يذهب
بعض مهنيي الصحة من أطباء وممرضين إلى اعتبار المصابين بالأمراض المنقولة
جنسيا مرضى عاديين، مثلهم مثل المرضى الآخرين. ويميل البعض الآخر إلى
القول بضرورة تمييز هؤلاء المرضى ومعاملتهم معاملة خاصة، أشد قسوة. ففي
نظر بعض الأطباء، يستحق "المريض الجنسي" اللوم والقسوة. يقول أحد الأطباء:
"عندما أصل إلى لحظة الوقاية والتوصيات، أبين للمريض أنني لست مرتاحا ولا
راضيا عن سلوكه… فالإصابة بمثل هذه الأمراض من مسؤولية المصابين بها،
وبالتالي لا بد من إظهار شيء من الغلظة حتى لا يعيدوا نفس الخطأ… يكفي
التوفر على مستوى فكري أولي من أجل تجنب هذه الأمراض".
ولا يقف بعض الأطباء عند معاتبة تقنية محايدة بل يؤسسون خطابهم
الأخلاقي على الإسلام، وعلى الحديث النبوي القائل: "من رأى منكم منكرا
فليغيره بيده، فمن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف
الإيمان". ذلك أن الأمراض المنقولة جنسيا، الناتجة عن سلوك جنسي غير شرعي
في نظر هؤلاء الأطباء، تشكل منكرا يعطيهم الحق شرعا في تجاوز الخطاب الطبي
التقني المحض وفي الخوض في سلوك المريض وفي أخلاقياته. ويرى هؤلاء أن لحظة
الاستشارة فرصة لا ينبغي إهدارها لأن نفسية المريض هشة في تلك اللحظة ولأن
المريض مستعد للإنصات وتقبل الرسالة الوقائية، خصوصا الإسلاموية.
بشكل عام، تتأرجح تعليمات مهنيي الصحة الخاصة بالوقاية بين اتجاهين
متعارضين. مفاد الاتجاه الأول اقتراح تغيير السلوك الجنسي وتقييده بالزواج
وبالإخلاص الزوجي على اعتبار أن محاربة الأمراض المنقولة جنسيا تمر حتما
من محاربة كل العلاقات الجنسية غير الشرعية، دون استثناء، فهي كلها خطرة،
ولا داعي للتمييز بين علاقة بغائية عابرة وعلاقة غرامية قارة أو بين علاقة
سوية وعلاقة شاذة. أما الاتجاه الثاني فيقول باستعمال الغشاء الواقي دون
اعتبار شرعية السلوك الجنسي، بل دون النظر في كونه سويا أو شاذا.
طبعا، من حق كل مهني في الصحة أن يختار أحد الاتجاهين كقناعة شخصية
خاصة، لكن المشكل يكمن في الخلط بين القناعة الشخصية والسياسة (الصحية)
العمومية، وفي محاولة التوليف بينهما، خصوصا وأن تلك السياسة تدعو في
الوقت ذاته إلى الاستمساك وإلى الإخلاص وإلى الغشاء الواقي دون أن تربط
وسيلة (من بين تلك الوسائل) بشريحة معينة من الفاعلين الجنسيين. بتعبير
آخر، يعني أن تلك الوسائل موجهة إلى كل فاعل جنسي دون تمييز، بغض النظر عن
طبيعة توجهه الجنسي أو شرعية ممارساته الجنسية.
وقد أول بعض مهنيي الصحة (المستجوبين) تلك الثلاثية الوقائية بشكل
تدرجي بمعنى أن النصح يتم أولا في اتجاه الاستمساك، ثم في اتجاه الإخلاص،
وأخيرا في اتجاه استعمال الغشاء الواقي. وهو ما يزيل التناقض، في نظر
هؤلاء مهنيي الصحة التوفيقيين، بين اتجاه تغيير السلوك الجنسي وبين اتجاه
الاحتماء بالغشاء الواقي، وبين القناعة الشخصية والسياسة العمومية.
فعلا، أظهرت المقابلات التي أجريناها أن مهني الصحة يبدأ أولا بمحاولة
التأثير على المريض من أجل تغيير سلوكه الجنسي مستقبلا. وهنا يستعمل
المهني آلية التخويف بمعنى أنه يستعرض أمام المريض كل العواقب التي يمكن
أن تخلفها الأمراض المنقولة جنسيا. من بين تلك العواقب، يذكر العجز الجنسي
(البرودة) والعقم ثم إمكان التطور نحو أمراض غير قابلة للعلاج مثل الإيدز.
ثم ينتقل مهني الصحة إلى الوعظ والإرشاد باسم أخلاق قائمة على الإسلام.
يقول طبيب في هذا الصدد: "نطلب من النساء أن يخفن الله… ديننا يحرم علينا
فعل الشر… ننصحهن بالامتناع عن الزنا، بالزواج وبالإخلاص".
بعد التخويف والوعظ الديني، ينصح مهنيو الصحة باستعمال الغشاء الواقي.
لكن دراسة لوزارة الصحة[i] سنة 1997 أظهرت أن الغشاء الواقي يُنصح به في
تسعة في المائة فقط من الاستشارات الطبية في القطاع العمومي. وعلى عكس هذه
النتيجة، تدعي أغلبية المهنيين أنهم يوزعون الغشاء الواقي بالمجان على
المرضى في قطاع الصحة العمومية. وصرح بعض الأطباء بأنهم ينصحون الشبان
بحمل الغشاء الواقي معهم بصفة دائمة، تحسبا لكل علاقة جنسية "مباغتة".
وقال بعض الممرضين أنهم يلومون الشبان على عدم الذهاب إلى المراكز الصحية
قصد التزود مجانا بالأغشية الواقية قبل كل علاقة جنسية. وتسهيلا لحصول
الشباب على الأغشية، ينص مهنيو الصحة على أن ذلك لا يقتضي التسجيل في مركز
الصحة، بمعنى أن الشاب يحصل على الغشاء الواقي دون أن يدلي ببطاقة هوية أو
حتى باسمه. وقد أظهرت نفس الدراسة أنه رغم تحفظات الساكنة، فإن استهلاك
الغشاء الواقي في تصاعد مستمر (مليون ونصف سنة 1990، سبعة ملايين سنة
1993، خمسة عشر مليونا سنة 1996 على سبيل المثال).
صحيح أن وزارة الصحة من خلال البرنامج الوطني لمحاربة الإيدز تنصح
باستعمال الغشاء الواقي، واستطاعت في السنوات الأخيرة أن تقوم بإشهار ذلك
عبر الإذاعة والتلفزة. لكنها لم تجرؤ أبدا على محاولة إضفاء الشرعية على
العلاقات الجنسية غير الزوجية، وبالخصوص على العلاقات الجنسية غير
البغائية. لم تجرؤ أبدا على اعتبار الحق في الجنس من حقوق الإنسان
الأساسية بغض النظر عن الوضع الزوجي وعن التوجه الجنسي، وهي تعلم أن
الوقاية الحقيقية تمر بالاعتراف بالحق في الجنس، وأن الجنس الحر والمسؤول
هو الكفيل لوحده أن يحمي نفسه من خطر الأمراض. بتعبير آخر، تحاول وزارة
الصحة التوفيق بين التحريم الشرعي والقانوني للجنسانية غير الزوجية وبين
ضرورة حمايتها. في هذا الإطار، يتم توزيع الغشاء الواقي بصفته أداة تقنية
ناجعة دون أدنى اقتناع مؤسساتي بقيمه الأخلاقية المدنية الأصلية. فالسياسة
الصحية تابعة وخاضعة لإسلام الدولة، وهو الشيء الذي يجعلها خجولة ومحتشمة.
ومن ثم يغدو قطاع الصحة مجرد قطاع تقني عاجز تماما عن علمنة الجنس. إن
غياب القناعة العلمانية في صفوف مهنيي الصحة وفي المؤسسة بشكل عام ينعكس
سلبا على درجة ترويج واستعمال الغشاء الواقي.
فإذا كان مهني الصحة غير مقتنع بالأداة ويعتبرها شرا لا بد منه،
فبالأحرى المريض والساكنة. وبالتالي يبدو وكأن الغشاء الواقي مفروض من فوق
ومن خارج على مهنيين، وعلى ساكنة، وكلاهما غير مقتنع به لكن لا أحد منهما
قادر على محاربة انتشار الأمراض المنقولة جنسيا عن طريق الحلول الأخلاقية
أو/والإسلامية. أمام عدم نجاعة هذه الحلول وأمام عدم واقعيتها، يضطر مهني
الصحة في نهاية المطاف إلى النصح باستعمال الغشاء الواقي، لكن بشكل تدرجي.
يقول طبيب: "إذا نصحنا المريض باستعمال الأغشية الواقية، سيعتقد أننا
نشجعه على مخالطة العاهرات… علينا أولا أن ننصحه باجتناب العلاقات غير
الشرعية، وبالزواج… وفي الأخير، ننصحه بالغشاء الواقي".
لا مفر إذن من تسجيل التوجه المحافظ في صفوف مهنيي الصحة، وعلى رأسهم
الأطباء. فهم لا يتصورون تدبيرا أخلاقيا للجنس غير التدبير الإسلامي. وهنا
يظل الغشاء الواقي اختيارا ثانيا وثانويا ويصبح مجرد أداة مذمومة للاحتماء
من أمراض مذمومة تنتج عن علاقات جنسية مذمومة (في نظرهم). إن الغشاء
الواقي في نظر معظم مهنيي الصحة المغاربة شر لا مفر منه، فهو يتضمن أخلاقا
جنسية مدنية وعلمانية مذمومة ينبغي تجاهلها، إلا أنهم يجيزون عمليا
استعمال الغشاء ويروجونه بشكل وظيفي نفعي. وهو موقف يمدد الدرس الفقهي (من
حيث مراعاته المبدئية للتحريم الإسلامي للجنس غير الزوجي) ويقطع مع ذلك
الدرس في الوقت ذاته بفضل "الإجازة العملية" وحث الشباب على استعمال
الغشاء الواقي في العلاقات الجنسية غير الزوجية. من هنا يبين مهنيو الصحة
أنه ليس من الممكن ربط الجنس بالزواج ويقرون "رسميا" بوجود جنس غير
مؤسساتي يفرضه تطور المجتمع المغربي. إنها شبه قناعة علمانية، لكن عملية
فقط، للجنس.
من نتائج التأرجح بين الموقف الإسلاموي القائل بمحاربة الفساد الجنسي
والموقف الطبي-الصحي الداعي إلى حماية الجنسانية غير الزوجية بروز سؤال
التربية الجنسية. وهو السؤال الذي بزغ بشكل تلقائي أثناء المجموعات
البؤرية التي نظمناها مع مهنيي الصحة في مختلف المناطق المغربية. فما هو
تعريف مهنيي الصحة المغاربة للتربية الجنسية؟ يميز مهنيو الصحة المغاربة
بين خمسة مضامين في التربية الجنسية:
— مضمون بيولوجي يحيل على كل المعارف العلمية المتعلقة بالتشريح الجنسي
وبالفيزيولوجيا الجنسية. ويقوم هذا المضمون على التقابل بين ما هو صحيح
(من المعلومات) وما هو خاطئ.
— مضمون منع-حملي يتعلق بالحمل وبتقنيات موانعه، وهو المضمون الذي يقوم على التقابل بين ما هو نافع وما هو غير نافع.
— مضمون وقائي يتعلق بالأمراض المنقولة جنسيا، بأنماط انتقالها وبمخاطرها، ويقوم على التقابل بين السليم والضار.
— مضمون شبقي يتعلق بتقنيات الجماع وتحقيق اللذة، ويقوم على التقابل بين الرضا والحرمان.
— مضمون معياري يضع فاصلا بين المباح وغير المباح (دينيا، قانونيا واجتماعيا)، على مستوى السلوكات والممارسات.
واضح أن هذه المضامين الخمسة متداخلة فيما بينها، لكن المضمون المعياري
يتميز بكونه يتحكم في كل المضامين الأخرى، وبشكل أدق في طريقة التعامل
معها في إطار التربية الجنسية. وبالتالي فإن طبيعة المعلومات الوضعية (عن
بيولوجيا الجنس وعن موانع الحمل وعن الغشاء الواقي وعن تقنيات المتعة)
التي ينبغي تمريرها إلى الفاعل الجنسي تتحدد انطلاقا من النظام المعياري
السائد في المجتمع. ومن ثمة لا تظل التربية الجنسية مضمونا مجردا يصلح
للتطبيق دون اعتبار خصوصية المجتمع. فمثلا، لا مجال لتبني منظور الإباحة
باعتباره ملازما لبراديغم التربية الجنسية وتحويله إلى قيمة تفرض نفسها
على كل المجتمعات. من خلال هذه التحفظات، يعبر مهنيو الصحة المغاربة عن
ضرورة وضع تربية جنسية ملائمة، بمعنى أنهم لا يعتبرونها شيئا جاهزا بشكل
مسبق. يقول أحد الأطباء : "التربية الجنسية ليست مبناة مسبق… إننا في بلد
إسلامي ولا بد من إدخال بعض الأشياء عليها".
في نفس الاتجاه، يضيف طبيب آخر: "هدف التربية الجنسية هو تجنيب
الشذوذ، أي المثلية التي تهدم الصحة، والحث على الزواج وعلى الإخلاص".
ويضيف آخر: "تعني التربية الجنسية في الإسلام منع الناس من القيام ببعض
الأشياء… مثلا يجب أن نطلب من الفتاة أن تأخذ حيطتها… فإذا فقدت بكارتها،
فإنها تسقط في البغاء بشكل مبكر". ويلخص آخر كل هذه المواقف حين يقول: "إن
التربية الجنسية لا تعني التحرر الجنسي". الجدير بالملاحظة هنا أن إرادة
أسلمة التربية الجنسية تتشدد كلما تعلق الأمر بالفتاة. فيرى الكثير من
المبحوثين أن المضمون الشبقي لا ينبغي أن تتعلمه الفتاة قبل الزواج، ولو
كمعارف نظرية: "عليها أن تحتفظ بنفسها إلى زوجها… أن تظل عذراء… وبالتالي
ما الذي ستجنيه من التربية الجنسية؟ لماذا سنفسر لها كيف يتم الوطء"؟ من
أجل هذه الاعتبارات، اقترح البعض التخلي عن عبارة "التربية الجنسية"
واستبدالها بعبارة "التربية الصحية المطببة". فهذه في نظرهم عبارة تقنية
تعيق بروز كل القيم الجنسية التي لا تخضع الجنس للزواج (وللغيرية
hétérosexualité).
ويضيف مهنيو الصحة أن التربية الجنسية ليست من مهامهم لوحدهم، ويقولون
بضرورة مشاركة الأسرة والمدرسة فيها. لكن ما هو جدير بالملاحظة أنهم يقرون
في غالبيتهم بأنه لا ينبغي إشراك الأب في تربية أطفاله جنسيا، وخصوصا
بناته. فكثير منهم أشار إلى خطر وقوع زنا المحارم بين الأب والبنت من جراء
الفعل التربوي الخاص بالجنس، كما لو أن الحديث عن الجنس له قوة تحريضية
تثير الرغبة.
ولم يشر أحد لمثل هذا الخطر بين الأم والابن. والواقع أن إخراج الأب
من التربية الجنسية داخل الأسرة لا ينتج فقط عن إرادة تجنب خطر زنا
المحارم، بل يحيل على ضرورة الاحتفاظ للأب بهيبته في فضاء الأسرة. وهذا
يعني أن الحديث عن الجنس يفقد، في نظر بعض مهنيي الصحة، كل هيبة وكل وقار
للأب. أما الأم، فيمكنها الخوض في المسائل الجنسية مع أبنائها وبناتها دون
خوف من فقدان الهيبة لأن علاقة الأم بأطفالها لا ينبغي أصلا أن تطبعها
هيبة. وفي هذا الموقف تمديد للتصور الأبيسي عن الأسرة وعن الأدوار الجنسية
التمييزية. لكن الأخطر من هذا، في موقف معظم مهنيي الصحة، أنهم ينتهون إلى
القول بأن التربية الجنسية ينبغي أن تكون مهمة خاصة تتم في الفضاء الأسري
الخاص. وفي ذلك ربط بين الجنس والخاص، بين الجنس والمخفي، بين الجنس
والثانوي. إن هذا الموقف يتعارض تماما مع مفهوم التربية الجنسية كسياسة
عمومية ضرورية.