أدب الحوار وآفاقه في السنة المطهرة* إعداد: د. عبدالسلام حمدان اللوح
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله جعل الحوار أسلوباً ومنهجاً مرضياً للوصول إلى الحق الذي يرضاه،
والصلاة والسلام على الحبيب المصطفى الذي سلك طريق الحوار في دعوته، وسنّ
بذلك منهجاً للدعاة من بعده، والصلاة موصلة إلى كلّ من اهتدى بهديه إلى يوم
الدين، وبعد..
فالحوار ظاهرة إنسانية عالمية، وهي سنة إلهية نظراً لتفاوت البشر في عقولهم
وأفهامهم وأمزجتهم، قال تعالى: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ
أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِين * إِلاَّ مَن رَّحِمَ
رَبُّكَ...)([1]).
ونتيجة لهذا الاختلاف في الرأي جاء الحوار وسيلة للوصول إلى الحق والصواب،
وقد ضرب الله لنا المثل برجلين تحاورا، حيث كان لأحدهما جنتان مثمرتان
وفيهما نهر، واغتر بذلك فحاور صاحبه المتواضع فأخبرنا الله عن حوارهما،
فقال تعالى: (فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ
مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً)([2])، فكان جواب صاحبه: (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ
وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن
نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً)([3]).
وقد جاءت خولة بنت ثعلبة تشتكي زوجها إلى رسول الله (ص) وهي تقول: يا رسول
الله أكل مالي، وأفنى شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبرت سني، وانقطع ولدي
ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك، فما برحت حتى نزل جبريل بقوله تعالى:
(قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا
وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ
اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)([4])...
فالحوار إذن له أصل ثابت في منهاج الله قرآناً وسنة، وهو ينطلق من تأثيرات
وأحاسيس تجيش في النفس لإظهار مبدأ، أو تصحيح خطأ، أو نصرة حق أو غير ذلك
مما جبلت عليه النفوس البشرية، والمحاورة والمناظرة والجدل ألفاظ قريبة من
بعضها.
والحوار من أهم وسائل التفاهم بين الناس، وهو من أهم وسائل المعرفة
والإقناع مهما كانت الثقافات والتوجهات، وكذلك من أهم وسائل الدعوة إلى
الله، قال تعالى:(ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)([5]).
ومن هنا كانت الضرورة ملحة للقائمين على الدعوة الإسلامية أن يتقنوا فن
الحوار من أجل الوصول إلى قلوب البشر والتأثير فيها نحو الفضيلة والاستقامة
على منهاج الله تعالى وقد اهتم النبي (ص) بأسلوب الحوار، وجعل منه منهجاً
في خطاباته للناس ودعوته لهم، لما له من أثر وتأثير بالغين في نفوس
المدعوين وعقولهم، ولما له من تحفيز على الطاعات وترك للمعاصي، ولما فيه من
تلقين توجيه تربوي لكل الدعاة والمربين إلى يوم القيامة.
ومن أبرز حواراته (ص) تلك التي كانت بينه وبين قومه المشركين ما يروي ابن
هشام عن ابن إسحاق أن عتبة بن ربيعة كان في نادي قريش فقال: يا معشر قريش،
ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها
شاء ويكف عنا؟ فقالوا: بلى يا أبا الوليد قم إليه فكلمه، فجاء عتبة حتى جلس
إلى رسول الله (ص)، فقال: يابن أخي إنك منا حيث قد علمت من الشرف في
العشيرة والمكانة في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمرٍ عظيم فرّقت به جماعتهم
وسفهت به أحلامهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها
بعضها، فقال رسول الله (ص): قل يا أبا الوليد، أسمع.
قال: يابن أخي، إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من
أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا
نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا، وإن كان الذي يأتيك
رئياً تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى
نبرئك منه، فقال له رسول الله (ص): أفرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم... قال:
فاسمع منى، ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم (حم * تَنْزِيلٌ مِنَ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً
لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ
فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ...)([6])، ومضى رسول الله (ص) في القراءة وعتبة يسمع
حتى وصل إلى قوله تعالى: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ
صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُود)([7])، فأمسك عتبة بفيه وناشده
الرحم أن يكف عن القراءة، وذلك خوفاً مما تضمنته الآية من تهديد.
ثمّ عاد عتبة إلى أصحابه، فلما جلس بينهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟
قال: ورائي أني سمعت قولاً ما سمعت بمثله قط، والله ما هو بالشعر ولا
بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما
هو فيه فاعتزلوه فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه
العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم.
قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم.
ثمّ إن أشراف قريش عادوا فكرروا المحاولة التي قام بها عتبة بن ربيعة،
فذهبوا إليه مجتمعين، وعرضوا عليه الزعامة والمال، وعرضوا عليه الطب إن كان
الذي يأتيه رئيّاً من الجان.
فقال رسول الله (ص): ما بي ما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم
ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليّ
كتاباً، وأمرني أن أكون بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم،
فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه إليّ
أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم.
وبهذا ندرك أن الحوار وسيلة فاعلة في حياة النبي (ص) وهو الأسلوب الأمثل
الذي كان يؤثر به في نفوس أعدائه، يستدرجهم بهذا الحوار حتى يصل بهم إلى
القناعة والاتباع.
وإنّ الحوار الذي وقع في صلح الحديبية بين النبي (ص) ورجالات من قريش
يمثلون وفوداً للتفاوض مع النبي (ص) وكان على رأسهم بديل بن ورقاء الخزاعي،
ومنهم عروة بن مسعود، ومنهم سهيل بن عَمْرٍ الذي كتب الصلح مع النبي (ص)،
كل ذلك قد مثّل فتحاً مبيناً للإسلام والمسلمين.
وانظر كيف حاور الرجل الذي جاء يستفتيه عن امرأته وقد ولدت غلاماً أسود،
فأنكر ذلك فقال له النبي (ص): ألك ابل؟ قال: نعم، قال: فما لونها؟ قال:
سود، قال: هل فيها من أورق؟ قال: نعم، قال: فأنى له ذلك؟ قال: عسى أن يكون
نزعه عرقه، قال: وهذا عسى أن يكون نزعه عرقه.
وإنّ الأمثلة من سيرته (ص) كثيرة لا حصر لها، والمقام لا يتسع لمزيد من
نماذج الحوار التي كان يمارسها المصطفى في كل الميادين والآفاق، وعلى كل
الأصعدة سواء في دعوته أو معاملاته أو أساليب إقناعه، وسواء مع أصحابه أو
أعدائه، وسواء في السلم أو الحرب، وسواء في الرضا أو الغضب.
- أدب الحوار:
إن للحوار آداباً لابد من تحققها أثناء الحوار، لأن الحوار لا يمكن أن يكون ناجحاً ومثمراً إلا إذا توفرت آدابه.
وسنقف على بعض هذه الآداب والأخلاق التي يتحلى بها الحوار الهادف والأدلة
على ذلك من وحي كتاب الله والسنة النبوية وسيرته العطرة، مع عدم الوقوف على
كل دليل لأن ذلك يطول ذكره، ولا ينتهي حصره والمقام يقتضي الإيجاز في
نقاط، والله الموفق والهادي إلى صراط مستقيم، ومن هذه الآداب والأخلاق ما
يلي:
1. الإخلاص في النية من أجل الوصول إلى الحق: فلابد أن يتحلى المحاور بنية
خالصة لنصرة دين الله، وألا يقصد بحواره المباهاة والمفاخرة والانتصار
للذات أو حب الظهور والشهرة، يقول عليه الصلاة والسلام: "إنما الأعمال
بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى..."([8]).
2. البعد عن التعصب للرأي: فلابد أن يكون المحاور ذا رأي مرن يميل مع الحق
ولو كان مع الخصم، وهدف الحوار أصلاً هو الوصول إلى الحق ومعرفة الحقيقة،
فيكون التعصب للرأي ضرراً محضاً لا خير فيه، ولن يحقق هدف الحوار.
3. احترام شخصية المحاور ورأيه: وذلك من خلال الانتباه لكلامه والإصغاء
إليه والابتعاد عن مقاطعته، وعدم اللجوء إلى تجاهله، أو الانشغال بشخص آخر،
أو اللجوء إلى النقد الشخصي، مع ضرورة احترام رأيه، وعدم الإساءة إليه،
وعدم الجواب أو الرد أو التعقيب أو المداخلة إلا بعد أن ينتهي الآخر من
رأيه.
4. الحرص على القول المهذب بعيداً عن الطعن والتجريح: فمطلوب من المحاور أن
يكون مهذباً في ألفاظه، لأن الكلمة الطيبة صدقة، وهي دليل على حسن النية
عند المحاور، كما أن بذاءة اللسان أو التجريح يفسد جو الحوار الهادئ
الهادف، يقول عليه الصلاة والسلام: "ليس المؤمن بطعان ولا لعان ولا فاحش
ولا بذيء"([9]).
5. التزام الطرق الإقناعية الصحيحة: وذلك بالبعد عن المغالطات والمراء
والسخرية، وعلى المحاور ألا يناقض نفسه من خلال أدلته، بل عليه أن يستعمل
الحجة القوية المقنعة، مع اتباع المنهجية العلمية في الحوار وذلك بوضوح
هدفه قبل إجرائه، والبدء في العموميات، والانتهاء بالجزيئات، مع اتساق
الأفكار التي يعرضها، وإصلاح المنطق وتهذيبه، والتسليم بالأمور التي هي من
المسلمات، مع قبول النتائج التي تم التوصل إليها بالأدلة القاطعة.
يقول عليه الصلاة والسلام: "أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً"([10]).
وقال تعالى على لسان موسى (ع): (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي
لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن
يُكَذِّبُونِ)([11]).
6. اعتماد الهدوء والروية والتحلي بالحلم والصبر والوقار: وهذا يعني عدم
التسرع والانفعال والغضب بسبب وبدون سبب، فهذا يعثر الحوار ولا ينجحه،
فالحلم والصبر يعني التجاوز عن أخطاء الخصم والصفح عنها وعدم مقابلتها
بمثلها، ولا يجاري خصمه في الشغب، بل يعتمد الهدوء والوقار.
يقول عليه الصلاة والسلام: "ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"([12]).
7. اعتماد المحاورة بمودة واحترام وترفق: فالمودة والاحترام يخلقان جواً من
الحوار الهادف البنّاء، أما استصغار الخصم المحاور والتهاون به يولد جواً
من العنف وردود الفعل التي لا تحمد عقباها، وإذا تعكر مزاج المحاور فقد فسد
الحوار، وانقلب ذلك إلى الطعن والتجريح والإساءة، ولذلك فقد رغّب النبي
(ص) في الرفق، فقال: "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء
إلا شانه"([13]).
8. الحرية في إبداء الرأي مع حق الدفاع عن وجهة النظر: وهذا حق للطرفين
المتحاورين لأنه لا يجوز لأحدهما أن يمثل إرهاباً فكرياً يضيّق به آفاق
الحوار، ويقتل المواهب والملكات، ولذا يجب تجنب محاورة ذي هيبة لأن ذلك
يؤثر على روح الحوار وغايته المرجوّة.
9. العدل والإنصاف والتزام الصدق: فلابد للمحاور حتى يحقق هدفه بنزاهة
وموضوعية أن يتحلى بالعدل والإنصاف والصدق مع نفسه ومع خصمه، ولا يخضع
لتأثير هوى الذات أو الحزب أو الجماعة، قال تعالى:(وَإِذَا قُلْتُمْ
فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى)([14]).
بل يجب على المحاور إن ظهر الحق على لسان خصمه أن يأخذ به ولا تأخذه العزة
بالإثم، ويرفض هذا الحق، وقد قال الرسول (ص): "الكبر بطر الحق وعمْط
الناس"([15])...
10. أن يكون المحاور عالماً بموضوع الحوار: فلا يدفعه الجهل والمزاج في
سباحة بحر لم يُكلّف بسباحته، فذلك يؤدي إلى هلاكه في العاجل والآجل، وقد
يضيّع الحق بسبب جهله بموضوع الحوار، فالعلم بالشيء بصيرة به، وقد قال
تعالى: (قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ
أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ)([16]).
11. وقبل الختام "الحوار لا يفسد للود قضية": عرفنا من قبلُ أن الحوار أمر
مشروع، وإذا تم الالتزام بكل آداب الحوار سابقة الذكر فإن القلوب تبقى على
صفائها وودها، أما إذا تم التجاوز باستفزاز الخصم والتهكم به وبرأيه
وأدلته، ولم تقم لذلك وزناً فسيقابلك بمثل ذلك، ومن هنا تفسد المودة وتسوء
العلاقة وتنقطع الأواصر، ويغيب هدف الحوار وهو بلوغ الحق، لذا يجب أن يبقى
هدف الحوار قائماً لا يغيب عن جو الحوار، ونية الإخلاص لله ولنصرة دينه هي
الغاية العظمى.
وفي الختام: نقف مع نتائج البحث وثمراته وذلك في النقاط الآتية:
أولاً: الحوار حاجة علمية وضرورية فكرية بهدف اللحاق بركب العالم المتقدم.
ثانياً: غياب الحوار أو رفضه يعني زيادة في التخبط والتخلف والعزلة.
ثالثاً: الحوار الموضوعي يمنع من بروز ظاهرة التطرف السياسي أو الديني.
رابعاً: إن الحوار ليس حلبة ملاكمة يطرح المحاور زميله أرضاً وذلك بالسخرية منه أو التطاول على شخصه.
خامساً: إن الحوار يعني التخلي عن سياسة "أن الآخر مخطئ وأنا المحق الوحيد".
سادساً: فتح أبواب الحوار بضوابطه ومنهجه العلمي يحقق أهدافاً وغايات بناءة.
سابعاً: الحوار أسلوب قرآني نبوي ناجح ومثمر يأسر القلوب ويحركها نحو الفضيلة.
ثامناً: للحوار آداب وأخلاق لابد من التعرف عليها والتحلي بها؛ لأنه