منذ
الثّمانينات، عرفت (حركة) الفردانيّة وجوها عديدة. ومع ذلك، لا ينبغي
الخلط بين هذه الإيديولوجيا الخاصّة بمجتمعاتنا (الغربيّة) وبين مفهوم
الفرد.
لقد ترك مارسيل ڨوشيه Marcel Gauchet بصماته على
الحياة الثّقافيّة الفرنسيّة في هذا الرّبع الأخير من القرن. كان دخول هذا
الفيلسوف إلى السّاحة ملحوظا من خلال كتابه "ممارسة العقل البشريّ.
المصحّة والثّورة الدّيمقراطيّة" (1980). كان يتجرّأ برفقة ڨلاديس سواين
Gladys Swain على مهاجمة وحش مقدّس هو ميشال فوكوه ونظريّته عن المصحّة.
كلاّ، لم يكن إنشاء المصحّات علامة على وجود "مجتمع انضباطيّ". بل إنّ
إرادة معالجة المرضى عقليّا انطلاقا من القرن التّاسع عشر تؤكّد بالأحرى
وجود مشروع ديمقراطيّ يرمي إلى ردّ الاعتبار للجميع وليس رغبة في "الحجز".
بعد بضع سنوات، وتحديدا سنة 2002، سيشتهر اسم مارسيل ڨوشيه بفضل كتابه
المنارة الّذي سيظلّ ملتصقا به : "زوال سحر العالم" (1). في هذا "التّاريخ
السّياسيّ للدّين"، كان الفيلسوف يدافع عن أنّ المسيحيّة، بإجرائها الفصل
بين الإيمان والسّياسة، بين المعتقدات الخاصّة والتّنظيم السّياسيّ
للمدينة، كانت قد هيّأت المجتمعات على طريقتها للخروج من الأديان : "إنّ
المسيحيّة هي ديانة الخروج من الأديان". سيثير الكتاب ضجّة ثمّ جدالا
كبيرا، في حقبة زمنيّة كان البعض قد بدأ فيها يتكهّن على العكس بعودة
الدّينيّ (2). منذ ذلك العهد، لم يتوقّف مارسيل ڨوشيه عن النّشر بوتيرة
مستمرّة، متابعا خطّه المنهجيّ المتمثّل في التّفكير في أصل انطلاقة
الدّيمقراطيّة باعتبارها نظاما سياسيّا واجتماعيّا. وقد نشر في هذا الخريف
الجزء الثّالث من ثلاثيته المعنونة بـ "مجيء الدّيمقراطيّة" (المجلّد III،
أمام امتحان الشّموليات، 1914- 1974، ڨالّيمار).
استقبلنا مارسيل ڨوشيه في مكتبه الصّغير، في منشورات ڨالّيمار. من هنا،
من أمام نافذة تطلّ على حديقة داخليّة جميلة، محاطا بكتب ورزم من الوثائق،
يدير المجلّة الدّوريّة "الجدال Le Débat " الّتي هو رئيس تحريرها. هذه
المجلّة الّتي أنشئت سنة 1980 تحتفل هذه السّنة بميلادها الثّلاثين. وفي
عدد احتفاليّ، حرّر مارسيل ڨوشيه مقالا بعنوان "وجوه الفرد الثّلاثة".
فكانت فرصة لنذهب إليه لنسأله عن هذا المنعطف الكبير للفردانيّة الّتي تسم
عصرنا ونمط حياتنا وأفكارنا. في
العدد الاحتفاليّ بمرور 30 سنة على تأسيس مجلّة "الجدال"، نشرت مقالا
بعنوان "وجوه الفرد الثّلاثة". قدّمت فيه صور الفرد المعاصر انطلاقا من
ثلاثة أطوار متعاقبة : فرد "سوسيولوجيّ"، هو بالأحرى أنانيّ ونرجسيّ، وفرد
"حقوقيّ" منصرف إلى الدّفاع عن حقوقه، وأخيرا فرد "بسيكولوجيّ" يتميّز بـ
"ذاتيّة انفعاليّة". لا بدّ من إعادة وضع هذا
المقال في إطاره. إنّه ليس إلاّ رسما أوّليّا. أقترح فيه فرضيّة في شكل
مجموعة وقائع ترمي إلى إجلاء تطوّر صورة الفرد على امتداد ثلاثين سنة،
مثلما تُستمَدّ من أعمال العلوم الإنسانيّة، الّتي تعكس بطريقتها اتّجاهات
المجتمع.
لا بدّ أوّلا من التّذكير بأنّ الفرد في نهاية السّبعينات قد سجّل دخوله
في علم الاجتماع بشكل مدوّ. فحتّى ذلك الوقت، لم يكن له مطلقا حقّ
الانتماء إلى علم الاجتماع. أتذكّر عالم اجتماع شهير في تلك السّنوات قام
بتقريعي خلال مؤتمر عامّ مؤكّدا بصوت عال وقويّ أنّ "علم الاجتماع يثبت
أنّ الفرد لا وجود له !". ثمّ عرفت المنشورات عن الفردانيّة
individualisme تطوّرا مذهلا، في وقت لا يتمّ فيه الحديث في المجتمع إلاّ
عن نهاية الالتزام الجماعيّ وعن انتصار الذّات. كان الفرد يُقدَّم من
زاوية الانعتاق الشّخصيّ، والمتعة والنّرجسيّة. إنّه فرد يتحرّر من
المعايير الاجتماعيّة. وهذا ما أسمّيه "الطّور السّوسيولوجيّ" للفرد.
ثمّ ظهر في الثّمانينات وجه آخر، سيكون موضوعا في التّسعينات على لافتة
حقوق الإنسان. كان عصرا متّسما بحراك قويّ من أجل حقوق الأقلّيات أو
الضّحايا. بما في ذلك على المستوى الأهليّ، إذ أنّ الكثير من النّزاعات
(في الشّغل أو في البيت) يتمّ اللّجوء لحلّها إلى القانون والقضاء. هذا هو
سبب تسميتي لتلك الفترة بـ "الطّور الحقوقيّ" للفردنة individualisation.
منذ عشريّة هذه الألفيّة يبدو أنّ وجها جديدا للفردنة قد ظهر وسمّيته
"الذّاتيّة الانفعاليّة والمتعلّقة بالهويّة". من هنا فصاعدا سيتمّ
التّركيز على التّعبير عن الأنا، والبحث المحموم عن الهويّة الشّخصيّة،
وعبادة الانفعالات، والسّعي إلى تحقيق الاعتراف. لم يعد الاستقلال
الشّخصيّ أو وضع حقوق الفرد هو ما يشغل البال بالدّرجة الأولى، بل
التّجربة الشّخصيّة والعلاقات الخاصّة مع الآخر.
ثلاثة
أطوار مرّ بها الفرد بشكل متعاقب : سوسيولوجيّ وحقوقيّ وبسيكولوجيّ (أو
أنتروبولوجيّ) خلال ثلاثين سنة. عليّ أن أصرّح بارتيابي إزاء هذه
التّحوّلات الفرديّة في فترة تاريخيّة بمثل هذا القصر. فهل أنّ هذه
اللّحظات الثّلاث هي حقّا أحداث متتابعة أم أنّ الأمر يتعلّق بثلاث
متغيّرات لنفس الشّخص؟ بطبيعة الحال
هي أطوار منفصلة ولكنّها لحظات لمسار واحد بذاته آخذ في التّعمّق. إنّ هذه
الوجوه الثّلاثة للفرد هي كذلك أشكال لواقع واحد، كلّ منها أخذ دوره في
الهيمنة على الآخر في الأعمال السّوسيولوجيّة. فرضيّتي هي أنّ هذا
التّعاقب ذو دلالة. اقرأ مجلّة "العلوم الإنسانيّة" ! كانت مجلّتكم
انعكاسا جيّدا لهذا التّطوّر في الإشكاليات. لقد اهتمّت كثيرا بالفاعل
العقلانيّ وبالفردانيّة المنهجيّة، وبعدها لم تعد تهتمّ إلاّ بمسألة
الحقوق الفرديّة وبحقوق الأقلّيات.
انظر أخيرا، في آخر الأمر، إلى انفجار المنشورات عن الذّكاء الانفعاليّ
والتّطوّر الشّخصيّ. إنّ هذا الإنتاج الرّئيسيّ يعكس بطريقته إشكاليات
تتمظهر في المجتمع : الشّكل الّذي تجلّت فيه الفردنة في الشّغل أو في
المؤسّسات أو في الأسرة.
التّحوّلات
الّتي عرفتها الأسرة تعبّر جيّدا عن الطّريقة الّتي تتجلّى بها الشّخصيّة
الفرديّة individualité المتنامية. انطلاقا من السّتّينات، تحرّرت
الشّبيبة جزئيّا من الوصاية الأبويّة، ثمّ جذبت الحركة إليها الطّفل الّذي
أخذنا ننظر إليه أكثر فأكثر باعتباره "شخصا" له حقوق خاصّة به. كما أنّ
النّساء قد اكتسبن استقلاليّة حقوقيّة واقتصاديّة وإيديولوجيّة في نفس
الوقت. ولكنّ النّتيجة هي أنّ هذا التّحرّر الفرديّ ودمقرطة العلاقات قد
أدّيا إلى تفكيك بنية الأسرة. لقد عاينّا انفجارا في الطّلاق وتزايدا في
العلاقات الجنسيّة الحرّة وفي عدد العائلات المفكَّكة، الخ. إنّ حركة
الفردنة والدّمقرطة تطرح إذن على صعيد الأسرة مسألة إمكانيّة بناء مجتمع
مستقرّ. كانت حركة الاستقلاليّة
الفرديّة فعلا خميرة لانحلال الأنظمة القديمة : الأسرة، في الشّغل، في
السّياسة، في الدّين أو من جهة السّلطات الفكريّة. من هنا تأتي صعوبة
إعادة بناء نظام اجتماعيّ وسياسيّ يحترم حقوق الفرد في نفس الوقت الّذي
يحافظ فيه على تماسك الجماعيّ. هذا هو كلّ المشكل السّياسيّ للحداثة.
ولكنّي شخصيّا لا أومن بنظريّة "انحلال الرّابطة الاجتماعيّة" وبتفكّك
العلاقات الاجتماعيّة تحت تأثير الفردانيّة. إنّ ما نحن بصدد معاينته
واقعيّا في الأسرة والشّغل والمجال السّياسيّ هو إعادة تشكيل الصّلات
الاجتماعيّة وفقا لمبدأ التّوافق. فالرّابطة تقوم أقلّ فأقلّ على الفرض
وأكثر فأكثر على التّواصل والتّفاوض المستمرّ. كما أنّها صارت تعاش بأكثر
حدّة وتُستثمر أكثر ذاتيّا ووجدانيّا. النّتيجة هي أنّها أصبحت أكثر هشاشة
في الظّاهر، مع أنّها أكثر صلابة في العمق ممّا كانت عليه في أيّ وقت مضى.
تشير أيضا إلى أنّنا نلاحظ في الحياة الفكريّة هذا الميل نفسه نحو الفردنة. فهل توجد إذن مطابقة بين فردنة المجتمع وفردنة الفكر؟ فعلا، إنّ لزوال السّلطات وللمطالبة بالاستقلاليّة الفرديّة ترجمتهما في
عالم الأفكار. فكلّ أساتذة الفكر الّذين كانوا يهيمنون على الحياة
الفكريّة من الخمسينات حتّى الثّمانينات قد رحلوا دون أن يأتي بعدهم
معوّضون حقيقيون. يوجد بالتّأكيد "مشاهير" في الحياة الفكريّة ولكنّهم في
الأكثر موجّهون للوعي و "معلّمون" على شاكلة جون بول سارتر وجاك لاكان
وميشال فوكوه. لم تعد الأجيال الجديدة ترغب في أن تخضع لوصاية سيّد مّا.
كلٌّ يبحث عن تأكيد ذاته في المشهد الفكريّ من خلال التّشديد على تفرّده،
من خلال البحث عن تحديد منطقته الخاصّة به. ما ينجم عن ذلك هو إنتاج فكريّ
غزير وفي الآن نفسه متناثر. لا سلطة فكريّة تنبثق، لا نموذج يهيمن، لا نمط
يفرض سلطانه. من هنا صعوبة ضبط الحركات المعاصرة للأفكار.
من أين حسب رأيك تأتي حركة التّحرّر الفرديّ هذه؟ هل هي مخصوصة بالغرب المعاصر؟ إنّ الفردانيّة الّتي تعبّر عن نفسها بقوّة منذ ثلاثين سنة ليست إلاّ
تعميقا لحركة أكثر عمقا وأكثر قدما يعود تاريخها في الغرب إلى خمسة قرون
على الأقلّ. كان المؤرّخ السّويسريّ جاكوب بوركهارد يتحدّث من قبل، في
القرن التّاسع عشر، عن نشأة الفردانيّة فيما يتعلّق بحضارة النّهضة في
إيطاليا. بدأت الفردانيّة تعبّر عن نفسها في فلسفة الحقوق في القرن
السّابع عشر. ثمّ ستمتدّ فيما بعد إلى مناطق أخرى من المجتمع وإلى فئات
أخرى من السّكّان. ومازال تاريخ الفردنة هذا يتطلّب كتابة أكثر. فهو ليس
تاريخا خطّيّا. كانت هناك فترات تراجع وفترات اندفاع. ما هو جليّ هو تجذّر
هذه الحركة القادمة من بعيد منذ ثلاثين سنة.
ولكن هل الفرد هو حقّا اختراع غربيّ؟ لقد تمكّن ميشال فوكوه من إظهار أنّ
"الانهمام بالذّات" قد كان موجودا من قبل في التّاريخ اليونانيّ
والرّومانيّ القديم. وهو يتأكّد خصوصا في الخطابات الفلسفيّة حول "سياسة
الذّات" وإرادة التّحكّم الشّخصيّ في الحياة. بإمكاننا أن نجد العلامات في
العصر السّحيق الّذي كانت أساطيره تحتفل قبلا بـ "الأبطال" – من جلجامش
حتّى آخيل – باعتبارهم أفرادا فريدين. بالفعل، للفرد ما قبل تاريخ. فقد ظهر للمرّة الأولى على مسرح الأحداث في
العصر القديم حوالي العصر المحوريّ حسب تسمية كارل ياسبرز. وفي حوالي
القرنين الرّابع والخامس قبل عصرنا، ظهر بشكل متواز في قارّات عديدة أفراد
قطعوا مع العادة واقترحوا فلسفات وروحانيات أكثر استبطانا. كان هذا حال
بوذا في الهند ورسل بني إسرائيل والفلاسفة الإغريق (سقراط). كانت هذه
الاختراقات الرّوحيّة هي العلامة على أوّل قطيعة مع النّظام التّقليديّ.
بشكل أعمّ، فإنّ الفرد باعتباره شخصا يمارس رأيه الخاصّ به ويدافع عن
مصالحه الخاصّة ليس اختراعا غربيّا. إنّه موجود في جميع المجتمعات
الإنسانيّة. لقد تحدّث البعض عن المجتمعات الشّموليّة التّقليديّة وكأنّها
قرى نمل لا وجود فيها للفرد بل هو ذائب في المجموعة. إنّها صورة مغلوطة.
فالنّاس في المجتمعات المسمّاة "بدائيّة" أو "تقليديّة" هم أناس
"متفرّدون" حقّا، بكلّ ما تعنيه الكلمة من قدرة على التّوجيه الشّخصيّ ومن
اللّعب مع القواعد المشتركة. ولقد بيّن ساموال بوبكين جيّدا في السّابق،
في كتاب حول المزارعين التّونكينيين(The Rational Peasant, 1979) ، كيف
أنّ نفوذ المجموعة يمكن أن يتوافق مع حاسّة الحساب الفرديّ المتنامية.
لهذا، من الضّروريّ القيام بتمييز جوهريّ بين التّفرّديّة individuation
والفردنة individualisation. فالفرد "المتفرّد" هو معطى كونيّ. ستجده
أينما حللت في الفضاء والزّمن الإنسانيين. أمّا الفردانيّة بالمقابل، فهي
تحيل إلى نمط مخصوص من تكوّن الجماعيّ. إنّها ترتبط بالسّعي إلى بناء نظام
اجتماعيّ وسياسيّ قائم على الفرد وحقوقه. إنّ مسار الفردنة هذا ميزة تختصّ
بها الحداثة الغربيّة.
ينزع
التّاريخ الكونيّ اليوم إلى إعادة النّظر في تاريخ العالم من منظور جديد.
فكلّ ما اعتقدنا أنّه خصوصيّة غربيّة – الفكر العقلانيّ، التّقنية
المتطوّرة، أشكال السّوق – كانت موجودة فعلا في حضارات أخرى، صينيّة أو
هنديّة مثلا. ألا ينطبق هذا على الفرد أيضا؟ هذه معضلة ! يبدو لي أنّ ما تسمّيه بشيء من العجلة "تاريخا كونيّا"، وما
هو في حقيقة الأمر سوى تيّار إيديولوجيّ مخصوص من هذا التّاريخ العريض،
يحملنا من خطأ إلى آخر. لقد تصوّر التّاريخ الغربيّ نفسَه لزمان طويل ، في
الفلسفة الهيجليّة ثمّ الماركسيّة، على أنّه قمّة التّاريخ الكونيّ
وذروته. كان يريد أن يكون هو المدى الّذي كانت جميع المجتمعات صائرة إلى
الاتّحاد به. لكنّ هذه الفكرة أُخضعت إلى نقد قاس ومشروع. ويمكننا أن
نعتبرها اليوم ميّتة تقريبا. ولكنّ الانتقال من طرف إلى آخر، كما تقوم
بذلك الأطروحات الّتي ذكرتها أنت، لا يجعلنا نتقدّم أكثر. من العبث والخطأ
أيضا، في تقديري، التّمسّك بأنّ الغرب الحديث لا خصوصيّة له، وأنّ جميع
الحضارات قد سلكت إجمالا مسلكا مماثلا. هناك تميّز قويّ فيما جرى في
أوروبّا، ثمّ في الولايات المتّحدة منذ القرن السّادس عشر، تميّز لم تحمله
أيّة حتميّة تاريخيّة، وليس الغاية الّتي كان التّاريخ كلّه مقدّرا لأن
يصير إليها، ولكنّه بالمثل لا تعدمه قدرات جدّ خصوصيّة على أن ينتشر خارج
النّطاق الّذي اختُرع فيه.
الفردانيّة اليوم لم تعد خاصّيّة غربيّة… بل مازالت كذلك بشكل كبير بالنّظر إلى الدّرجة الّتي بلغتها عندنا،
ولكنّها تنزع إلى الانتشار في العالم بأسره. إنّها تنتشر بشكل متزامن مع
العلم والتّقنية ونماذج الاستهلاك والقيم الخاصّة بالغرب الّتي لا بدّ أن
نلاحظ أنّها تتقدّم في كلّ مكان.
إنّ فتنة النّموذج الغربيّ لا تقاوَم تقريبا لأنّ القوّة والثّروة
والرّفاهة المادّيّة – العيش لفترة أطول والأكل حتّى الشّبع – لا يمكن
رفضها. ولكنّنا استخلصنا من ذلك بشكل متسرّع أنّ القيم الّتي ترافقها كانت
كونيّة.
لا يمكن فهم التّوتّرات الثّقافيّة للعولمة إلاّ إذا أخذنا بعين الاعتبار
هذه الخصوصيّة في قيم الغرب. إنّ الشّعور بـ "الاغتصاب الثّقافيّ" الّذي
يرافق انتشار بضائعه ينبع من هنا. فلأنّ الغرب ينزع نحو فرض ثقافته وقيمه
(وهي ليست كونيّة بتاتا) على بقيّة العالم، فهو يفرز كذلك جبهة للرّفض.
تتطلّب العولمة الثّقافيّة إذن الفهم الجيّد لما هو متفرّد في الصّيرورة
الغربيّة.
الهوامش: 1- صيغة "زوال سحر العالم"، المستعارة من ماكس فيبر (1864- 1920)، تحيل
حسب هذا الفيلسوف الألمانيّ إلى زوال لا رجعة فيه للفكر الدّينيّ في
المجتمعات الحديثة، وهو مسار يشار إليه باسم "العلمانيّة".
2- دافع مارسيل ڨوشيه عن نفسه لأنّه تكهّن بنهاية الأديان مثلما يوحي
بذلك عنوان الكتاب. للتّوضيح، انظر "الدّينيّ بعد الدّين"، مع ليك فارّي،
ڨراسّاي، 2004. و "عالم زال سحره؟، لاتولياي، 2004.
الثلاثاء أكتوبر 23, 2012 3:29 pm من طرف free men