كيف يندرج كتابكم الأخير- بداية عالم جديد - في سلسلة التحقيقات التي قمتم
بها منذ عشرّية خلت، أي منذ صدور كتابكم – خيانة الأنوار، تحقيق حول
الحيرة المعاصرة- (1) ؟ألـّفت هذا الكتاب لغرضين اثنين. الأوّل، هو أنه أثناء المقابلات
العمومية التي توفرت لي فرص المشاركة فيها لتقديم هذا الكتاب أو ذاك ضمن
هذه السلسلة، كان يوجّه لي دائما نفس السؤال: « هل يمكن لتحاليلكم أن تعني
مواطنا صينيا أو هنديا؟ ألا تكون متمركزة غربيا؟ » هذا سؤال حقيقي وصعب،
أردت أن أواجهه هنا مباشرة. أما الغرض الثاني فهو ليس أصيلا. فلقد كنت
متأثرا مثل كل الناس باعتداءات 11 سبتمبر 2001 وخاصة بالتأويل الذي تلاها.
وكان يبدو لي الخطاب الذي ألقاه جورج بوش يوم 29 جانفي 2002 وتكلم فيه عن
« حرب صليبية» وعن وجود « محور للشر»، أنه يحمل ثغرة عميقة. فمن الجانب
الغربي، تجري الأمور وكأن العالم أعيد تقسيمه فجأة بطريقة مانوية إن لم
نقل تبسيطية، بين مساندين وخصوم لحقوق الإنسان. كانت البلاغة الخطابية
لجورج .د. بوش، المنتشرة في ذلك الوقت، تقسّم الكوكب الأرضي تعسفيا إلى
أتباع للإرهاب من جهة وغربيين أو موالين للغرب، حماة لا يلينون لحقوق
الإنسان، من جهة أخرى. ومن هنا أتى ذلك الاستفهام الساذج بعض الشيء لـ"جان
ماري كولمباني" في صحيفة "لومند" : «نحن كلنا أمريكيون. »
لقد كنت على اطلاع عبر رحلاتي الصحفية على كثير من بلدان الجنوب، كمصر
وإيران ولبنان والهند … وكنت أعاين وجود واقع ومواقف أكثر تباينا. كان
هناك العديد من المثقفين في بلدان الجنوب يرفضون الدخول في خيار «مع »
الأمريكان أو« ضد»هم ولا يقرّون بالقبول الجملي للعولمة على الطريقة
الغربية ولا بذلك التقديس الذي يصاحبها. إن مناهضة السياسة الأمريكية
بالنسبة لهم لا تعني مطلقا الموالاة للظلامية أو محاباة الإرهاب. إني أفكر
في أصدقاء مثل الكاتب اللبناني إلياس خوري أو في مصريين مثل يوسف شاهين (
الذي فقدناه في جويلية 2008). تراهم شديدي النقد في ما يتعلق بالهيمنة
الغربية وفي نفس الوقت، يجابهون كل المخاطر في بلدانهم لمقاومة الأصوليين.
وحتى أمريكا اللاتينية، وبقطع النظر عن الخطاب التقليدي المعادي
للأمريكان، فإن المانوية الغربية لم تتأصل فيها، ونجد هناك ردود فعل منشقة
أسمعت صوتها.
إلا أن هذه الأصوات، التي لم تكن أوروبية ولا أمريكية، لم تجدْ، مع
الأسف، أي صدى في فرنسا. وبالرغم من أن مجلات، على غرار مجلة Esprit، قامت
بعمل واسع للتعريف بالمؤلفين الجدد، فإنه يبدو لي أننا مررنا مر الكرام
بجانب هذه الظاهرة وهذا الجدل، في هذا البلد. إني أتحمل - أنا أيضا- نصيبا
من المسؤولية. فعلى سبيل المثال، لم أكن حقيقة مهتما بدراسات ما بعد
الاستعمار post-colonial studies أي بتلك الحركة الفكرية التي كانت تسعى
منذ ربع قرن لتفكيك التصنيفات الغربية التي أسبغها الخطاب الاستعماري على
العالم. لقد تكونت لديّ رغبة جامحة لسد هذه الثغرة وتناول هذا الملف
إجماليا كما يقال. كنت أعجبت ببعض كتّاب ما بعد الاستعمار مثل
"فالنتان-إيف مودانبي" و"ديسباش شكربارتي" و"أشيل مبامبي" و"أرجون
أبادوراي" و"أمارتيا سان" وغيرهم وأفسحت لهم مجالا واسعا في كتابي.
ويندرج معظم هؤلاء الكتاب في جيل ما بعد إدوارد سعيد الذي أعدت بهذه
المناسبة قراءة كتابه الشهير"الاستشراق" (2). وكان هذا الكتاب قد نشر منذ
ما يقارب الثلاثين سنة ولم أتبين كل أهميته إبان صدوره حينذاك. ثم عدت
كذلك إلى بعض نصوص "كورنيلوس كاستورياديس" الذي كان يتساءل منذ منتصف
الثمانينات حول ما سماه "تداعي الغرب"، أي فقدان الثقافة الغربية
لجاذبيتها. لماذا لم تعد هذه الثقافة تشع على بقية العالم؟ وكان يتكلم
أيضا عن " صعود التفاهة" (3)، وهو ما شكل أسلوبا لتغيير محور الجدل الذي
كان متمركزا حول التحاليل التقليدية المتعلقة بالامبريالية ومعاداة
الاستعمار، الخ.
لقد فتح هؤلاء الكـُتاب مسلكا جديدا ما بين الغربنة الإجبارية و"الممانعات
الكبرى" أو انغلاقيات الهوية، وهو مسلك ينطلق من إعادة رسم الحداثة نفسها،
حداثة لم تعد تتطابق مع الثقافة الغربية وحدها. هذا هو الخيار الذي أردت
استكشافه. وقد اكتشفت، في هذا المضمار، التفكير الصيني والطريقة الهندية
أو الإفريقية للنظر إلى الأشياء. في نهاية الأمر، هذا العمل غيّر بشكل
كبير طريقة رؤيتي، بمعنى أنه هدّأ من انشغالي الأصلي. ففي كتبي السابقة
كنت أكثر تخوّفا. و كنت ألاحظ بقلق التشنجات القومية والانكماشات
الهوياتية والغليان الشخصاني المعادي للكونية وانهيار البلدان متعددة
القوميات، مثل يوغسلافيا، والتعصب والأصولية… اليوم، اعتقد أني وعيت بأن
هذه المخاطر هي فعلا حقيقية، غير أن ذلك لا يشكل سوى المستوى الأول
للوقائع المباشرة. إنها، إن صح التعبير، مجرد بقبقة أمواج خفيفة، لا ينبغي
خلطها مع التحركات الواسعة للبحر الهائج. أعمال العنف هذه، تشغل بالنا بحق
لأنها تشكل جزءا مأسويا من التاريخ المعاصر. إلا أننا نلاحظ، إذا ما
تأملنا ما يجري في نفس الوقت على المستويين الثاني والثالث، قيام حركة
معاكسة، لا تؤشر على وجود صراع مزعوم للحضارات، بل تنبئ بتقارب بطيء لكنه
حتمي بين الثقافات.
على المدى البعيد، نجد أننا أقرب إلى منطق "التواعد" منه إلى منطق
"التصادم". لذا أردت، توطئة لعملي، أن أعود بتمهّل إلى الجدل الذي انطلق
سنة 1993 بمقال، ثم بكتاب، لـ"ساموال هنتنغتون" حول "صدام الحضارات". إني
أرى اليوم في ذلك الجدل غرابة المصير لفكرة خاطئة؛ والنجاح الإعلامي
والسياسي لتحليل مغلوط وسطحي الانتماء إلى « النزعة الثقافية »، يعيّن
«الحضارات» وكأنها كيانات جامدة، صافية كيميائيا، ومنغلقة على نفسها. وهذا
أمر بالطبع غير صحيح. فمنذ زمن بعيد، تحولت تلك التي تسمي نفسها "حضارات"،
إلى (ظاهرات) تعددية، تركيبية، تطورية وهجينة. وسيتعمق هذا الاتجاه ويشمل
الجميع، بما في ذلك حضارتنا (الغربية). وفي نظري، ليست التمازجية الثقافية
للعالم، على العكس مما يُظن، بالكارثة حسب عبارة نأخذها عن"إدوارد غليسان".
جغرافيا متعددة المراكز أو الأقطابهل تكون الكلمة السائدة هي «الانزياح عن المركز » le
décentrement؟ إن تبديل النظرة يصاحبه إدراك جديد للجغرافيا. فما دمنا
نقبع في جغرافيا منتظمة حول أوروبا، لن نتوصّل إلى فهم ما يجري حول العالم.لم أكن أبدا متفائلا جدا بخصوص أوروبا كما يُجسِّمها إلى حد الآن
الاتحاد الأوروبي وكذلك هيئة بروكسل. إذ تبدو لي أنها تسير في طريق خاطئ.
تظهر الثقافة الأوروبية وكأنها فوق الكفاية، محددة بعولمة تجارية خاوية،
ومبتذلة في بعض الأحيان. إن قارة أوروبية، بلا محتوى حضاري ولا مشروع
حقيقي تفقد تقريبا، في نهاية المطاف، إشعاعها على العالم، كما يجب ويمكن
أن يكون هذا الإشعاع. إنها تبدو بالأحرى كمحيط قلق، محاصر، منذر نفسه
للعددي والكمي ومنغلق على نفسه، وتعطي الانطباع بأنها ترد الفعل كـ« قلعة
محاصرة». إن أوروبا كهذه تخيّب ظني في الحقيقة.
لهذا الغرض، أعتقد أن الوعي بالانزياح عن المركز الجغرافي للعالم مفيد
لنا، إن لم نقل لازما. فنحن نشهد قدوم شركاء جدد لنا في تحديد معنى
الحداثة بذاتها. غير أن تغربن جُلّ هؤلاء الشركاء، يضفى بعض النسبية على
تقليديتهم المزعومة. وباعتماد استعارة التمازج نفسها، نقول أن ثقافة
عالمية تمازجية هي بصدد الانبثاق. ومن هنا تأتي أهمية مثقفي الشتات –
الشتات الصيني والهندي بالخصوص – في إطار الحركة الراهنة للأفكار. خصّص
"أماريتا سان" على سبيل المثال مؤلفاته الأخيرة للهند(4)، واستطاع هذا
الخبير الاقتصادي الشهير، الذي شغل خطة أستاذ في كامبريدج ثم في هارفارد
وتكوّن في بريطانيا العظمى واستقر بالولايات المتحدة، أن يوظف تكوينه في
الغرب لاستقراء التقاليد الهندية وأن يجد فيها منابع التسامح والفكر
العلمي واللائكية نفسها. وهو بذلك يعطي قراءة جديدة لتاريخ بلده، بل
ويثريه. إنه، من دون اللجوء إلى إسقاط مفاهيم غربية، يثمّن من جديد ما قد
أهملته أو تناسته النظرة الاستعمارية من ثقافته الهندية. ونستطيع أن نبدي
نفس الملاحظة بخصوص الهندي الأمريكي "أرجون أبادوراي" الذي كانت تحاليله
«ما بعد الاستعمارية » على جانب كبير من التجديد(5). ومن الجهة الإفريقية،
فإن كتابات "أشيل مبامبي" قد أنارتني كثيرا(6). كذلك يجب أن نذكر العمل
الجماعي لثلاثة جامعيين استراليين حول « رد الإمبراطورية» على مستعمريها
السابقين (7).
هؤلاء الكتاب لا ينتمون إلى المركز ولا إلى الأطراف. فكيف نفهم
هذا الفضاء العالمي الجديد الذي لا ينتظم حسب تعارض بين المركز والأطراف؟
هل توجد هناك صعوبة فرنسية خاصة للدخول ذهنيا في هذه الجغرافيا الجديدة؟نعم، أوروبا لم تعد تشع لأنها انزوت على نفسها وأصابها الافتقار
الثقافي من جرّاء ذلك، ولكن أيضا لأن العالم لم يعد منتظما حسب التشكل
الجغرافي الذي استبطنّاه: وهو تشكل يمثل مركزا (الغرب) يختصر حداثة تشع
على أطراف تجسّد في ما يخصها التقاليد. لقد هيمن هذا التمثل للعالم طوال
أربع قرون، ولم يعد اليوم ملائما. إن أحد الكتب المؤسسة لفترة ما بعد
الاستعمار يحمل عنوان "الإمبراطورية تجيب"(The Empire Writes Back) ، وهذا
يعني أنه بعد قرون من الصمت، يتكلم المستعمَرون أخيرا. يجب أن نكلف أنفسنا
عناء الاستماع إليهم، دون أن ننتظر منهم أن يكونوا أشباها أو أعداء لنا.
يجب على أوروبا أن تقرّ بهذا الانزياح المركزي النهائي للعالم وأن تقبل
بالفكرة القائلة بعدم صلاحية صورة المركز والأطراف. فنحن لم نعد أسياد
العالم الرمزيين. وبالرغم من أن بيكين احتفلت بحلول سنة 2009 الجديدة،
بينما هذا التاريخ هو خاص بالديانة المسيحية، فإن تأثيرنا العالمي آخذ في
التقلص شيئا فشيئا. في ما يخصّني، آخذ ذلك على مَحْمل الخبر السار،
فالحداثة لم تعد قابلة للاختزال كما في السابق في قطب وحيد: الثقافة
الأوروبية، ثم الغربية. من هنا فصاعدا أضحى العالم تعددي التمركز، ثقافيا
وذهنيا.
نضيف إلى ذلك أن مفهوم «الإقليم» نفسه قد تغيّر، خاصة بعد سيطرة
الشبكات وانتشار الشتات والتفرعات الثقافية. ولقد خصصت فصلا من الكتاب لما
أسمِّيه «الزمكان المنكسر»: إننا نشهد ظهور صِلات بيْنيّة غير محددة
المعالم، تشكلها تلك الشبكات، الرقمية بالخصوص، التي لم تعد تسمح لنا بذلك
النمط من التفكير الذي يعارض المحلي بالكوني والأرض بما عداها. لقد أصبح
بإمكان الذين يغادرون أوطانهم ويهاجرون البقاء على اتصال مع مواطنهم
وثقافتهم الأصلية والعيش، عمليا في نفس الوقت، في إحدى المدن الكبرى
الغربية. إنهم ليسوا، لا هنا و لا هناك، بل يعيشون علاقة أخرى مع الزمان
والمكان. لا يتم هذا الانكسار بلا مشاكل ولا معاناة، غير أنه انكسار حاسم.
يمكننا أن ننقد تحاليل "أبادوراي" حول هذه المسألة (وقد تم نقدها بالفعل)،
غير أنها تبقى تحاليلٌ نفيسة رغم ذلك.
بيد أن أفكار"ما بعد الاستعمار" لم تحظ عندنا بصدى كبير. فالجامعة
والمثقفون الفرنسيون ترفعوا عن هذه الأفكار وكأنها ليست في الواقع جديرة
بالاعتبار. صحيح أن فرنسا بقيت مطبوعة بالاعتقاد في شمولية وكونية ثقافتها
وفي تفوّق نموذجها الخاص للإدماج الثقافي، وصحيح أن بعض الخبراء في
التاريخ الاستعماري الفرنسي فكروا في الموضوع بطريقة نقدية ونذكر من بينهم
المتخصصين في القارة الإفريقية مثل "جان بيار كريتيان" و"جان فرانسوا
بيار"، أو أناسيين مثل"جان لو أمسال" و"ماري كلود سموتس" و"سارج
غروزنسكي". غير أن هؤلاء يشكلون أقلية. أمّا الأكثرية فإنها تبقى متبنية
لمفهوم ورِعٍ للشمولية أتانا من عصور الأنوار.
لقد بقيت، أنا بنفسي، ولمدة طويلة بمنأى عن هذا الفكر(فكرما بعد
الاستعمار) والحال أن الرّهان كان على قدر من الأهمية، لأن الأمر كان
يتعلق في الحقيقة بمرحلة ثانية من تصفية الاستعمار، مرحلة تكون فيها هذه
التصفية ذهنية ومفهومية، وتتعلق بتفكيك المقولات التي رسم الغرب بواسطتها
شكل العالم منذ أربع قرون. قد يبدو بعض كتّاب ما بعد المرحلة الاستعمارية
أكثر تطرفا من الآخرين، غير أنهم في الحقيقة يدينون «الفكر الأسير»
وينقدون الحجج المزدوجة المعادية للغرب، حجج الذين يقلـِّدون الغرب وهم
يرغبون في التصدي له. هؤلاء الكتاب لا يريدون أن يكونوا الانعكاس لصورة
الغرب في المرآة، بل الانتساب إلى جغرافية وهوية تعددية. ولقد اقتبست فكرة
«الحداثة الهجينة» هذه، من عندهم.
ما مصير الكوني ؟لكن ألا يكون تاريخنا المعادي للاستعمار هو الذي أثار اللبس،
بحيث أننا أخذنا فكر ما بعد الاستعمار كتجذر خطابي - إلى حد ما - أو
كمواصلة بدون حيوية للفكر المعادي للاستعمار؟ فماذا الذي يميز هذين
الموقفين ؟لنرجع إلى سجالات فترة التحرر من الاستعمار: باسم ماذا يمكن لنا أن
ندين مثلا ممارسة التعذيب بالجزائر خلال الخمسينات أو القمع المذهل الذي
سُلط على مدغشقر سنة 1947؟ كنا نقول أن الوطنيين الجزائريين أو الثوار
الملغاشيين كانوا يذكروننا بالقيم، التي كان علينا احترامها، والتي كنا
نخونها. فهلا يكونون في آخر المطاف هم الورثة الحقيقيين لفكر الأنوار،
باحتجاجهم على التعذيب والهيمنة؟ لقد كنا نحن الفرنسيين أو الغربيين في
نفاق الذين يدنّسون قيمهم الخاصة. ألاحظ، علاوة على ذلك، أن موضوع «النفاق
الغربي » - نفاق الأمس ونفاق اليوم – هو موضوع متواتر في تفكير فترة ما
بعد الاستعمار. فخاصية مفكري هذه الفترة هي مع ذلك واضحة: إنهم لا يطعنون
في فكر الأنوار بصفته تلك، بل يرفضون أن يكون مسلطا عليهم بالقوة ويطالبون
بحق اكتشافه بأنفسهم و بطريقتهم الخاصة. إنهم يفضلون إعادة تفسير أو ترجمة
ما يقدمه لهم الغرب كمكاسب لا جدال فيها. فبالنسبة لهم، لا تتعلق المسألة
بنكران هذه المكاسب، كما يُظن غالبا، ولا برفضها كرياء أو مجرد أقنعة
للاستغلال كما يفعل المعادون للاستعمار. ويؤكد الهندي "أرجون
أبادوراي"(8)، على سبيل المثال، انه ينبغي أن نجعل من أنفسنا موضوع اكتشاف
جديد وأن يكون حسم المسالة خارج المجابهة المانوية أو الخصومة مع الغرب.
«علينا أن نكتشف عصر الأنوار بأنفسنا » حسب ما كان يؤكد عليه.
وتتيح اليوم إرادة " الاكتشاف" هذه لمثقفين من الجنوب (من إفريقيا
خاصة) أن يتملـّكوا معرفة كاملة راكمتها علوم الإنسان وعلوم الأعراق
البشرية الغربية (طيلة قرون). لا يعتبر أي هندي – مثلا - أنه من غير
المفيد أن يشتغل على المدونة الضخمة التي أنتجتها المدرسة الفرنسية للشرق
الأقصى. كما سيجد أيّ إفريقي أنه من المشروع الاستفادة من الأعمال الحصيفة
لعالم الأعراق "مارسال كريول" حول قبيلة الدوغون بالمالي أو أعمال "مارسال
كوهين" حول الثقافة الامهرية بأثيوبيا. و قد بيّن "جورج بالنديي" جيّدا
هذه الحركة المزدوجة تجاه المعرفة الانتروبولوجية والاثنولوجية للفترة
الاستعمارية. لقد كانت هذه المعرفة بالأحرى منبوذة في إطار النضالات
المعادية للاستعمار، لأنها كانت تمثل نظرة الرجل الأبيض… أما اليوم،
فتعتبر هذه المعرفة متوفرة بالنسبة للفكر المعاصر لما بعد المرحلة
الاستعمارية و بالإمكان تملكها من جديد. لقد حاولت أن أبيّن كيف أن عملية
تملـّكها – بصورة حذرة ونقدية – تشكل أحدى آليات التهجين الثقافي.
ولكن ما هو مصير البعد الكوني لبعض القيم في هذا الظرف؟ فبعد
سنوات من العجرفة الأمريكية التي تحدّثتْ عن فرض الديمقراطية بالقوة، هل
يتعلق الأمر باعتراض على حقوق الإنسان؟كلا، يتعلق الأمر بتملك هذه الحقوق واستيعابها عبر إعادة النظر فيها.
وتحضرني عبارة جميلة لـ"ألان سوبيو": يجب على الغربيين أن يقبلوا بـ"فتح
أبواب الاجتهاد في التأويل"، خصوصا في ما يتعلق بحقوق الإنسان(9). لا يعني
هذا أن نساوم وأن نزيّف الأفكار الأساسية باسم احترام التباين، إنما يجب
الانتباه لظهور تأويلات خصبة ومنتجة. سوف لن أتعرض إلا إلى مثال واحد: لم
نُعِرْ في فرنسا اهتماما كبيرا بالميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان المعلن
عنه في 27 جوان 1981 .إنه نص يمكن قبوله جيّدا من طرف المواطن الأوروبي،
غير أنه يحتوي على بعض البنود الإضافية حول التضامن والأسرة أو البيئة.
إني لا أرى باسم ماذا يجب أن نعتبر هذه الملحقات وهذه التأويلات غير
مقبولة. صحيح أنه يجب أن نكون حذرين تجاه مبدإ التأويل. فهو يمكن أن يكون
حمّالا للتبريرات الواهية: وكثيرا ما يمكننا العثور على طاغية مجلوب يبرر
تسلطه باسم التقاليد والعادات المحلية أو باسم فلسفة مختلفة. أما إذا لم
نقبل بإعادة فتح أبواب التأويل، فسوف لن يبقى لدينا بالتالي سوى رهط من
استعمار جديد، مليء بالعجرفة. وذاك انحراف نحو "استغراب" متكبّر وعدواني،
نجده في الغالب مهيمنا في الخطاب السياسي والإعلامي حول واقع بلدان
الجنوب، وهو خطاب لا يقبله المثقفون الديمقراطيون في هذه البلدان، وهم
محقون في ذلك. ولقد كتبت "سيمون فايل" في هذا الصدد: « أن ينفصل المرء عن
جذوره كي يرتقي إلى الكوني، فذاك واجب على كل إنسان، أمّا أن نقتلع جذور
الآخر، فذاك يعتبر دائما جريمة. » la Pesanteur et la grâce.
لكن لا ينبغي أن نتوقف عند الحوار النظري، لأن هذه الأفكار تهمّ أيضا الفنون والموسيقى والسينما والأدب والابتكار بالمعنى الواسع.لنأخذ مثلا الأدب الهندي الزاخر بالحيوية. نجد أن أبطاله غائصين في
الواقع المعاصر، على غرار ذلك الشخص الذي امتهن شرح إرشادات تشغيل الآلات
الكهرومنزلية لربات البيوت الأمريكية: إنه يجسّم لوحده مظهرا كاملا من
مظاهر العولمة! ونستطيع أن نقول نفس الشيء بالنسبة للسينما الصينية. فنحن
بصدد ملاحظة بروز سينما عصرية جدا، سواء في رسالتها أو في وسائلها
التقنية، غير أنها تبقى بحتا صينية في جماليتها وطريقة سردها وتصويرها
للممثلين. إنها تملك جميع المقومات كي تكون كونية، وسوف تنتشر لا محالة
على الساحة العالمية. ولا يمكن أن نقارنها بالسينما الشعبية الهندية
لـ"بوليوود" التي تحمل جانبا عتيقا لا تستطيع أن تخاطب عن طريقه الجمهور
العالمي. وفي ما يتعلق بالموسيقى الإفريقية، فهي مثالية من حيث حداثتها
وطاقتها الخلاقة. وأعني بالخصوص الفنانين الأمريكيين ذوي الأصول الإثيوبية
الذين وصلوا بعملهم التجديدي إلى مستوى ما بلغه في زمانه فريق "ريغاي
الكاراييب" le reggae de la Caraïbe.
بداية موعدتقولون أن تفكير فترة ما بعد الاستعمار هو في النهاية بصدد الاندثار، فما عسى أن نأمل بالنسبة للمستقبل؟فعلا، الفصل الذي خصصته لهذا التغيير سميته « فترة ما بعد الاستعمار».
وقد أردت بالكلام عن "فترة" أن أبيّن أن أهمّ ما قدمه هذا التيار قد وقع
تجاوزه. يمكننا القول بأن دراسات ما بعد الاستعمار كانت ثمينة، غير أن
زمانها قد فات. لقد كان كـُتاب ما بعد الاستعمار محل انتقادات حادة، ومن
قِبَل بلدان الجنوب أيضا. ففي الهند مثلا وجّه لهم المثقفون الماركسيون
اللوم لاكتفائهم بالقيام بتلاعبات سردية وبإنتاج الخطب وتناسيهم لأوضاع
الاستغلال والاستبداد الملموسة، الخ. لقد أفضى هذا إلى بروز تيار آخر،
تيار النقد ما بعد الاستعماري للحداثة subaltern studies، الذي يعطي
الكلمة أكثر لمطالب المقهورين، الخ. إني أفكر بالخصوص في الماركسي الهندي
"إيجاز أحمد"، أصيل ولاية اتر پردیش الهندية، والذي أصبح أستاذا زائرا في
جامعة تورنتو بكندا، لكنه بقي يدرِّس في دلهي الجديدة. إنه ألقى اللوم بلا
مجاملة منذ سنة 1992، في مؤلفه الأكثر رواجا (– في النظرية: الطبقات
والأمم والأدبيات In Theory: Classes, Nations, Literatures –) على
الفردانية العنيدة التي تختفي وراء دراسات ما بعد الاستعمار postcolonial
studies بالخصوص و فكر ما بعد الحداثة بصورة عامة. ثم انه وقع لوم كتّاب
ما بعد الاستعمار أيضا على ابتداعهم، من جديد، لمفاهيم تستحق أيضا
المناقشة إن لم نقل التفكيك مثل مفهوم الغرب ومفهوم الإمبراطورية، الخ.
لقد وقع تجاوزهم إذن من طرف كتاب ينظّرون لما يسمى بالدراسات الشمولية
globalization studies التي تؤكد بالخصوص على التلاشي التدريجي لمفهوم «
الإقليم». وأعني بعض الكتاب مثل "ساسكيا ساسان" و"مانوال كاستالس" أو
"ميكائيل هاردي" و"طوني نيغري"(10).
لكن، نحن لا ندخل، بالرغم من ذلك، في «عالم مسطح »، يمثل فيه
التبادل والتشابك كل شيء: فلا تزال هناك مساحات ثقافية ومجموعات تنتج
المعاني و فضاءات تعاطف وألفة. …أجهل ذلك: نحن نعيش فترة غموض كبير. ومثال الدين لافت للنظر، فعدم
توطنه الإقليمي لا ينفك في ازدياد. فالبوذية والإسلام لم يعودا شرقيين
بالتحديد والكاثوليكية انخفضت سرعتها في أوروبا، غير إنها بصحة جيدة
بأماكن أخرى. فنحن نشهد انتقالا عاما لموقع الديني وانفصالا في العلاقة
بين الثقافة والدين. يمكن أن يشكل ذلك خطورة ويوافق ما عبّر عنه "أوليفيي
روا" بـ« الجهالة المقدسة»، كما يمكن أن يشكل أيضا إغناء وخصوبة. إني أرى
ميلاد تفكير، جديد بعض الشيء، عند المسيحيين وهو ما سمّاه "كريستيان دي
شارجي" أحد الرهبان اللاترابيين السبعة الذين وقع اغتيالهم بطبرونة سنة
1996 بـ«لاهوت الالتقاء». وهذا كان يشكل في نظره لاهوتا جديدا للأمل. ولا
يجدر أن نطابقه مع اضمحلال الديني ولا مع ضياع المعرفة. بل إني أعتبره
كتعميق (لكليهما).
لقد صدر كتابكم في ظرف خاص -في الخريف الماضي - في تزامن مع الأزمتين
المالية ثم الاقتصادية العالميتين. بيد أننا لا نعرف ما هو المنحى الذي
سوف تأخذه العولمة في السنوات المقبلة، لكن المرجح أننا سوف لن نبقى في
نفس المسار. إن ما جرى هو، بطريقة معينة، فشلٌ لحركة اقتصادية لتكثيف
المبادلات، غير أنه في نفس الوقت وعيٌ بأننا نعيش في العولمة، بمعنى أننا
لن نستطيع الإفلات من أي ظاهرة اقتصادية تجري فوق قارة أخرى. مؤلفكم يقدم
عالم المستقبل بشيء من التفاؤل، لكن هل تعتقدون أن نظرتكم المتفائلة سوف
تنتصر على الأزمة؟اللوم الذي قـُدّم لي بالفعل كان غالبا: « كتابكم متفائل جدا.» هذا
يشكل إلى حد ما مفارقة. لست ملاكا ولا أنفي خطورة الإرهاب ولا الحرب. وقد
خصصت فصلين طويلين لما أسميه « العالم الفوضى » وللسؤال اللعين المتعلق
بالهويات الممحونة. إن تفاؤلي معقول ومدروس ويتوجه إلى المدى البعيد. أعيد
وأكرر: أنا مقتنع بأن الحركة التي تحمل العالم هي حركة التقاء أكثر منها
حركة فصل.علاوة على ذلك، التشاؤم أو خطاب الكرب عندنا هو في غالب الأحوال
موقف أو وضعية نتخذهما (للظهور). إنه خطاب «موضة » يضع (رواد مقاهي)"سان
جرمان دي بري" في صف الناس « الجديين».
أعتقد بالعكس أن هذا الخطاب التشاؤمي يمكن أن يدخل جيّدا في صنف التنبؤ
الذي يحقق نفسه بنفسه. فمثال الإرهاب ملفت للنظر. صحيح أنه يشكل خطرا يجب
التصدي له، غير أنه إذا ما بالغنا في تقدير خطورته، بشيء من تفخيم الكلام،
فإننا نكون، عن غير قصد، قد أوفينا بكرّاس الشروط الذي أعدّه لنا بن لادن.
إن الإرهاب ليس له وزن كبير إذا ما قسنا قوته بقياس الوسائل العسكرية، ذلك
أن تأثيراته هي أساسا بسيكولوجية. فهو يبحث ويعمل على نشر الخوف. وبتعبير
آخر، عندما نعطي للإرهاب مكانة كالتي نعطيها له اليوم بالترديد مثلا بأن
«الحرب العالمية الثالثة قد اندلعت »، فإننا نجعل منه فعلا عاملا مزعزعا
للاستقرار. أمام هذا النوع من التهديد، أتمنى أن نكون – إذا صح
التعبير-"تشرشليين" بعض الشيء، وأن نظهر دما باردا أكثر ما نستطيع. في
نظري لا ينتسب التفاؤل إذن إلى الهراء اللامسؤول، إنه أيضا – وربما قبل كل
شيء – وضعية إستراتيجية. وهو طريقة لكي لا نستقيل ذهنيا.