ربما لا يصح أن تصف الدكتور سعد الدين إبراهيم في كل حالاته بالجهل، فهو
عالم اجتماع معروف جدا، لكن ماذا تفعل حين تضبطه متلبسا بارتكاب جريمة
'الجهالة العظمى'، هل تعذره بجهله ؟، و'العذر بالجهل' جائز في الشريعة
الإسلامية، وإن كان جوازا محجوزا للعوام دون العلماء والعارفين، وهو ما لا
ينطبق على إبراهيم، ولا تجوز له رخصته، فمشكلته من نوع آخر، وتنتسب إلى
قوانين الطبيعة البشرية، ومضاعفات التقدم في العمر و'التنكيس' في الأرض،
فسعد الدين إبراهيم شيخ طاعن في السن، والذاكرة قد تنمحي أو تتآكل بضغط
عجلات الزمن، وليس في ذلك عيبا، فالمرض الجسدي والعقلي وارد وقدر ومكتوب
على كل البشر، وقد ينصح معه بالدخول في نوع من الحجر الصحي حتى لا نقول
الحجر العقلي، وعلى طريقة 'إذا ابتليتم فاستتروا'، وقد ننصح إبراهيم بنوع
من الراحة، فلم تعد في العمر بقية تكفي، وحتى ننصحه بالعودة إلى مقاعد
الدرس، وقد ننصحه وله الخيار طبعا بالتوقف عن الكتابة، أو الاستئذان في
الانصراف، أو عرض ما يكتبه على مراجع علمي أمين، وقبل أن يتورط في
النشـــر، ويجلب على نفســـه المزيد من الفضائح، ويحصل بامتياز على
لـــــقب 'الجاهل المتعالم'.
الدكتور إبراهيم أراد أن ينتقم من
العبد لله كاتب السطور، وأن يعد له مقالا ناسفا، وأن يريح الدنيا منه، وأن
يستجمع خبرته الفكرية والكتابية الطويلة، وأن يصطنع تعويذة سحرية من ثلاث
كلمات وضعها كعنوان لمقاله، وأن ينسب إلى شخصي ما أسماه 'مرض الطفولة
الناصري'، إلى هنا ولا بأس بالنية، وقد تجاوز النية إلى شروع في الفعل،
وأرسل ـ من منفاه الأمريكي الاختياري مقالا نشرته له صحيفة مصرية يومية في
5 كانون الاول/ديسمبر 2009، وزينته بصورة للرجل، يبدو فيها مكفهرا، وطليق
اللحية والشارب، وأشيب الشعر المشعث كما يليق بعالم جليل، لكن العالم
للمفارقة بدا جاهلا من أول سطر، وظلت الجهالات طافحة حتى آخر سطر، وإلى
نقطة الختام، فقد أراد إبراهيم بأدبه الجم أن ينسب لشخصي مرض الطفولة
السياسية، والمزايدة على خلق الله المساكين من أمثاله، خاصة إذا ما كانوا
من ذوي الكفاف والعفاف، وليس لهم في الدنيا من نصير سوى سيد البيت الأبيض،
ولا من دخل منظور سوى فتات بعشرات الملايين تصرفها لهم الادارة الأمريكية
من ميزانية المعونة الخارجية السنوية (!)، ما علينا، المهم أن إبراهيم
أراد أن ينتقم، وأعد خطته ونفذها، وكتب مقالا ركيكا لم يراجعه أحد بعده،
لا في مملكته الكونية، ولا في الصحيفة التي تنشر مقالاته باعتزاز وافتخار،
وعلى مسؤولية صاحبها، واستنادا إلى حرف الدال الذي يسبق اسمه الكريم.
وتحت عنوان مقال إبراهيم، بدا الجهل ساكنا من أول كلمة، فقد افتتح إبراهيم
مقاله برواية لطيفة عن كارل ماركس، وعن صنوف معاناته مع تلاميذه وأصفيائه،
والذين زايدو عليه، وتطرفوا يسارا في تفسير مقولاته ونظرياته، وإلى حد
أنهم أصبحوا على يسار ماركس نفسه، لكن الرجل ماركس هذه المرة كان واعيا
بخطر هؤلاء على سعد الدين إبراهيم، وهاجمهم ماركس في مقال شهير كان عنوانه
برواية إبراهيم 'مرض الطفولة اليساري'، وقد استغرق إبراهيم ثلث المقال
تقريبا مع الخاتمة في شرح الرواية الطريفة، والتي لم يسبقه إليها أحد من
العالمين، وكل ذلك حتى يصل إلى النهاية المرجوة، وهي نعتي أنا الآخر 'بمرض
الطفولة الناصري'، وانني أزايد على جمال عبد الناصر شخصيا، وبصورة بدا
معها مقال إبراهيم أشبه بمساكن العشوائيات، بدا نوعا من القبح الكتابي
المثير للأسى على حال بعض ما تنشره الصحف، ولسبب بسيط للغاية، هو أن رواية
سعد الدين إبراهيم لا أصل لها في التاريخ ولا في الجغرافيا، ومكذوبة من
الألف للياء وكوز الذرة، وهي من تأليف خيال سقيم وذاكرة خاوية، وتثير
الريبة في درجة الدكتوراه التي يحملها، وفي صفة الاستاذ الجامعي التي تنسب
إليه، فليس في تراث كارل ماركس كله مقال ولا شبه مقال بعنوان 'مرض الطفولة
اليساري'، ولا بعنوان يشبهه أو يقاربه في المعنى، وهذه بديهية يعرفها طلاب
علم الاجتماع قبل أساتذته، فـ 'مرض الطفولة اليسارية' وليس اليساري اسم
كتيب شهير لفلاديمير إليتش لينين زعيم الثورة البلشفية، وقد صدر ضمن
مساجلات الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي، وبعد وفاة كارل ماركس بعشرات
السنوات، وفي قرن آخر غير القرن الذي كافح ومات فيه كارل ماركس، ولا يعقل
أن يكون ماركس كتب مقالا بعد وفاته، أو أنه من أولياء الله الصالحين، يخرج
من قبره ويمشي على البحر، ويعبر البرزخ في الاتجاه المعاكس من الآخرة
للدنيا، ويملك المقدرة على خرق النواميس، ويرسل ما يكتبه من العالم الآخر،
ويجئ إلى لينين في منامه، ويملي عليه وحيه، ويقرأ عليه كلمات مقال 'مرض
الطفولة اليسارية'، ثم يعز على لينين أن ينسب المقال لصاحبه ماركس، ويلطش
المقال ويضع عليه اسمه، وتلك كلها ' تخاريف منام ' تليق برواية سعد الدين
إبراهيم، كارل ماركس بريء منها بالطبع، وكذلك لينين، ولا تفسير لجهالة
إبراهيم عندي سوى أن الرجل في متاهة، تشوش في القصد يغرف من تشوش الذاكرة،
وورطه في جهالات مفزعة بالبداهات، وجعله لا يعرف الفرق في العصر والنثر
بين كارل ماركس وفلاديمير إليتش لينين، وبين جمال عبد الناصر وعبد الحليم
قنديل.
ومن الجهل إلى الغيبوبة الظاهرة، مشى سعد الدين إبراهيم على
سطور مقاله إلى حافة الخيبة المفجعة، فقد كتب الرجل إبراهيم هذه المرة
مقاله ردا على تصريح لي نشره موقع 'المصريون' الإلكتروني، وقال أنه تابع
قصة 'كفاية' مع 'الحملة المصرية ضد التوريث ' من الصحف والبريد
الإلكتروني، لكن متابعة إبراهيم بدت من النوع 'الأمريكاني' بامتياز، وفي
مصر يطلقون وصف ' أمريكاني' على كل قول أو شيء زائف أو من معدن 'فالصو'،
وقد بدت متابعة إبراهيم لما جرى من النوع 'الفالصو' جدا، فهو لا يعرف مثلا
أن حركة 'كفاية' قررت الخروج من المشاورات التمهيدية للحملة المصرية ضد
التوريث، ولأسباب بعضها يتعلق بتورط بعض أطراف الحملة في اتصالات مريبة مع
الإدارة الأمريكية، وبعضها الآخر يتعلق بتأييد أطراف أخرى لتمديد رئاسة
الديكتاتور مبارك، وقصر هدف الحملة على معارضة توريث جمال مبارك، بينما
موقف كفاية جامع ناطق ضد الادارة الأمريكية الراعية لنظام مبارك تمديدا
وتوريثا، ولم يكن رفض انضمام 'ائتلاف المنظمات المصرية في أمريكا' للحملة
موضع خلاف، فسمعة سعد الدين إبراهيم المعروفة تسبق وتلحق اسمه، وتريب أي
وطني في مصر، ومن أي اتجاه سياسي أو فكري يعتد بأثره، والأسباب مشهورة،
وقد لحق سوء السمعة السياسية لإبراهيم بالائتلاف الذي يترأسه كميل حليم من
قادة أقباط المهجر، وقد نشرت التفاصيل في حينها عبر مقال تكرمت بنشره
'القدس العربي'، ومحصلة ما جرى: أن 'كفاية' أنهت رسميا علاقتها بالحملة ضد
التوريث وحده، واستمسكت بمعارضتها الكلية للتوريث والتمديد والهيمنة
الأمريكية الإسرائيلية في مصر، ودون تهوين من شأن شخصيات وطنية محترمة
تحاول إصلاح الحملة من داخلها، وقد اتخذت كفاية قرارها قبل شهر كامل من
نشر إبراهيم لمقاله الجهول، ومع ذلك فلا يزال الرجل إبراهيم هذه المرة
ضائعا في غيبوبته، ويتحدث عن تهديد بانسحاب تم فعلا، ودون أن يكون السبب
محصورا في رفض انضمام ائتلاف إبراهيم مع كميل حليم، فأغلب الأطراف حتى تلك
التي ظلت في اجتماعات الحملة تستريب في قصة سعد الدين إبراهيم، وبدواعي
صلاته المرئية الوثيقة سياسيا وماليا بالإدارة الأمريكية، لكن إبراهيم
الغارق في غيبوبته يتصور أن عبد الحليم قنديل وحده هو العائق، ولمجرد أنه
قرأ تصريحا لي أعلق فيه على رد السيد مختار كامل نائب رئيس الائتلاف
المذكور، وقد بدا السيد كامل ذكيا ومحترما وحذرا جدا في تعقيبه، وقال أنه
يعبر عن رأيه الشخصي، وليس عن رأي الإئتلاف الذي يقوده إبراهيم وحليم،
ووافقني السيد كامل على النقطة الرئيسية في موضوع الخلاف، وقال بالنص أنه
يتفق مع ما قلته عن تشبيه السفارة الأمريكية في القاهرة بدار المندوب
السامي البريطاني زمن احتلال مصر القديم، وهذه هي النقطة الرئيسية في
القصة كلها، فالسيد كامل يوافقني الرأي على اعتبار وجود أمريكا في مصر
كقوة احتلال سياسي وعسكري، وهو الموقف الذي لا يطيق إبراهيم ذكره، فهو من
رجال أمريكا في مصر، وتماما كعائلة مبارك ومماليكها وأغواتها
ومليارديراتها، والطرفان يشربان معا من ماء المعونة الأمريكية ذاتها، حكم
عائلة مبارك يأخذ نصيبه ويؤدي دوره بعقد رسمي، وسعد الدين إبراهيم وجماعته
يأخذون نصيبهم ويؤدون أدوارهم بالعقد العرفي، وكما يحدث في حالات الزواج،
كثيرا ما تجري مناوشات و'تقطيع هدوم ' بين زوجة العقد الرسمي وزوجة العقد
العرفي، وهذه طبيعة المعارضة التي يبديها سعد الدين إبراهيم وأمثاله، فنحن
بصدد خناقة تجري تحت المظلة الأمريكية ذاتها، وهو ما بدا ظاهرا في تصورات
عبث وجهالات نضح بها مقاله الركيك، فهو يتصور أن المصريين الأمريكيين
يخونون أمريكا، ويلعنون البلد الذي يعيشون فيه، ويرتكبون المعصية إن هم
أقدموا على واحد من الآثام التالية، إن هم طالبوا الإدارة الأمريكية
بإنهاء الهيمنة على مصر، أو التوقف عن دعم إسرائيل والنظام الموالي في
مصر، أو تحركوا لنصرة الحق والمقاومة الفلسطينية، وإن هم طالبوا بخروج
أمريكا من العراق وأفغانستان، بينما يعلم الكل أن أمريكيين ـ من كل
الألوان والأجناس ـ يفعلون ذلك كله، وبــــنقاوة ضمائر شجاعة، ودون أن
يعضوا أصابع الندم على الغلط في حــــق الغنم، ودون أن يحاكمهم أحد
بتهـــمة ارتكاب جريمة 'الخيانة العظمى' في حق البيت الأبيض ولا في حق سعد
الدين إبراهيم.
وقد يبدو من العبث أن ننبه سعد الدين إبراهيم لجهالاته
وغيبوباته، فالرجل 'مبسوط كده' على طريقه (الإيفيه) المسرحي المصري
الشهير، . . ولله في خلقه شؤون.
السبت ديسمبر 19, 2009 2:29 pm من طرف بن عبد الله