبقى من فتات
يلفظه الغير , إن إجراء هذه العملية يتطلب وسائل وإمكانيات , تقوم على مدى
إحساسنا بالواقع الذي نعيشه , ومدى الرغبة في تغييره , والقدرة على هذا
التغيير , كما تقوم على معرفتنا بالذات والكيان , وتحديدنا للغايات
والأهداف , ونظرتنا الموضوعية للآخر في غير قبول أو رفض مسبقين , وتقوم قبل
هذا وبعده على الوعي الصحيح بالعملية لفهمها وإدراكها واستيعابها , في
حقيقتها وعمقها , بعيدا عن أي جدل عقيم , لا يستند إلا على مجرد التحيز
والخصومة , وتلكم إشكالية أخرى “(20) .
وإذا حصرنا الحديث الآن في المنهج فهذا
المنطق نفسه يقتضينا أن ننظر إليه نظرة معتدلة , فنعيد قراءة التراث برؤية
جديدة قائمة على أسس علمية تأخذ بعين الاعتبار أن في تراثنا صفحات مشرقة
ومضيئة في مجال الأدب والنقد يمكنها أن تكون منطلقا ومرجعا نستأنس به في
مقاربة ما نتلقاه من الآخر الذي يبهرنا بثقافته منذ الحملة النابليونية
وإلى الآن , وليس التلقي عن الأخر عيبا وإنما العيب أن نفقد خصوصيتنا ” لقد
أفاد النقاد العرب القدامى الذين يشكلون تراثنا النقدي من النقد اليوناني ,
ولكنهم ظلوا يحتفظون بخصوصيتهم اللغوية والحضارية وبهويتهم فعكست نقودهم
لغتهم ولغة إبداعهم وجسدت خصوصيتهم القومية والحضارية .” (21) كما أن في
تراثنا ركاما ثقافيا لم يعد اليوم له نفع , والاشتغال به يعد ضربا من الترف
الفكري , كما يجب أن نعيد تشكيل استراتيجيتنا في تلقي ثقافة الآخر حتى لا
نقع في فخ التبعية والاستلاب , وكلما تسلحنا بهذا الوعي كلما كان تلقينا
للمناهج مفيدا و نافعا .