تحدّثت في مؤتمر عُقد بعد ثلاثة
أسابيع من 11 سبتمبر2001 عن القيم العلمانيّة في سياق نقاش عن «القيم
الآسيويّة وخيارات اليابان». من وجهة نظري ليس هناك شيء جوهريّ فيها.
فالإشارات السياسيّة لها تمثّل نسخاً جديدة فقط من انقسام أكبر. يمكن أن
تكون جذورها موجودة في أفكار تتعلّق بالمشرق والمغرب. أسهم اليابانيون
إسهاماً مبكّراً في هذا الانقسام باستعمال تويو «المحيط الشرقي» وسييو
«المحيط الغربي» وأثّروا على الصينيّين لتبنّي المصطلحات نفسها، دونغ يانغ
وإكسي يانغ. أصبحت كلمة «آسيوي» ما بعد الحرب العالميّة الثانية تصحيحاً
لكلمة «شرقيّ». على أيّة حال، كانت كلا المجموعتين من المصطلحات البديلة
مشتقّة في الحقيقة من الاستعمال الأوروبيّ.
إنّ التوضيح الأخير «للقيم العلمانيّة» هو ردّ على الضغط الذي قادته
أمريكا على بعض الحكومات أعقاب نهاية الحرب الباردة، خلال انقسام آخر،
الرأسماليّة «الغربيّة» والشيوعيّة «الشرقيّة»، دعمت فكرة «التوازن
المركزي» في السياسة العالميّة. كان ذلك الضغط مصحوباً بملاحظة الانتصار
الذي بدا أنّه يشكّل مهمّة جديدة لتمدين العالم بالمصطلحات العلمانيّة،
على سبيل المثال، التركيز على الديمقراطيّة، حقوق الإنسان واقتصاد سوق
عالميّة حرّة. استرجعتنا الاستجابة الآسيويّة إلى الاستعمال الأصليّ
للأفكار اليابانيّة والصينيّة عن التأسيس «الشرقي» «تاي» والتطبيق «الغربي»
«يونغ» السائد في نهاية القرن التاسع عشر. يمكن أن يعود التشديد على تاي
إلى فكرة كوكوتاي أو غوتي «المؤسسات الوطنيّة» في القرن التاسع عشر حيث من
الممكن أن يستعمل التعلّم الغربي الحديث «يونغ» للدفاع.
بشكل مفهوم، أعادتنا الأحداث الأخيرة إلى «صدام الحضارات» لهنتنغتون.
هل نواجه الآن صراعاً بين الحضارتين الإسلاميّة والمسيحيّة حيث سيتعين
على«الكونفوشيوسيون» من شرق آسيا اختيار أحد الطرفين؟ يضلّل هنتنغتون في
استعماله كلمة «الحضارة» وربّما حتى أكثر من ذلك، في اقتراح نوع من التعاون
بين الإسلام والكونفوشيوسيّة. كعالم سياسيّ، كان يصف بشكلٍ رئيسيّ استمرار
علاقات القوى العظمى التي ستعيدنا إلى مجموعة أقدم من التقسيمات المستمدّة
من التقاليد الدينيّة المختلفة ونظام القيمة. على أيّة حال، النضال الذي
صوّره، ستقوده القوّة العلمانية المعنية به في الغرب، وهذا من شأنه أن يكون
محكوماً بروح علميّة وإنسانيّة.
هذا هو العامل العلماني الذي يميّز عصرنا. حيث صورة الحضارات كلاعبي
قوة في القضايا العالميّة تشكّل حلقة زائفة. نظام القيمة الرئيسي في
العالم اليوم متميّز تماماً في علاقته الخاصة مع العلمانيّة. ستفهم هذه
التمايزات بشكل أفضل إذا ما تمّ التعرف على نظم القيمة من حيث تناولها من
ثلاثة مصادر مختلفة.
أولاً: الأديان التوحيديّة، الدينان المسيطران المختلفان من هذه
الأديان هما اللذان لديهما القيم الدينيّة القويّة. أحدهما المسيحيّة في
أشكالها المتعدّدة. الآخر هو الإسلام على الأقلّ في قسمين رئيسين. ما يشترك
فيه كلاهما هو مهمة إحضار الإله الحقيقي الواحد «تلك هي، الحقيقة الوحيدة»
إلى العالم. كان هذا مصدر التنافس المستمر بينهما. في الأزمنة الحديثة،
نشأ القسم الرئيسي عن مواقفهم المختلفة جدّاً نحو صعود العلمانيّة. حدثت
بداية مقاومة لدى المسيحية لكنّهم قبلوا الفصل بين الكنيسة والدولة في
النهاية، وصلت القيم العلمانيّة إلى مكانة رئيسة بين الدول ذوات الخلفية
المسيحيّة. مع الإسلام، كان مستحيلاً الأخذ بهذا الاتجاه كلّه، فعلى الرغم
من الجهود الفرديّة للقادة السياسيين والمفكّرين والعلماء الذين أدركوا
القاعدة العلمانيّة للعالم الحديث. كيف يمكن للمرء أن يكون علمانيّاً دون
أن يفقد إيمانه، قوبل هذا بالعديد من العوائق. يبدو أنّ الجواب للعديدين
اليوم هو أنّ حماية الإسلام أفضل من الفوائد المادية للقيم العلمانيّة.
ثانياً: أديان «جنوب أسيا»، بشكل بارز الهندوسيّة والبوذيّة. تؤّكد
هذه الأديان على القيم التي ترتكز على الصفاء الداخلي، سواء عن طريق العديد
من الآلهة أو العديد من الطوائف، كما في الهندوسيّة، أو التنوعات التي
تسمح للبوذية بالنزوح والتجذّر بعيداً عن الوطن. في رفض الإله أو الآلهة،
يبدو هذا للبوذية كنوع من الهرطقة، لكنّها في الجوهر، لاتزال تركّز على
السكون الداخلي الذي نشأ من نفس المصدر كما هو الحال في الهندوسيّة. النقطة
الأساسيّة للعمل على تأكّيدها هنا هي تلك، بينما ولا واحدة من هذه الأديان
دفعت بالحلول العلمانيّة إلى مشاكل العالم. كلاهما قادر على إجازة واعتناق
القيم العلمانية التي لا تشكل تهديداً لعقائدهم الرئيسة حسب رؤيتهم.
ثالثاً: هناك العقائد العلمانيّة المأخوذة من العالم الإغريقي-
الروماني وشرق آسيا. كلاهما مرّ بالتحولات خلال الألفيتين الماضيتين. وتقود
أوروبا الغربية الآن المرحلة الجديدة من هذه العقائد وامتداداتها في
الأمريكتين وأستراليا وعروضاتها التي تتنافس إلى امتداد أكبر أو أقلّ في
شرق آسيا. لكنّ أصولهم المنفصلة لا تزال هامة بما فيه الكفاية لخلق توتر
قويّ بينهم. يدّعي كلاهما عالميّة العلمانيّة التي يمثلونها، أحدهما يدّعي
هذا بشكل كبير عبر روح قانونيّة وعلميّة مجسّدة في الأفراد الأحرار، والآخر
عبر تأكيده على الانسجام والأخلاقيات الاجتماعيّة.
دعوني أضيف إنّ الروح الإغريقية- الرومانيّة نفسها قد ضلّت طريقها
وتوجب عليها أن تكون متجدّدة بإنعاشها بين العلماء المسيحيّين. لذلك،
عدّلتها قيم الرسالة التبشيريّة المسيحيّة. على الجانب الآخر، لم تكن ناجحة
في تعديل قيم الرسالة الإسلاميّة على الرغم من حقيقة أنّ النصوص
الكلاسيكيّة التي تصوّر الروح كانت معروفة للعلماء المسلمين الأوائل. إنّ
انفصال الدولة عن الكنيسة عزّز النجاح المسيحي بشكل كبير بعد عصر النهضة.
هيّأ هذا الظرف الضروري للنخب الفكريّة تحقيق تقدّم في الثورة العلميّة
والتكنولوجيّة التي شكّلت العالم الحديث اليوم.
أما بالنسبة للعلمانيّة الأخلاقيّة الكونفوشيوسيّة، اكتشفت أنّ فكرة
شيشو «وجود هذا العالم» كانت ضعيفة بنهاية سلالة هان «القرن الثالث بعد
الميلاد». توجبت أن تكون أيضاً متجدّدة بالأديان التي لبت احتياجات الناس
الروحيّة. تم معارضتها وتعديلها من قبل ماهايانا البوذية التي جاءت من
الهند، بالإضافة إلى عقائد لا تزال تحظى بشعبية كبيرة بين أغلبيّة الناس
الذين عاشوا تحت المبادئ الكونفوشيوسيّة للحكم العلماني. تشكل الكوزمولوجيا
البوذيّة - الكونفوشيوسيّة الأساس لفكرة الحكم بالفضيلة لا يتطلب انقساماً
بين الله والقيصر، إعادتها غير ضروري لانفصال السماء والحاكم. لذلك نقص
المراكز الثنائيّة، الذي ميّز نظام القيمة الصينيّ عنها في أوروبا. بينما
ألهم بالأهداف العلمانيّة، أنواعاً مختلفة من المعاهد الشاملة كانت مطوّرة
لتحقيق إنجازاتهم.
مع الأخذ بعين الاعتبار أنظمة القيمة المهيمنة الثلاثة في العالم اليوم، فإنّ أفكاري على المستقبل كالتالي:
من الواضح أنّه ليس هناك مجموعات القيم العلمانيّة بشكل صرف. عليها أن
تلبي الاحتياجات الروحية، وما عزّز العلمانية هو دينان على الأقلّ،
المسيحيّة والبوذيّة. السؤال هو ما إذا ارتفعت علمانيتهم فوق الأديان التي
كانت تتغذّى عليها أو ما إذا كانوا سيبقون مقسّمين بالجذور الروحية
والأخلاقيّة المختلفة التي لا يمكن التوفيق بينها بسهولة.
في الأزمنة الحديثة، اعتبرت القيم العلمانيّة عالميّة. على أية حال،
استعملتها الدول القومية بشكل انتقائي، حاول كلّ منهم الحصول على الدعم
بالتوجيه الإلهي للتقاليد الدينيّة الموروثة. كان هذا مصدر الصراع المستمر،
خاصة بين القوى العظمى التي سعت إلى الهيمنة الإمبريالية وخاضت حربين
عالميتين. نتيجة لذلك، أضعفت العلمانية القوميّة على نحو ثابت السمات
العالميّة لنظام القيمة.
على الرغم من هذا، كانت العلمانية مسيطرة جدّاً بحيث لم يكن لديها أعداء
متحلّون بالثقة من الأديان التقليدية لأكثر من قرنين، خاصة خلال العقود
الخمسة منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية. غطرسة العلمانيين أدت إلى نشوب
حرب أهلية بين تجمّعي القوّة، الرأسماليّة والشيوعيّة، التي قسمت العالم
وطالبته أن يؤمن بأنّ المنتصر هو الذي سيملك الحقيقة. عندما فاز أحد
الأطراف في النهاية، ربما بدا انتصار الرأسماليّة العالمية الحدّ النهائي
للبعض، لكن كشفت أيضاً للكثير من الناس الطاقات التدميرية للطرق العلمانية.
في هذا السياق بدأت الأديان الأقدم وتوضيحات المحدثين تجد أصواتها. ظلت
المقاومة ضدّ العلمانيين ضعيفة لعدة قرون. مؤخراً، وجدت قوتها في دفاع
أصولي ضدّ العلمانيّة التي تتغذى على بعض النتائج الواضحة للحرب الأهلية
العلمانيّة التي خضناها، وبشكل خاص يبدو أنّ الهوة اتسعت بين الفقراء
والأغنياء أكثر من السابق، حيث المصالح القومية الأنانيّة والضيقة كانت
طاغية، وحيث ممارسة الأقوياء المعايير المزدوجة لتحقيق مكاسبهم الخاصة. نمت
شكوكيّة قاعدة القوة العلمانية ذاتها وتدعو إلى حماسة المهمة لمقاومة تلك
القوة المسموعة ثانية.
عندما تعمّم القيم العلمانية وتعرض تقييداتها، تتحدّاها معارضة عالميّة.
بالنسبة للعديد، هناك حاجة إلى انقسام جديد لإبراز الفراغ الروحي الذي
يشعر به الكثير من الناس. لذلك، يشدّدون على القيم التي تناقض القيم
العلمانية لكي تضع دراما ليأس متنامٍ في سعي إلى جمع قوة حول العالم.
عقدتا العلمانية الحديثة هما الغرب وشرقا آسيا. يبدو أنّ الغرب واثق من
مجموعته الخاصة من القيم العلمانية. فقد حاولت كلّ من اليابان والصين تحسين
النسخ البديلة التي لديها، فالسابق منهما بإقرار مؤسسات محدّدة من أوربا
الغربية والولايات المتحدة مبكّراً، والأخير يختار بشكل نهائي «البدعة
الغربية» للشيوعيّة. كلاهما يسعى لإعادة تعريف ما قبلوا به من القيم
العلمانية الحديثة مثل تاي «تأسيس» باستعمال «يونغ» ما يمكنهم من ماضيهم
لتقليل الأضرار الروحية لشعوبهم.
أخيراً، أين يتوجّه مستقبل القيم العلمانيّة؟ يمكن أن توجد العلمانية
أكثر من اللازم. فشلت كلُّ من القيم الكونفوشيوسيّة والرومانيّة -
الإغريقية عندما كانت مسيطرة في مناطقها الخاصة. أعيد إحياء السابق منهما
بالإسلام، لكنها كانت متجدّدة فقط بمسيحيّة منقسمة. أعيد فهم القيم
الكونفوشيوسيّة عبر مزيج فريد من الأفكار التاوية والبوذية واستعادت
هيمنتها التي احتفظت بها حتى القرن العشرين. توحي هذه المقارنات إلى أنّ
العلمانية نفسها لا تستطيع إرضاء الروح الإنسانيّة. لكن ما الذي يستطيع
تلطيف وإنقاذ العلمانية الحديثة اليوم؟ المسيحية وأديان جنوبي آسيا أسهمت
في توازن القيم الروحية والعلمانية، لكن أقسام الإسلام كانت مبعدة، ناهيك
عن إدراك محاربة دائمة موجّهة ضدّه. من الواضح، قضية التوترات المسيحيّة-
المسلمة معقدة للغاية بحيث لا يمكن التعامل معها هنا. لكن من غير المحتمل
أن يحلّ بتصوير الشرق الكونفوشيوسيّ كحليف للإسلام ضدّ الغرب المسيحي، خاصة
بقيادة ذاك الشرق لمساعدة الدول الإسلاميّة ضدّ علمانيّة تبشيرية يقودها
غرب مهيمن.
ما هو واضح شيء واحد فقط. هو أنّه يمكن أن تُتحدّى العلمانية
المنقسمة بسهولة، كما أنّ السماح للدين بالعودة إليها ليس هو الحل. إنّ
إعادة فحص موضوعيّة لجذور العلمانيّة الحديثة هي الحاجة الملحّة والأعظم.
والأهم من ذلك كلّه، هو أنّ العلمانيين يجب أن يعترفوا أنّ هناك أصوليين
بينهم أيضاً، من ضمن أولئك الذين يعبّرون عن معتقداتهم من ناحية مصالح
قومية سياديّة أو يصرّون على أنّ إدّعاءهم عقيدة الخلاصيّين هو فعّال وعلى
الجميع أن يسيروا وفقاً لمعاييرهم. يجب أن يفكّر أنصار العلمانيّة اليوم
ملياً في كيفية تجنّب الأصوليّة التي قسّمتهم. من دون انتباهٍ كافٍ إلى
الحاجات الروحيّة، خصوصاً أولئك الناس في الأمم الأكثر فقراً في العالم،
العلمانية لا تستحق الاحترام الذي نالته حتّى الآن.