أمام الضربات العقلانية المتتالية التي يتلقّاها الفكر الأصوليّ (أو
بالأحرى اللافكر)، فإنّه يحاول أن يلجأ اليوم إلى أساليب وخدع جديدة كيلا
يندثر نهائيا من على وجه الأرض. مثلما هناك كوكا كولا خفيفة (لايت)، يحاول
كثيرون تسويق أصولية لايت أو إسلاموية بقناع إنسانيّ.
حلق البعض لحاهم واستبدلوا جلابيبهم ببدلات وربطات عنق وتحوّلوا إلى
باحثين يقدّمون الخرافة والتخلّف في ثوب جامعيّ مزيّف. خفّفوا من لهجتهم
القتالية السلفية السالفة مطهّرين خطاباتهم من كلمات العنف والجهاد وما
"ملكت إيمانكم"، فلم تعد الغاية "في سبيل الله" جهرا بل من "أجل حقوق
الإنسان" وباسم "القوانين الدولية" و"الموضوعية والبحث العلميّ"!
لا يقدّم هؤلاء أنفسهم كإسلاميين يعملون من أجل إقامة الدولة الإسلامية بل
كأناس يملكون معرفة ويدافعون عن حرية العقيدة، وقد ذهب بعضهم حتى إلى
القبول التكتيكيّ بالعلمانية لكن العلمانية المنفتحة كما يقولون، والكلّ
يعرف أنّها مجرّد تقيّة يتستّرون خلفها في انتظار توفّر شروط فرض شريعتهم
بحدّ السيف.
تمكّن بعضهم من التسلّل إلى بعض المواقع العقلانية مقدّمين أنفسهم
كباحثين وأساتذة، وهم أساتذة فعلا ولكن يعرف المتابعون قيمة الشهادات
الموزّعة في معظم البلدان العربية وبعض الجامعات الغربية. تمكّنوا من زرع
بلبلة وإسماع صوت النيو-أصولية تحت يافطة البحث والتدقيق في المصطلح
والدعوة لمعارف تراثية لا مجدية على منوال : هل قال الرسول ذلك فعلا وإن
قال ما قصده؟ الخ من المعارف العبثية التي لا تهدف سوى إلى تهميش السؤال
النقديّ الحقيقيّ حول الدين بوصفه إيديولوجيا.
أراد بعضهم نفي كلمة الأصولية من قاموس اللغة العربية وحاول آخرون مثل محمد عابد الجابري نفي كلمة "العلمانية" وهكذا.
تقاسموا الأدوار وإن لم يشعروا، فمنهم من يفجّر، ومنهم من يدعو إلى الدين
الأوحد، والبعض ينتحل الفكر والموضوعية والاعتدال ويحاول جعل مجرّد إيمان
معرفة. باسم الموضوعية وتجنّب التطرّف يحاولون جاهدين تأبيد فقه قتلته
الحياة وغدا مضحكا، يجتهدون لاصطناع الأعذار له.
لا يعتمد الأصوليون الجدد على إرثهم الفكري الإسلامي بل على المواثيق
الدولية المتعارضة تماما مع شريعتهم والتي لا يؤمنون بها أصلا.
حقوق الإنسان! تلك فريتهم الأخيرة..لا حقوق للإنسان في الإسلام وخصوصا إذا
كان إنسانة، حقوق الله هي المنطلق والنهاية، وهو ما يردّده القرضاوي على
قناة الجزيرة دوما إذا يقول إنّ واجب وحقّ الإنسان هو عبادة الله، لا أكثر
ولا أقلّ وكلّ ما خرج عن ذلك فهو باطل لا فائدة من ورائه. فلا قيمة لفنّ
البشرية ولا آدابها ولا علومها! والشيخ محقّ في ذلك فهذا هو الإسلام. ومهما
ادّعى حاملو حقائب الإسلاموية في تهويماتهم وإعادة قراءتهم للنص المقدّس
فإنّ الإنسان في الإسلام هو خادم الدين وليس الدين هو الذي يجب أن يكون في
خدمة الإنسان..
لم تعد محاربة القانون الوضعيّ بالشريعة الربّانية مجدية بل انتقل
النيو-أصوليّون إلى مرحلة الدفاع عن الشريعة بالقانون الوضعيّ. محاربة
الديمقراطية بالديمقراطية ذاتها، كما نراه جليّا كلّ يوم في الغرب. تحت
يافطة حرية الفرد يريدون تلويث الفضاء الأوروبي العامّ بنقاب لا يعني سوى
أنّه سجن متنقّل للمرأة ومحو لهويّتها وإنسانيتها باسم حقوق الإنسان! لنترك
الغرب جانبا فأنا متأكّد أنّ الأمر ذاهب إلى حرب ضدّ كلّ ما ومن له علاقة
بالإسلام إذ لا يُقوِّي كلّ هذا سوى التيارات العنصرية العنيفة ويقدّم لها
أوروبا على طبق من ذهب، فلا أحد يبهجه ما يرتكبه بعض المسلمين من حماقات
مثل الفاشيين الجدد، ولا أحد يستطيع أن ينكر بأنّ صعود النازية الجديدة
وانتصاراتها الانتخابية في كلّ دول أوروبا هو نتيجة أيضا للغزو الإسلاميّ
للقارّة العجوز وردّ فعل طبيعيّ على هجومها الفجّ. فهل يتصوّر عاقل أن تبقى
أوروبا الحرية والعقلانية وحقوق الإنسان التي قدّمت كلّ التضحيات من أجل
تفتّحها والخروج من ظلام المسيحية- مكتوفة الأيدي أمام ظلام الإسلام.
وسواء كانت أصولية مبتذلة أو عرفانوية، فالأمر سيان فهي ضد الإنسان
وتعبّر في كلّ الأحوال عن جوهر الدين الإسلامي الذي يسبّق حقوق الله على
حقوق الإنسان و يرى أنّ العبادة أثمن من الحياة بل إنّ الحياة عبادة لا
أكثر، وأنّ كلّ الحكاية الميتافيزيقية خوف من سعير جهنّم وتلهّف لفضّ
الأبكار في الجنّة. ولكنّ الأخطر أن يستمرّ هؤلاء في فرض إيديولوجية الغيب
وتحويلها إلى برنامج سياسيّ دنيويّ بل إلى ثقافة عامة.
تعاني فكرة المواءمة بين العلم والإيمان، الدين والدنيا، الشريعة
والحياة، التراث والحداثة، وغيرها من الخزعبلات…أعظم محنها اليوم فلم يعد
أحد يستطيع إخفاء عوراتها ولا فرضها بالقوّة البوليسية والإعلامية والمالية
كما كان الأمر جاريا. لقد دقّ الأنترنيت أوّل مسمار في نعش تلك "المواءمة"
المزعومة وسيحفر الواقع قبرها حتما. فليس من الممكن أن يبقى العربيّ
متمسّكا بوهم لم يجنِ منه ولن يجني سوى المآزق والخيبات المتتالية ومزيدا
من الاحتباس العقلاني.