بن عبد الله مراقب
التوقيع :
عدد الرسائل : 1537
الموقع : في قلب الامة تعاليق : الحكمة ضالة الشيخ ، بعد عمر طويل ماذا يتبقى سوى الاعداد للخروج حيث الباب مشرعا تاريخ التسجيل : 05/10/2009 وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 8
| | دولة الاساس القويم .. وهذا الجيل | |
[b]الإنتماء الوطني والحضاري هو الاساس في اي عملية بناء شاملة ، و لو اردنا وبصورة مباشرة الدخول في صميم هذه الإشكالية عبر التساؤل : كيف يمكن للجماهير العربية ان تبني دولها على اسس عصرية قوية ومتينة وسليمة ؟ فإن الجواب الكلاسيكي من غالبية النخب سيكون : " ثقافة التحرر " كأسس فكرية وثقافية تقود للبناء التحتي والفوقي للدولة الذي سيتمثل اخيراً بالديمقراطية في الحقل السياسي ، و الانفتاح الثقافي والاقتصادي وتحقيق دولة الرخاء والازدهار .. لان جل النخبة المثقفة ترنو بعيونها نحو " الغرب " ، يختزل هذا المشهد المرئي المحسوس الملموس في الدول الغربية .. حيث اجواء الحرية السياسية والفردية وسيادة القانون .. في حقيقة الامر ، الانتلجنسيا الغربية و حسب ما يدور في فلك اروقتها منذ الاستشراق وحديثاً ، خصوصاً ابحاث و تقارير مراكز دراساتها المختلفة المتنوعة ، تجد بأن المجتمع الشرقي يميل إلى " الحسية " وما تنتجه من عاطفية تحسب " النتائج " المعاينة على إنها اسباباً جوهرية ...! (1) النخب الغربية النافذة والعاملة في الظل وحدها تعلم بان الديمقراطية الغربية ومن تحتها ثقافة التحرر هي اصلاً نتائج لتفاعلات مكونات بنيوية اعمق في جسد التاريخ الغربي .. لا تراه النخب الإعلامية ذات الثقافة " الاستهلاكية " في الغرب التي تتلمذت على يدها النخب العربية بوجه التحديد و تأثرت بها ..سواء كانت ليبرالية او يسارية وماركسية .. (2) هذه المكونات تمثلت في مسار تاريخي طويل من التفاعلات عبر قرون طويلة ، إلا إن " الحسية " التي تنعكس كثقافة استهلاك سواء في الشرق او الغرب هي التي تقوم باختزالها في مشهد الصراع الثقافي مع الكنيسة منذ الإصلاح الديني مروراً بالنهضة فالتنوير دون إلتفات إلى حقيقة " النزعة الإنسانية Humanitarianism " وجذورها المتأصلة في الثقافة الإغريقية القديمة ...! ربما هناك من ذهب بان " الديمقراطية " اصيلة في الثقافة اليونانية ، لكن هذه المسالة تقبل الجدل والتحليل والرد بعدة جوانب لسنا في محل نقاشها اليوم ، ما يهمنا هو " الحجر الاساس " في بناء الثقافة والدولة على حدٍ سواء وهو ... الإنسان .. الذي لا يمكنه ان يعيش في وعينا الجمعي دون جذور تاريخية عريقة .. فهاجس " الإنسانية " هو هاجسٌ قديمٌ في وعي الشعوب والامم ، وليس اختراعاً جلبته الحداثة التي استنبطته في الغرب من تراث اليونان والرومان والمسيحية واعادة انتاجه بما يتلائم وواقع التطور الاقتصادي الجديد بعد اكتشاف طرق الملاحة الجديدة نحو افريقيا والهند والامريكتين.. النخبة العربية ترصد المشهد بالتقاط صورة واجمة للغرب اليوم ، دون ان تعطينا خريطة حقيقية لمسار التطور وإعادة انتاج المفاهيم الثقافية ، ومنها الإنسان ، تعريف الإنسان الفرداني Personalist المستقل independent ، والذي جاء موالفاً ومتطوراً عن مفهومه في الجذور الثقافية للإغريق بمعناه الفردي الذاتي .. وجذور الثقافة الرومانية بإطارها الاجتماعي القانوني الرصين وميلها الاستعماري المغامر ، إضافة للبعد المسيحاني الذي تم تكييفه مع الحداثة واضفى عليها صبغة من القيم كــالوضوح و المحاسبة و التسامح و العمل التطوعي .. بعد ان كانت المسيحية هي المسيطرة والمتحكمة في العصور الوسطى ، اصبحت مكوناً جزئياً بفضائلها فقط بفعل إعادة ارتباط الوعي الجمعي الغربي بجذوره التاريخية التي امدته بالخزين الثقافي الرمزي للانطلاق نحو النهضة وما تلاها .. فهذه جميعاً تشكل اليوم اهم اركان الحضارة الغربية المعاصرة..وما كانت لتؤسس حضارة قوية لولا تواصلها مع " الجذور " الإنسانية للثقافة الغربية في ارث اليونان والرومان .. السؤال هو : كيف يمكننا ان نبني الإنسان في العالم العربي دون ان تربطنا اي جذور بمفهوم الاجداد الاعماقي القديم عن الإنسان بما هو فرد ذو وجود وكيان يتناغم مع الطبيعة وليس بما هو إنسان جاءت به السماء لمهام مقدسة في هذا العالم عبر تعاليم وفلسفات ديانات التوحيد ؟ اغلب النماذج التي توفرها الليبرالية الغربية والعربية التابعة لها تحاول ان تبني صروحاً على الرمال بنقل الثقافة الغربية بقضها وقضيضها ..دون ادنى لفتة بان المجتمعات العربية لكي تحدث ، هي بحاجة إلى تحديث ينطلق من بدايات المكونات الثقافية الجذرية الاساس المتوفرة حتماً في ماضيها السحيق ..!
(2)
من المفارقة ان نجد عبر دوراتٍ من التاريخ كثيراً من وجه التشابه في التحولات التاريخية بين الحضارة العربية الإسلامية والحضارة الرومانية المسيحية .. فالحضارة الرومانية المسيحية اسبق وقامت على اجداث اليونان القديمة ، فتنكرت لميراث اليونان ودفنته حياً في تربة اللاوعي الثقافي في تلك الحقبة ، في حين هرع المسلمون للترجمة من ميراث اليونان الثقافي وإعادة انتاجه بما يوائم نمط حضارتهم ..! وقبيل النهضة ، وبعد قرون طويلة من تغييب " الغرب " لجذوره الاغريقية ، عاد واصلاً الماضي بالحاضر مثمناً دور العرب كوسطاء في هذه المصالحة بين الإنسان الغربي وماضيه اللاواعي العميق ... بل إن الحضارة الغربية ردت الدين للعرب ، بأن تعيد اكتشاف واحياء ميراث سومر وبابل ومصر القديمة وفينيقيا ولبنان وسوريا .. لكن العرب ، ولحد اللحظة لا يزالون في " طور القطيعة phase discontinuance " تجاه الموروث الثقافي الجذري التاريخي الاصيل في وادي الرافدين والشام وشمال افريقيا ...!!! فمثلما دفنت الحضارة الرومانية ارث اليونان بوصمة الكفر ، دفنت الحضارة الإسلامية ميراث بابل ومصر القديمة بوصمة الوثنية والكفر .. فمتى ستاتي اللحظة التاريخية الفارقة في حياة هذا الجيل والاجيال التي ستاتي من بعد لإعادة الوصل recontinuance ثقافياً بالماضي كي نعيد انتاج مفهوم " الإنسان " بما يوائم وعينا وواقع نهوض الامم ..؟ علماً أن مثل هذه الخطوة ، اي ، المصالحة والتواصل و " تقديس " التاريخ لم تقم بها اوربا وحدها قبل وبعد النهضة ، الصين الشيوعية وبعد ثورتها الثقافية في القرن الماضي ها هي تعود اليوم لميراثها الطاوي الكونفوشي وتعيد انتاج ثيماتها الثقافية ملونة بين الماضي والحاضر .. كذلك تفعل اليابان ، وخطت بنفس الخطوات ايران منذ رضا شاه حيث صوت الانتماء للامة الإيرانية اليوم اعلى من الإنتماء للإسلام كما هو معروف ..
النتيجة اذن : بناء قويم لدول عصرية ، نسميها نحنُ " دولاً عظمى " ..
(3)
لستُ ابالغ في تفاؤلي بان اتصور عهد احياء الميراث الثقافي لبابل ، ام التاريخ والقدر ، قد بات قريباً جداً بعد الثورات العربية .. اعولُ كثيراً على ابناء هذا الجيل في ان يكسروا حواجز التابو في الاقتراب من هذا الميراث الذي تحتقره الاجيال المتطرفة ، ولا تبالي بقيمته الحقيقية الاجيال المعتدلة .. ففي العراق ، يسمي بعض اهلنا في الجنوب " الملاقط " ، اي اللقى الأثرية التي تباع للمهربين بأثمان باهضة ، الغرب هو الذي جعل اثمانها باهضة .. الغربُ يشتريها بأسعار خيالية لانه يقدس التاريخ لا لانه عديم العمق التاريخي كما يعتقد الكثيرين ( وانا كنت منهم ) فيعزز هذا الافتقار بجمع التراث الإنساني العالمي بل إن الحضارة الغربية برمتها وما تحويه من قيم موصولة الجذور بكل هذا التاريخ .. التعامل المقدس مع التاريخ والذي لا يقدر بثمن لدى الغربيين ، والذي نبهني له الاستاذ سليم مطر في احدى محاوراتنا ، هو بالأساس تقديس وخوف لا واعي للحياة والمصير المجهول الذي ينتظر وجود كل فرد فينا في ظل إطار ثقافي مادي لا يؤمن بحياة اخرى او يقف منها موقف المتشكك لتكون هذه القطع الاثرية دلائل قاطعة تذكرنا بهذا الخوف وفي نفس الوقت تتغلب عليه . تشكل مفاهيم الإنسانية في الحرية والحقوق والاستقلالية اساساً انبثقت من رسم مسار تطور تاريخ هذا الإنسان بالأبعاد المختلفة العلمية والثقافية ، تقديس الغرب لهذه النقوش والآثار بمثابة تحديد دقيق لنقطة في خريطة الزمن ، محافظة على التواصل مع انطلاقة البداية في مواجهة المستقبل المجهول الذي قد نخافه ونتوجس منه احيانا ... فهذه الآثار تثير في وعي الغربيين إن الامم على سذاجتها مقارنة بمنجزات الحضارة اليوم ، فهي قد صمدت في مواجهة التحديات في الانتقال من الحاضر نحو مستقبلها وشيدت حضارات تؤكد آثارها على قوة الإنسان وعظمته في مواجهة اغترابه وقلقه المزمن تجاه الطبيعة .. فالحضارتين المسيحية والإسلامية وفرتا للإنسان امناً سلبياً تجاه ذلك ...! فحياته تجري بقضاء الله ، وما بعد الممات لا يخشى عليه ليتلاشى الحافز الشخصي والدافعية الجمعية بمرور الزمن حتى نقطة الانهيار بالتصوف والرهبنة في هذه الحضارات ، لتذوي شمعة التحدي بين الإنسان والطبيعة متحولة إلى صورة تكاد ان تكون جامدة يموت فيها الإبداع ... لكن ، وامام هذا كله ، انجب التاريخ " هذا الجيل " الذي شكلت ثيمات ثقافته العولمة ما بعد المعلوماتية معلناً للتاريخ اولى صرخات مخاض ولادة جديدة .. ستعيد المكانة للإنسان ، وتعيد لنا انتاج الإنسان وتعريفه بشكل قد لا يختلف عن " الإنسان " في الغرب لكنه سيكون اوسع شمولاً في رسم علاقته مع الطبيعة من جهة والحضارة الإنسانية الجديدة الشاملة من جهة اخرى .. هذا الجيل سيزداد التصاقاً بالعولمة في نفس الوقت سيبحث عن هوية " انسانية " تناسب الحداثة وفي نفس الوقت تحتفظ بخصوصيته الثقافية .. قد يكون هذا الحديث في نظر البعض سابقاً لأوانه ، لكن هذا الجيل واجيالاً من بعده ستاتي ستجد نفسها مرغمة على سلوك هذه الطريق حين تشعر " بالوحدة " وهي تطوقها من جميع الجهات كما فعلت اجيالُ النهضة في اوربا ، حين وجدت نفسها مرغمة على تحدي القوانين الطبيعية التي اكتشفت بانها لم تكن كما ورد في الكتاب المقدس ، وإن " الله " لم يكن كما علمها آبائها الاولين .. إذ اضطرت إلى اعادة " إنتاج " الرب بما يتوائم مع النسق الحضاري الطارئ الجديد سواء باعدامه من الوعي بافكار الإلحاد ، أو بعزله عن ناموس الكون الذي خلقه ليدبر نفسه بنفسه (3) الاجيال الجديدة قد لا تجد نفسها مضطرة لقبول " الله " كمتفرج على الكون على غرار الهيكل الثقافي الاوربي الغربي العام ، لكنها ستكتشفه عبر مكونات ماضيها " مشاركاً " في صيرورة الطبيعة مع الله كما كان الإنسانُ في بابل (4).. وإن الإنسان سيدبر نفسه بنفسه ، حينها سيعود الشرقيون ، والشعب العراقي " الجديد " بوجه التحديد إلى العودة لتقديس تراب بابل كما يقدس الشيعة اليوم تربة كربلاء .. فبابل ستكون مدى الرؤية نحو الماضي ، مثلما كانت اثينا لدى الغربيين ، هذا المدى التراجعي سيساعد في قبول المدى المجهول المقابل نحو المستقبل وما يكتنفه من غموض .. ستكون بابل ومصر القديمة ولبنان و قرطاج وغيرها مثابات انطلاق حقيقية يعتمد فيها الإنسان على إنسانيته الارضية .. وليس على الإنسان الكوني السماوي ..! ستكون عنواناً لنزعةٍ ثقافية إنسانية " ارضية " عربية جديدة لابد ان تثمر نهضة حضارية شاملة ووثبة تاريخية حافلة سنحاول استقراء ملامحها واستدراك مساراتها في مواضيع قادمة . فالديمقراطية والحرية لا تكفيان وحدهما كمفاهيم معلبة منتجة غربياً لبناءٍ قويم للدولة .. إليكم العراق فانظروا إليها .. مالذي صنعته فيها الديموقراطية الامريكية غير زيادة الفرقة و الإنقسام والحكومات الفاسدة المتعاقبة في دولة كأنها اجتث من فوق الارض ما لها من قرار ؟ العودة إلى سومر وأكادة وبابل وآشور بعمق ثقافي واسع وليس بمعارض ومتاحف للآثار ، إنما باعادة انتاج ثقافة السبعة آلاف عام واستنباط شكل " الإنسانية " الشرقية المتميز عن الإنسانية في الغرب ببعض الوجوه ، وترويجه وإدخاله في المناهج المدرسية ، هو ما سيعيد انتاج مفاهيم الإنسان التاريخية تلك ليعيد توطينها ومزاوجتها مع الموروث الإسلامي المعاصر الذي هو اصلاً بني فوق ركام ثيمات ثقافات الماضي .. فاتحاً الآفاق أمام انسانٍ جديد .. الشجرة التي تقلع من جذورها حتماً تموت ، ونخبنا السياسية والثقافية والدينية اموات غيرُ احياء وما يشعرون ايان يبعث هذا التاريخ من جديد .. سأبقى متفائلا رغم سوداوية المتصهينين المتشائمين الذين ظل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون إنهم يحسنون صنعاً بتصوير " هذا الجيل " الذي خرج من رحم التاريخ إعصاراً على إنه مجرد جيل ثائر لا يعرف ما يريد وإن مصيره الإنجراف نحو " التطرف " .. هذا الجيل قريباً جدا سيعرف ما يريد ، دون ان انكر انه اليوم فعلا لا يعرف ما يريد .. لانه ولد للتو من رحم الآباء التاريخي المظلم في عالمٍ جديد من النور والامل .. سيعيد الارتباط بتاريخ انسانيته الطبيعي ، وسيبني دولاً على نحو قويم ويزرع الورود على قبورنا اجمعين في بلاد بابل .. الدولة العظمى التي ستنتفض من رقدة هذا المنام الطويل بفضل روح الصدق والتضحية لدى ابناء هذا الجيل .. ممن نشاهدهم كل يوم وهم يواجهون الحديد والنار بصدورٍ عارية ..
هوامش : .................
(1) للمزيد حول موضوع الفرق بين الفكر الشرقي والغربي ينظر : جغرافيا الفكر لريشتارد نيست ، عالم المعرفة
(2) حتى الماركسية التي من المفترض انها نظرية علمية مجرد سقطت قراءاتها اليسارية بهذه الشراك ، فيما لازمت اليمينية منها تحجرها وتنكرها للإنسان وما تشكله ابعاده الثقافية وتحويله إلى مجرد هامش ..
(3) لاحظ ان علاقة الغربيين بالله تشبه علاقتهم بالحاكم اليوم ، فهو إما موظف بلا وزن ، او صاحب ملكية دستورية بقدسية رمزية !
(4) الإنسان في الحضارات الدينية خاضع لنواميس الكون التي يمسكها الرب بالكامل ، في بابل كان الفرد يشارك الآلهة في إدارة نواميس الكون كما يقول فراس سواح ، كتبت عن هذا الموضوع قبل سنوات في سلسلة : سيكولوجية الفرد البابلي وتاثيرها في العالم المعاصر .[/b] | |
|