أطلس الحضارات. حسب رأيكم، نحن في "بداية عالم جديد". فما هو فحوى التغيرات الكبرى التي نواجهها اليوم؟ ما نعيشه منذ 20 عاما هو تغيير هائل لا يحدث سوى مرّة واحدة كل 2000
أو 4000 سنة. نحن نعيش منذ أوائل الثمانينات وفي نفس الوقت، أربع ثورات من
شأنها أن تغيّر المعطيات في جميع مجالات الحياة : ثورة اقتصادية مع
العولمة، وثورة رقمية وسبرانية تولد شبه كوكب أو قارّة سادسة، وثورة
جينيّة هي بصدد تحويل أسس الإنسانية، وعلاقتنا بالحياة والإنجاب والأنساب،
وثورة بيئية أدركنا بها أنّنا لم نعد نستطيع مواصلة تنميتنا كما كنّا نفعل
منذ آلاف السنين.
لهذه الأسباب الأربعة، ربما نحن نعيش تحوّلا لا يقلّ أهمّية عن ثورة
العصر الحجريّ الحديث التي مكّنتنا - منذ 12000 سنة خلت - من الانتقال من
مرحلة الصيد إلى مرحلة تربية الماشية، و من مرحلة القطف والجمع إلى مرحلة
الزراعة ومن عيش البداوة إلى نمط الحياة المستقرة.
أنتم تقولون أيضا بأننا نسير باتجاه "حداثة هجينة". فماذا تعنون بذلك؟ تمثّلنا للعالم تكوّن على النحو التالي : هناك مركز- هو الغرب - يشرق
على أطراف (المحيط). الغرب يجسّد الحداثة والمحيط يجسّد التقاليد والتخلف.
المركز يشعّ، إمّا بطريقة عنيفة - عن طريق الغزو أو الاستعمار- وإمّا عن
طريق التأثير الثقافيّ، أو الهيمنة التكنولوجية. قلـّصت الثقافة الأوروبية
في أوائل القرن السابع عشر من تأخّرها تجاه بعض الثقافات القديمة الأخرى
مثل الهند أو الصين ثم تجاوزتها لتصبح هي المهيمنة. هذا التمثّل للعالم،
الذي ساد عندنا لمدة أربعة قرون، أمسى الآن باليا.
هل هي نهاية الهيمنة الغربية؟ حتى حدوث التدخّل الأميركيّ في العراق، اعتقد المحافظون الجدد أنّ
بإمكان الغرب الحفاظ على تفوّقه تجاه بقية العالم. نعلم الآن أنّ هذا لم
يعد أمرا ممكنا، فالولايات المتحدة لم يعد لديها ما يكفي من الوسائل
لتحقيق النصر في العراق وفي أفغانستان. حُكم العالم الآن أصبح خارج
النطاق. لقد ظنّ البعض أن الغرب أبقى التكنولوجيا العالية في قبضة يده،
معتقدا أن ليس في الأمر خطورة إذا ما صنع الصينيون الجوارب بأسعار منخفضة
ما دام هو يختصّ في صنع طائرات مُكلِفة ويحتفظ بأسرار تكنولوجيتها
المتقدّمة. غير أنّ هذا ليس إلاّ مُجرّد وَهْم! بعض البلدان - بما في ذلك
الهند - أصبحت قادرة على منافستنا بندّية في هذا المجال. فبعد بضعة أيام
فقط من إفلاس بنك "ليمان براذرز" في 15 أيلول / سبتمبر 2008 ، ذلك الإفلاس
الذي حمل الأزمة المالية إلى أوجها في الغرب، حدث أوّل خروج لرائد فضاء
صينيّ في الفضاء، وكان ذلك بمثابة غمزة (ساخرة) من التاريخ. وفي الشهر
الموالي أطلقت الهند أوّل بعثة فضائية نحو القمر. نحن دخلنا في تشكّل
للعالم لم يعد يضمّ مركزا واحدا، بل عدّة مراكز ولا أحد يستطيع التنبّؤ
بمن ستؤول إليه الهيمنة في المستقبل، فالغرب والحداثة لم يعودا تينك
الظاهرتين المترادفتين.
هل تعنون بكلمة "هجين" أنّ الزواج المختلط ما بين الأجناس سوف يصبح أكثر انتشارا؟ كلا! إني أتكلّم عن حداثة هجينة لا عن مجتمع هجين. هذا التهجين
للثقافة يمكن أن يصاحبه اختلاط بين الناس، ولكن ليس دائما. والمثال
النموذجيّ هو مثال اليابانيين الذين اقتبسوا من كلّ مكان منذ عهد ميجي،
بينما بقي المجتمع الياباني غير عالق بالتهجين.
أنتم تختلفون بشدّة مع نظرية صراع الحضارات لصموئيل هنتنغتون، ولكنّكم من
ناحية أخرى، لا تستبعدون أن تولـّد الحداثة الهجينة الكثير من العنف. ألا
ترون في ذلك تناقضا؟ اقترنت فترات الحداثة دائما بمظاهر الرفض والنبذ. وهذا هو الحال راهنا
في إيران. ستكون هناك ردود فعل، لكنها ستكون داخلية. وتعمل الأصولية في
العالم الإسلامي اليوم على إيقاف عملية التحديث. ستقع أحداث عنف إذن، فأنا
لا أتنبّؤ بعالم ليّن، بلا مشاكل، بل فحسب بعالم لا يتطابق مع تحاليل صدام
الحضارات. يتحدث صموئيل هنتنغتون عن سبع حضارات كبرى، كما لو وجدت في
السابق كيانات ثابتة إلى الأبد، بينما لم يكن الحال هكذا منذ قرون طويلة!
فالصين الراهنة عرفت إعادة تشكيل وتداخل للتناقضات مثلما عرف ذلك الغرب
نفسه. ونفس الشيء بالنسبة إلى الهند، حيث جعل الأدب الهندي من هذا الجذب
المتواتر موضوع اهتمامه الرئيسيّ.
هل ستحظى الديمقراطية كذلك بالقبول في حداثة هجينة؟ توجد رؤيتان غير صحيحتين. تقول الأولى: جميع البلدان سوف تصل إن آجلا
أو عاجلا إلى مستوى ديمقراطيتنا، وبالتالي يجب علينا تلقينهم إيّاها. هذا
أمر لم ينجح في العراق ولن ينجح في أيّ مكان آخر. وهناك تحليل ثان خاطئ
أيضا يقول إنّ الحرية لا تهمّ هذه البلدان لأنها تنتمي إلى ثقافات أخرى.
إلا أنّ المجتمع الصينيّ، الذي يهتم جيّدا بالحريات، هو بصدد اختراع آليات
ديمقراطية تحت ذقن النظام وباستعمال منطقه الخطابيّ بالذات. وتحكم إيران
دولة تيوقراطية ظلامية، ولكنّ المجتمع المدني فيها على غاية من
الديناميكية. بعبارة أخرى، هناك أشكال مختلفة ومتكيّفة من حقوق الإنسان
ومن الديمقراطية هي بصدد التبلور والنموّ خارج ربوعنا، ولكنها لا تتطابق
بالضرورة مع نماذجنا الخاصة.
هل تبشّر بالأحرى هذه الحداثة الهجينة بحدوث أشياء جيّدة إذن؟ ذاك هو رأيي. غير أنّ هناك أمْرين يقلقانني، رغم ذلك. الأوّل هو
الشعور السائد لدى بعض الناس بأنّ تجديد التشكيل العالميّ هذا يفقدهم
هويّتهم. يوجد هذا الانقباض الهوياتي في كلّ مكان: انطواء لدى الغربيين
نحو القرية أو حول الطائفية، صعود قوميات صغيرة جدّا داخل الإمبراطورية
السوفييتية السابقة، الخ. إنّ إهانة الإسلام هي التي تولد الإرهاب،
واحتقار الهندوس في الهند من قِبل علم- تقني technoscience انتصاريّ هو
الذي يدفع هؤلاء في بعض الأحيان إلى اعتماد رؤية نكوصية، تلك التي تنتهجها
الحركة الثقافية الهنداوية Hindutva التي تغذّي الحزب الأصوليّ الهندوسيّ
BJP (حزب بهاراتيا جاناتا). بيد أنه بالإمكان جدّا في المقابل أن تكون
لدينا هويّة قويّة مصانة ومحميّة، لكنها متفتّحة. إنه لرهان من رهانات
المستقبل.
أمّا مصدر القلق الآخر فهو بيئيّ. لا يجرؤ أحد من السياسيين على القول
إنّ ما ينتظرنا نحن الغربيين هو تراجع في مستوى عيشنا (إفقار). لا يمكننا
إلا أن نسلّم بذلك، لأنه، إذا ما عُمِّم نموذجنا (الاستهلاكيّ) على بقية
دول العالم، فإنّ كوكب الأرض لن يكون كافيا لإيوائنا جميعا.
هل ستصمد الديمقراطية أمام الإفقار؟ نحن نجهل ذلك. يمكِن لمجتمع ما قبول التراجع المعيشيّ في زمن الحرب،
بسبب وجود تهديد خارجيّ، أمّا في زمن السلم، فإن ذلك لا يحصل إلا إذا كان
الناس يشعرون بأنهم في مجتمع منصف وبأنّ التضحيات موزّعة بالعدل. بيْد أن
مجتمعاتنا صارت ظالمة على نحو متزايد وتفاقمت في صلبها دلائل اللامساواة.
هل نحن سائرون نحو
صدام للحضارات - في شكل اقتصادي- بين الصين التي تسعى لوضع يدها على
الموارد الطبيعية وعلى الأراضي الزراعية لتضمن استمرار تطورها، وبين الغرب
على سبيل المثال؟ بالتأكيد ، لكن هذا لن يكون صداما بين حضارات، بل منافسة امبريالية
تقليدية ومواجهة بين بلدان لاقتسام ما تبقى من ثروات العالم. ثم إنّي
أعتقد، إلى جانب ذلك، أنّ فكرة الحضارة لم تعد تعني شيئا كثيرا. فالكلمة
أصبحت توحي بشيء ثابت، غير قابل للتغيير وراسخ في التاريخ. فإن كنتَ
أستاذا جامعيا ببيركلي، ومن أصل صينيّ، فأنتَ صينيّ/أمريكيّ وتدرّسُ
بجامعة أمريكية وفي نفس الوقت تشتغلُ على ثقافة بلدك الأصليّ. إنّك من
خلال أعمالك تغيّر من الداخل ثقافتكَ الأصلية. فإلى أي حضارة تنتمي يا
ترى؟ إنّك توجدُ في فجوة يتبلور فيها الجزء الأكبر من الإبداع الفكري
والفني العالميّ في الوقت الحاضر. هذا ما يفنـِّد مرّة أخرى أطروحات
هنتنغتون التي تصوّر الحضارة كضرب من الحدود والحواجز مبنية بالخرسانة.
هل يمكنكَ استبدال كلمة حضارة بعبارة أخرى؟ استبدلها بثقافة. فالثقافة تمزج، ونحن بالذات حاصل اختلاط للأجناس منذ
مدّة طويلة: فثقافتنا، ومعجم الفرنسية لدينا، وطريقة رؤيتنا للأشياء،
وفنون الطبخ والبناء عندنا، هي رومانية، يهودية، مسيحية، إسلامية. ويبدو
لي مفهوم الثقافة أكثر انفتاحا من مفهوم الحضارة.
أجرى الحديث: شانتال كابي Chantal Cabé و مارتين جاكو Martine Jacotجان كلود غيبو:
كاتب وباحث و صحافي (اشتغل في عدّة صحف ومجلات فرنسية)، ولد سنة 1944 و
أدار جمعية مراسلون بلا حدود. ناشر بدار Le Seuil منذ 1977. نشر منذ عشر
سنوات مجموعة من المحاولات حول "الارتباك المعاصر". آخر إصداراته:"بداية
عالم" (Le Seuil- 2008) صدر الحديث بالعدد الخاص المشترك بين صحيفة "لومند" ومجلة "لافي" المتعلق بـ"أطلس الحضارات" – أكتوبر 2009.
الأحد نوفمبر 17, 2013 1:23 pm من طرف فدوى