شهد الفكر العربي خلال الثلث الأخير من القرن العشرين تحوّلات في الحقلين
المعرفيّ والسياسيّ، تمحورت أساسا حول نزعته النقدية التي شملت مجالي
النظر والعمل من خلال نقد العقل العربي (مشروع الجابري كنموذج(1))
والإسلامي(مشروع أركون كنموذج(2)) معرفيا، ونقد التجارب والممارسة
السياسية للفعاليات السياسية العربية في التغيير والإصلاح، من قبيل النقد
الذي وجّه للتجربة الناصرية واليسار العربيّ وحركات الإسلام السياسي(3).
وعلى قيمة ما أنتج فإنّ هذه المقاربات اتّسمت بالاجتزاء والانتقاء(4) تحت
وطأة الإيديولوجي والاختيارات المنهجية للباحث في تقويم مستويات النظر
المعرفي والعمل السياسيّ، وهو ما افقد هذا الإنتاج -على أهميته- فعاليته
وفاعليته.
سنحاول البرهنة على قصور النظرة التجزيئية والانتقائية في التقويم سواء
تعلّق الأمر بالتراث (كإنتاج للعقل الإسلامي) أو بالفعل السياسي الحديث
والثقافة التي يصدر عنها.
ارتبطت فكرة التغيير في الفكر السياسي الإسلامي في سياق التجربة التاريخية
بفكرة العدل ونقيضها الجور، باعتبار أنّ العدل مقصد في السياسة، وأنّ
الجور مؤذن بخراب العمران، إلا أنّ حركة الفكر ومستوى استجابته للواقع قد
أنتجا مواقف مختلفة للإصلاح يمكن استعراضها كالآتي:
1) خروج الثائر مطلقا : وهو موقف مرتبط بالتشكّل الفتيَ للدولة في الفضاء
الإسلامي، ويتميّز هذا الموقف بالمثالية والتعالي على مقتضيات الواقع،
ويعبّر عن هذا الموقف ابن حزم حيث يجيز الخروج المسلّح على الحاكم حين
جوره ولو كان فردا واحدا، مستدلا في ذلك بفعل الصحابيّ الحسين بن علي
وتمثّل الزيدية التجسيد التاريخيّ لهذا الموقف.
2) تقييد إجازة الخروج : ويمثّل مرحلة أكثر تقدّما في الزمن، وبالتالي
أكثر خبرة في تعامل العقل الإسلامي مع الواقع، إذ نجد محاولة للتوفيق بين
مُثُل الدين وإكراهات الواقع، ويعتبر كلّ من ابن تيمية وإمام الحرمين
الجويني المعبّرين عن هذا الموقف المتمثّل في إجازة الخروج على الحاكم حين
جوره، لكن مع مراعاة القدرة والاستطاعة باعتبار الفشل الذي تعرضت له ثورات
إصلاحية سابقة.
3) منع الخروج : يمثل هذا المنع موقف المتأخّرين، حيث منع الفقهاء الخروج
على الحاكم الظالم منعا مطلقا معتبرين أنّ عقودا من الظلم أفضل من يوم
فتنة، ولهذا الموقف أثر في ترسيخ فكرة شرعية المتغلب وانتشار الآداب
السلطانية المبرّرة لحكم المتغلّب الظالم، وأنّ من ظهرت شوكته وجبت طاعته
خوف الفتنة(5).
أمّا حديثا، فقد اشتغل الفكر العربي الإسلامي الحديث وانشغل بموضوع الدولة
ومن ثمة اعتبر أنّ الإصلاح "سياسيّ" في جوهره، غير أنّ مسار التفكير في
الإصلاح السياسي مرّ بتحوّلات ثلاثة :
1) مرحلة الوهج الثوري : شهد الوطن العربي إثر هزيمة 48، وعلى امتداد
الستينات والسبعينات من القرن الماضي، صعوداً لتيّارات فكرية وسياسية
اتّخذت من الإيديولوجية الشمولية دافعاً لتغيير جذريّ وانقلابيّ للواقع
واتخاذ العنف الثوريّ والانقلابات العسكرية وسيلة لتحقيق ذلك. اتسمت هذه
التيارات بابتعاد تحليلاتها عن الواقع وتحليقها في عالم المثل
الإيديولوجية وإطلاقها لأوصاف مسقطة على المجتمع لا تعكس حقيقته المركّبة
من قبيل المجتمع الجاهلي والمجتمع الإقطاعي والطبقي و…
2) المرحلة الإصلاحية : منذ أواسط السبعينات وحتى نهاية التسعينات تدعم
هذا التيار خاصة بعد أحداث حماة المروّعة (6) حيث، وباستثناء التجربة
الإيرانية، فإنّ للعمل الثوري حدودا لا يمكنه تجاوزها في ظلّ سيطرة الدولة
الوطنية الحديثة وإمكاناتها الهائلة، وبذلك اتخذ هذا الفكر من الإصلاح
التدريجيّ والسلميّ عبر مؤسسات الدولة خيارا للممارسة الإصلاحية. استفاد
من هذا التوجّه حركات الإخوان المسلمين في مصر والأردن، والجبهة الإسلامية
للإنقاذ بالجزائر، وتيارات يسارية في المغرب الأقصى حيث تواجدت هذه
التيارات في مؤسّسات البرلمان وتلقّى بعضها حقائب وزارية في الحكومة.
3) مرحلة التبرير والاتجاه نحو العدمية :(7) نشأ عن تعثر مشروع الإصلاح
نتيجة الحصيلة الهزيلة للمشاركة السياسية لقوى التغيير من ناحية، وانقلاب
الدولة على صندوق الانتخاب (انقلاب الجيش التركي والجيش الجزائري) أو
تزويره، ومع سيطرة نظام عالمي جديد يؤمن بانتصار أبديّ ووحيد للايدولوجيا
الرأسمالية وسيطرتها على العالم، الأمر الذي دفع عديد النخب العربية تحت
لافتات عقلانية إلى القبول والتسليم بالأمر الواقع على المستوى القطري
والعالمي بدعوى استحالة التغيير وموت الايدولوجيا وتبنّي التكنوقراطية
منهجا في التفكير السياسي، من ذلك ظهور مفردات وتصنيفات جديدة من قبيل
"المعارضة الموالية" و"معارضة الديكور"… ويمكن اعتبار هذا الاتجاه في
الفكر السياسي نوعا من الآداب السلطانية بديباجات عقلانوية تشرّع لخليفة
متغلّب يتربّع على عرشه في البيت الأبيض- بدلا من أن يكون في بغداد أو
دمشق- ويدير من هناك عامليه على الأقطار العربية.
تشير ملامح التقارب في طريقة استجابة كل من عقل" السلف" وعقل الخلف
"الحديث" لتحوّلات الواقع من خلال تتبع مسار التفكير في الإصلاح (مرحلة
ثورية مثالية، ثم مرحلة إصلاحية توفيقية، فمرحلة تبريرية وتسليم بالأمر
الواقع) إلى ترابط وتشابه يدلّ على وحدة مسار العقل العربي الإسلامي في
التاريخ، واحتفاظه بنفس البنى المنتجة للمعرفة والثقافة والسلوك السياسي.
أما عن الترابط للفعل السياسي الحديث فقد مثّل الإصلاح السياسي من خلال
مطلبي الحرية والدستورية نقطة لقاء بين مختلف التيارات السياسية المكوّنة
للحركة الوطنية زمن النضال التحرري ضدّ المحتلّ، سواء تعلّق الأمر
بالإصلاحية الإسلامية أو الليبرالية آنذاك، في إجماع على اعتبار الاستبداد
والسلطة المطلقة سببا رئيسيا في الانحطاط الحضاري ومطالبة بضرورة تقييد
السلطة بالشريعة والقانون.
كما تلتقي هذه التيارات في سيطرة فكرة الحزب الواحد ورفض التعددية في
خطابها السياسي لا فقط عند التيار الإسلامي (من خلال موقف حسن البنا من
التعددية الحزبية) بل كانت فكرة سائدة وثقافة سياسية لدى مختلف التيارات
الفكرية والسياسية، حيث تبرز هذه الثقافة من خلال اعتبار الوفد مثلا
لزعيمه الحزبي سعد زغلول زعيما لمصر، واعتبار زوجته صفية زغلول أمّا لكل
المصريين، وفي تجربة الضبّاط الأحرار التي ألغت العمل بالنظام التعددي
وحظرت الأحزاب. نستنتج من ذلك الاتفاق الحاصل لدى مختلف التيارات السياسية
حول ضرورة التوحيد الوطني النضالي ضدّ المستعمر ممّا أدّى إلى عدم استساغة
العقل السياسي في تلك المرحلة للتعددية في رؤيته للمجال السياسي.
ولئن اتفقت التيارات السياسية على أولوية ما هو سياسي ومطلبيِ الحرية
والدستورية، فانّ مظاهر التراجع عن هذه الأولوية والتقهقر عن هذه الشعارات
كان عامّا، إذ كما تراجع الفكر الإسلامي عن التوجّهات الإصلاحية الإسلامية
خاصة مع منتصف الخمسينات وبداية الستينات مع مقولة الحاكمية، فقد شهد
الفكر العلماني تراجعا عن استناده لمرجعية "عصر الأنوار" الليبرالية نحو
فكر الماركسية اللينينية والمادية الجدلية، ممّا وفّر أرضية معرفية لرواج
مقولات المستبدّ العادل والقائد الضرورة.. ترافق ذلك مع تحوّل عن
الدستورية والحكم المدني إلى العسكرية وحكم الضباط، وتحوّل عن أولوية
السياسي إلى أولوية الاقتصادي في رؤيته الإصلاحية.
نستنتج أنّه، وكما لم تدخل المسيحية تحولات جذرية وجوهرية في العقل
الأوروبي وتنزعه عن يونانيته الأصيلة والمتجذرة في أعماقه، فإنّ المشارب
والمساحيق الأيديولوجية المختلفة لم تقدر على تغيير بنى التفكير المتجذرة
في العقل العربي الإسلامي عبر التاريخ، وذلك ما نعتقد أنّه يفسّر التشابه
الكبير في الثقافة والسلوك الناتجين عن النظر المعرفي والعمل السياسي
العربي الحديث، رغم اختلاف المرجعيات المؤطًرة لهذا السلوك ليبرالية كانت
أو يسارية أو إسلامية .
وإن كانت هذه التحولات تؤكد استجابة العقل العربي الإسلامي لتغيّر
إحداثيات الواقع وعامل الزمن وتطور التجربة التاريخية، إلا أنّه يؤكّد
انتماء العقل العربي وانتظامه في ابستام (épistème)معرفيّ واحد، سواء
تعلّق الأمر بالخطاب الإسلامي أو العلماني الصادر عنه، أو تعلّق بعقل
"السلف" والعقل العربي الحديث، حيث يشمل الجميع ترابط الآليات والبني
المنتجة للمعرفة. ومن ثمّ فإنّه من الضروريّ النظر إلى الثقافة العربية
الإسلامية نظرة كلية لا تجزيئية أو انتقائية باعتبار وحدة العقل العربي
الإسلامي المنتج لتلك الثقافة وذاك التراث.
إنّ القانون المعرفي الذي حكم التجربة التاريخية للعقل العربي الإسلامي
ولا يزال، هو قانون "التراكم المعرفي" ووحدة العقل من حيث آليات استجابته
للواقع، وبالتالي فإنّ المبدأ الذي نظم مختلف إحداثيات العقل الإسلامي هو
الارتباط وليس القطع .
نخلص من ذلك إلى:
1) ضرورة تجاوز النزعة المضمونية (8) في تقويم التراث والاشتغال أكثر على
الآليات والوسائل التي اعتمدها العقل العربي الإسلامي في إنتاج تلك
المضامين، ونتبيّن كذلك لزومية تجاوز النزعة التجزيئية والانتقائية
واستبدالها بنظرة تقويمية تأخذ بعين الاعتبار شمولية التراث محل التقويم
وترابطه.
2) الانتباه إلى مزيد تعميق فكرة الإصلاح في الثقافة العربية الإسلامية،
وضرورة التنبه إلى إمكانية انزلاق الفكر تحت وطأة الواقع إلى تكريس "الأمر
الواقع"، وهو ما يسهل الاندفاع تحت وقع الشعور بالعدمية إلى سلوكيات عنفية
وعشوائية .
3) ولئن كان العنف هو الوسيلة الوحيدة في التغيير عبر التجربة التاريخية
المحكومة بالأفق المعرفي وشروطها التاريخية، إلا أنّه يجب تأصيل الوعي
المدني والممارسة الإصلاحية السلمية في السلوك والثقافة المجتمعية بعيدا
عن العنف وعن السلبية.
إن الإصلاح بهذا المعنى هو إصلاح ثقافي في عمقه، إذ يبحث في تقويم آليات
اشتغال العقل وإصلاح منهج التفكير الكفيلين بإنتاج وعي إصلاحي مدني وسلمي.
الأحد يوليو 19, 2015 10:48 am من طرف عمرون محمود