الانحطاط الأخلاقي لنخب الحكم العربية
الأحذية ردا على جبروت الحكام.. (رويترز) |
محمد دحنون
11/02/2011
في
المبدأ، لا يمكن اعتبار النخب الحاكمة في العالم العربي بأنّها، جوهرياً،
فاسدة أخلاقياً. كلام كهذا يسمح بإخراجهم، كأفراد، من (الطبيعة البشريّة)،
الأمر الذي قد ينقلب على القائل به ليصير مثلهم.
لكن، وفي المبدأ أيضاً، لا يمكن المرء سوى أن يبدي المزيد من الدهشة
والكثير من الغضب حيال ما أبدته تلك النخب أو، تحديداً، حيال ما تعرضه في
هذه اللحظات من مستوى الحضيض الأخلاقي الذي وصلته. الأمر ليس بجديد بالطبع،
على العكس، إذ أن مجمل الانتقادات أو ما يمكن أن يسمى "أدبيات المعارضات
العربية" تتمحور حول شيء كهذا، فقد حاولت النخب المثقفة في تلك المعارضات،
بالتحليل الفكري وبأدوات معرفية، أن تفكك هياكل السلطات القائمة وتكشف عن
مرتكزاتها، لتصل إلى نتيجة شبه موّحدة: إن السلطات الحاكمة في الدول
العربيّة فاسدة تكوينيّاً كطبقات حكم وليس كأفراد، بمعنى أنها فاسدة منذ
لحظة اعتلائها سدة السلطة، وخاصّة فيما يتعلق بالطريقة التي أمسكت فيها
بزمام الحكم، يتساوى في ذلك الجميع دون استثناء.
لكن هل من جديد تكشّف في خضم الثورتين المجيدتين التونسية والمصرية؟ ليس
بالشيء الكثير، لكنّ ثمّة ما هو جديد ويستحق الملاحظة على الأقل. ويمكن أن
يختصر بحال التردي الأخلاقي والخراب الروحي والنفسي والعمى الذهني الذي وصل
إليه أفراد النخب العربية الحاكمة. تردي وخراب وعمى ساهمت أو عملت تلك
النخب على إشاعته في أوساط عريضة من مجتمعاتها وحكمتها به ومن خلاله. إذ أن
المحكومين يعاد إنتاجهم على شاكلة الحاكمين وليس العكس صحيحاً بمعنى أنّه
ليس "كما تكونون يوّلى عليكم" بل "كما يكون ولاتكم تصيرون".
في المثال التونسي، تبدو نهاية الديكتاتور الجبّار المتغطرس كاريكاتورية
بعض الشيء، فالرجل الذي حكم البلد الصغير والجميل بقبضة من حديد وسحق معظم
معارضيه وحوّل البلاد على المستوى الإعلامي داخلياً إلى أقفاص ببغاوات
وخارجياً إلى منطقة (يحظّر فيها التصوير أو الاقتراب)، وأنشأ بمعونة كريمة
من زوجته، طبقة من تحالف المال والسلطة جلّها من الأقارب والمحاسيب، رجل
كهذا لم يختر طريقة أخرى لمواجهة مسؤولياته التاريخية أمام شعب ثائر سوى...
الهرب. أي جبن وضعف وقدرة بائسة على تحمّل المسؤوليّة الأخلاقية؟ أي صورة
كاريكاتورية مضحكة بدا فيها الطاغية التونسي في لحظات طيرانه بحثاً عن ملجأ
لم يتوفر، طبعاً، إلاّ في السعودية، مملكة القهر والظلام.
أمّا في مصر، فتبدو الصورة مختلفة بعض الشيء، لكن الجوهر واحد. إذ يمكن
الحديث مطوّلاً عن "صلابة" و"رباطة جأش" حسنى مبارك، لكنّ ما يفرغ هذه
القيم من مضامينها الأخلاقية هو الثمن الذي يدفعه شعب بأكمله في سبيل (خروج
مشرّف) لشخص غير شريف، إذ تتحوّل تلك القيم إلى نقيضها المباشر لتعطي صورة
عن الجزع وفقدان القدرة على المواجهة الأخلاقية مع الذات أوّلاً ثمّ مع
الشعب، فالمواجهة لا يمكن أن تحيل أو أن تعبر عن مضمون أخلاقي إلاّ بقدر ما
تتضمن من الشعور بالمسؤوليّة تجاه من يدفع ثمنها، أي تجاه ضحاياها.
ما يحدث في مصر اليوم بسيط وعظيم ومحزن في آن، شخص واحد يستخدم أساليب غير
شرعية، قذرة، وعدوانية، بهدف الاحتفاظ بسلطة غير شرعية، في مقابل شعب كامل
يدافع عن حقوقه وأحلامه ويسعى لتحقيق مطالب شرعية بأساليب شرعية، راقية،
وحضارية. فاللحظة التاريخية التي يعيشها الشعب المصري تضع النظام ورأسه في
وضع مفارق: إذ أن ما فعله النظام المصري خلال ثلاثين عاماً يتطلب تنحيه
رأسه حالاً، وإن ما فعله ويفعله الرئيس المصري حالياً يتطلب أيضاً تنحيه
حالاً؛ بعبارة أخرى على حسني مبارك أن يستقيل، اليوم، مرتين، وبلغة الثورات
عليه أن يكف عن البحث عن (الخروج المشرّف) من السلطة، وأن يسعى إلى الخروج
قبل أن تصله رصاصة الرحمة، التي يستجديها، دون أن يعي ذلك!
أمّا في اليمن والجزائر وباقي الدول العربيّة، فتكشف هرولة قادتها إمّا
لاستعادة لغة الإصلاح أو الشروع في بعض جوانبه إلى شيء واحد على الأقل
اسمه: الجبن، السلطة تخاف الشارع وتستعد للانصياع (بقدر لا بأس به من
التذلل بالمناسبة) إلى مطالبه.
في المحصلة النهائية، إن الحجْر السياسي الذي مارسته السلطات العربية
طويلاً على مجتمعاتها، كان لا بدّ له من أن ينعكس على "عقلها السياسي" الذي
أصيب بشيء من الشلل، حدث ذلك خلال عقود وهو يحدث اليوم، وبالنتيجة فإنّ
تلك العقول التي تعجز عن التفكير بـ "السياسة" (بالمعنى النبيل والأخلاقي
للكلمة) لا يمكن لها، ولا يحق لها، أن تسوس مجتمعاتها في أي ظرف أو بأية
صورة، اللّهم إلاَ بالقوة العارية، التي لا تتمتع سوى بفضيلة واحدة: لا
تدوم لأحد، إذ أنّ دوام الحال من المحال!