لم تطرح مسألة العلمانيّة أو اللائكيّة في تونس مثلما تُطرح هذه الأيّام،
وبدأت تأخذ حيّزا كبيرا من اهتمام الجمهور بين مؤيّد ومعارض، بين متظاهر
للمطالبة بها، ومتظاهر لرفضها، وانتقلت القضيّة إلى التلفزيون الوطني، ففي
كلّ مرّة يدعى فيها ممثّل أحد الأحزاب ليحدّثنا عن مشاعره تجاه الثورة ثمّ
عن مشاريعه بعد الثورة، فيسأله المقدّم : "هل أنت مع فصل الدين عن
الدولة"؟ حتّى بات هذا السؤال روتينيّا من ضمن الأسئلة التي ينبغي على
الضيف أن يجهّز الصيغة المناسبة للإجابة عنها، فلا يتلعثم أو يتردّد ويزن
كلماته بدقّة شديدة.
لا يخفى علينا أنّ لفظة اللائكيّة تعاني من الالتباس وسوء الفهم، تطوّع
منظّرو الوهّابيّة، عن طيب خاطر، لجعلها كذلك في قنواتهم الفضائيّة بل
وجعلها مرادفا للكفر والإلحاد، لكن فعلا فالتعريف في حدّ ذاته يؤدّي إلى
الريبة، حيث أنّ المواطن يشعر بأنّه فرد من الدولة، ففصل الدين عن الدولة
يعني فصل الدين عنه وعن المجتمع، أليس الأجدر، ومنعا لكلّ التباس أو إضاعة
الوقت في تفسير مفهوم الدولة، هو القول إنّ اللائكيّة هي فصل الدين عن
السياسة؟ فتصبح المسألة أكثر وضوحا ويتمّ حصرها في الاتّجاهين الفكريّين
المختلفين وهما : العلمانيّة والدين السياسي.
ويزداد الالتباس في ذهن المستمع أو القارئ حين يؤيّد "العلمانيّ" رأيه
بقول القرآن: "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" أو غيرها من الآيات التي
تنحو هذا النحو، فيوحي هذا القول بأنّه دعوة ضمنيّة للكفر، فلا غرابة أن
ينتهزه الأصوليّون لإثارة العواطف الدينيّة في مجتمع محافظ وتخويفهم بأنّ
الزنا سيصبح مشاعا في الطريق، وبإمكانيّة فتح حانة أمام مسجد وغير ذلك من
الأساليب.
فتعريف لفظة العلمانيّة بصورة تدعو إلى الالتباس ثمّ الخطأ في الاستشهاد
بالآيات القرآنيّة التي تدعّمها ثمّ حرب الأصوليّين ضدّها، أدّى كلّ هذا
إلى أن يرفضها المجتمع رغم، وهذه هي المفارقة، أنّه مجتمع مع العلمانيّة
في غالبيّته الساحقة.
فالقانون هو الذي ينظّم المجتمع في تونس، وكلّ فرد عليه احترام القانون
ولا يختلف اثنان على هذه المسألة، وهذا القانون وإن كان يمتح في مواضع من
الدين الإسلاميّ (كعدم مساواة المرأة في الميراث) فإنّه في أغلبه وضعيّ
بشريّ، فالسارق يوضع في السجن ولا تقطع يده، ويمنع تعدّد الزوجات، ولا
توجد محاكم دينيّة، ولا ضير في التبنّي، وغير ذلك، وإذا قام البعض بمحاولة
فرض أحكام الشريعة بدل القانون لوقف في وجهه أغلب الشعب التونسي، ففصل
الدين عن قوانين الدولة أمر واقع لا يجادل فيه إلاّ شرذمة من الحالمين
بالخلافة الإسلاميّة، بينما غالبيّة الشعب معتدلون ولا مشكلة لديهم مع هذه
القوانين الوضعيّة، وبالتالي لا مشكلة لديهم مع العلمانيّة "الجزئيّة"،
وإذا كانت هناك مسائل تتطلّب إعادة النظر فيها كقانون الميراث مثلا وإعطاء
حقوق المرأة كاملة فينبغي أن يتمّ تناولها من هذا الإطار، أي إطار المجتمع
المعتدل الذي يتعامل مع روح النصّ، لا من إطار "من شاء فليؤمن ومن شاء
فليكفر".
الشعب التونسيّ شعب عربيّ مسلم، ومن عبث القول ومن الحرث في البحر أن تتمّ
المطالبة بحذف عبارة "الإسلام دينها" من الدستور، لأنّ هذا الفعل هو أكبر
هديّة يمكن تقديمها للأصوليّين بل هو أرضيّة مناسبة لتحويل الناس من
معتدلين إلى أصوليّين.
العلمانيّة ليست حذف عبارة أو إضافتها إلى الدستور، فالولايات المتّحدة
دولة علمانيّة حسب الدستور ورغم ذلك فإنّ الرؤساء الأمريكيّين يقحمون
الدين في السياسة، كبوش مثلا، أو أن تحمل العملة الرسميّة في الدولة سنة
1956 لفظ "لنا ثقة في الله" وهذا مناف أصلا للعلمانيّة ونحن نعرف أنّ
غالبيّة الشعب الأمريكي متديّن جدّا، وبريطانيا دولة دينيّة حسب الدستور
بينما سياساتها علمانيّة بحتة وتحمي الأديان والأقلّيات وحريّة التعبير،
بل يمكننا الإشارة إلى بلدان "شبه" علمانيّة كألمانيا التي يبدأ دستورها
بلفظ "واعين بواجبنا أمام الله" وتفرض ضرائب دينيّة موجّهة لفائدة
الكنيسة، وهذا مخالف لمفهوم العلمانيّة الكاملة (كالمثال الفرنسي) ورغم
ذلك فلا أحد يمكنه القول إنّ ألمانيا ليست علمانيّة فعلا في سياساتها. وفي
حمايتها للأديان والأقلّيات، فالقضيّة ليست إضافة جملة أو محوها من
الدستور التونسي فنتحوّل بقدرة قادر من وضع إلى وضع آخر، وإنّما المسألة
مسألة وعي وعقليّة وتطبيق ورؤية معتدلة منفتحة على الآخر، لا عبارة مكتوبة
على ورقة، وهذه الأمر فهمه بورقيبة منذ أكثر من خمسين سنة، ولا ننسى أنّ
الدستور التونسيّ في فصله الثامن يشير إلى : "ولا يجوز لأيّ حزب أن يستند
أساسا في مستوى مبادئه أو أهدافه أو نشاطه أو برامجه على دين أو لغة أو
عنصر أو جنس أو جهة"، كما أنّ الفصل الخامس يشير إلى : "تضمن الجمهورية
التونسية الحريات الأساسية وحقوق الإنسان في كونيتها وشموليتها وتكاملها
وترابطها …تقوم الجمهورية التونسية على مبادئ دولة القانون والتعددية" فإن
لم تكن هذه هي العلمانيّة فكيف تكون إذن؟ هل توقّف الأمر على الجملة
الأولى التي هي في الأساس من باب الهويّة؟ وتغييرها قد يُعتبر مسّا من
الهويّة؟
لن يذهب الشعب إلى الانتخابات باحثا عن رئيس يكثر من إسباغ الوضوء أو
مؤدّيا للفرائض أو قائما يصلّي طيلة الليل بل سيذهب باحثا عن رئيس يحافظ
على الديمقراطيّة والتعدّديّة واحترام حريّة التعبير وحقوق الإنسان، ويقوم
بواجبه كموظّف في الدولة لفترة محدودة، ثمّ يُخلي مكانه مشكورا.
حسب رأيي، لا تستحقّ مسألة العلمانيّة في تونس كلّ هذه الضجّة، رغم أنّه
يحلو للبعض/الشرذمة المنادين بالخلافة الإسلاميّة، من اللعب على البسطاء
وتسخيرهم أبواقا لهم فيجعلون اعتراضهم من قبيل: "ها هي تونس علمانيّة منذ
عشرين سنة، فما الذي حصّلنا سوى القمع ومحاربة الدين والزجّ في السجون؟"
وهذا قول زبد يذهب جفاء ما أن يحطّ على شاطئ الوقائع، فتونس شبه علمانيّة
دستورا ولكنّها دكتاتوريّة تطبيقا، فلو أنّها كانت تطبّق العلمانيّة فعلا
لما زجّ بأيّ منهم في السجن، بل أين ذهب الإسلاميّون الذين هربوا من
البلد؟ هل ذهبوا إلى أفغانستان؟ ألم يذهبوا إلى بلدان علمانيّة كفرنسا
وغيرها وهي التي حمتهم ووفّرت لهم الظروف المناسبة لإقامة شعائرهم
الدينيّة، فكيف يرفضون العلمانيّة وهي أوّل من حمتهم وآوتهم وكيف يخونونها
وهي أوّل من أعادت إليهم حقوقهم الدينيّة؟ أم أنّه المثل الذي يقول: "ياكل
في الغلّة ويسبّ في الملّة"؟ كما أنّ مقولة "الإسلام دين ودولة" أكبر كذبة
بثّها أهل السياسة لتوطيد حكمهم، والبقاء على كراسيهم، ولنا في قول ملك
السعوديّة أسوة حسنة، حينما بدأت تخرج مظاهرات على استحياء تطالب بتغيير
النظام، فما كان ردّه إلاّ أنّ الشريعة الإسلاميّة تُحرّم الخروج على
الحاكم، وتفنّن المشايخ في المساجد في تدعيم قول السلطان أدام الله ظلّه.
العقيدة من الدين بينما السياسة من الدنيا، ولنا أن نذكر قول النبيّ في
صحيح مسلم: "أنتم أعلم بأمور دنياكم" أو بأكثر توضيح عند أحمد وابن ماجة:"
إن كان شيئا من أمر دنياكم فشأنكم به، وإن كان شيئا من أمر دينكم فإليّ"
فما هو موقع هذا الحديث عند الذين يزعمون أنّ الإسلام دين ودنيا؟
لا شكّ عندنا أنّ بعض الدول العربيّة في حاجة ماسة وأكيدة وضروريّة
للعلمانيّة، دستورا وتطبيقا، وهي الدول التي يوجد فيها أكثر من دين واحد
كالجمهوريّة المصريّة، ومن التعسّف وإجحاف حقوق المواطنة أن يقوم قانون
الدولة على التشريع الإسلاميّ والحال أنّ فيها نسبة لا بأس بها من
المواطنين المسيحيّين، وفيها صدام عقائديّ قد يؤدّي إلى الفرقة والفتنة،
وماذا لو فرضنا أنّ نسبة ولادات المسيحيّين في مصر قد ارتفعت بطريقة غير
مسبوقة، وانخفضت عند المسلمين لتصبح الدولة بعد خمسين سنة مثلا ذات
أكثريّة مسيحيّة، فهل يرضى المسلمون وقد أصبحوا قلّة أن يقوم قانون الدولة
على التشريع المسيحيّ؟ أم تراهم سينادون وقتها بالعلمانيّة؟!
وكذلك الدول التي تشكو من التعدّد الطائفي كالعراق مثلا وتصادم الشقّين
السنّي والشيعي، فالعلمانيّة في هذا المثال تصبح ضرورة وحاجة
"إسلاميّة-إسلاميّة" على حدّ تعبير جورج طرابيشي الذي يقول: "من منظور هذه
التعدّديّة الطائفيّة الإسلاميّة، فإنّ قضيّة العلمانيّة في العالم العربي
ليست فقط قضيّة مسيحيّة-إسلاميّة، كما يطيب لخصوم العلمانيّة تصويرها، بل
هي أيضا، وربّما أساسا، قضيّة إسلاميّة-إسلاميّة" (هرطقات2، العلمانيّة
كإشكاليّة إسلاميّة-إسلاميّة، دار الساقي بالاشتراك مع رابطة العقلانيّين
العرب، بيروت، 2008، ص 11).
لكنّ القضيّة مختلفة في تونس، فالشعب متجانس وموحَّد، إن كان على مستوى
الدين فهو الإسلام وإن كان على مستوى المذهب فهو المالكي السنّي، وإن كان
على مستوى الأصول فهو الاعتدال والتسامح، والشعب يطالب بالديمقراطيّة
والتعدّديّة وحريّة التعبير وهذا هو هدف العلمانيّة، ويطبّق القانون
الوضعيّ في إطار المواطنة وحقوق الإنسان، وهذه هي العلمانيّة، فتونس
مؤهّلة، ربّما أكثر من غيرها، بفضل هذه الظروف وغيرها، أن تحتلّ مكانا ضمن
الدول المتقدّمة إذا تمّ القضاء على الفساد، ووُزّعت خيرات البلد بصفة
عادلة ومدروسة وتمّت الإحاطة بالجهات الداخليّة وتحديثها وتمدينها، لا
بمجرّد تغيير كلمة في الدستور، والرخاء الاقتصاديّ يؤدّي إلى المدنيّة،
والمدنيّة تؤدّي إلى التحضّر، والتحضّر يؤدّي إلى قبول الرأي المخالف،
حتّى وإن كان عقائديّا، بأكثر ليونة وتسامح.