رجع صدى في العلمانيّة و"البراكسيس"
نشوء
المدينة هو الفصل الأول تاريخياً بين المقدّس (أي داخل الأسوار) والمدنّس
(أي خارج الأسوار). والمقدّس مركز وما عداه جانبيّ هامشيّ. ولا تزال اللغة
العربية تسمّي الغريب عن الأهل أو المدينة أجنبياً (من الجانب والجَنَب)
ولا يخفى علينا أن الجُنُب (بضمّ الجيم والنون) تأتي من ذات الجذر
والمعنى، فالخارجي هو الأجنبي الغريب الجانبي الهامشيّ والمدنّس (الجنب).
وحتى التجربة الإنسانية تنقسم إلى دينية وغير دينية. الدينية تختص
بالتعامل مع المقدس وغير الدينية بالتعامل مع المدنس. وسنتحدّث هنا عن
ظهور الدين كشريعة الإله- الربّ وشريعة مملكته المصطفاة. ولا يجب أن يغيب
عن نظرنا أنّ الفرد والتجربة الفردية يختفيان تماماً من هذا التاريخ لأنّ
الإله-الربّ وكاهنه وملكه المصطفى قد استحوذوا على التجربة الدينية (علامة
تسلّطهم)، ومنعوها عن الفرد الخاضع الذي صار يستجدي -على أبواب المعابد
-الصلة مع الإله وعطاياه كما يستجدي صلة الملك وعطاياه على أبواب القصور.
وهنا نلفت النظر إلى ضرورة مقارنة الإله-الربّ مع الأب-ربّ العائلة،
فالأخير ملك في مملكة صغيرة وتزامن صعوده أيضاً مع صعود الزراعة والمدنية
والملكية والربوبية.
وكما كانت المدينة مملكة الملك (أي ما ملكت يمينه) فالمدينة هي حرم
الإله-الربّ وحماه (في الحقيقة لا فرق بين الحرم والحمى في اللغة
العربية). وهنا يتحوّل الحرم إلى دار السلام (أو الإسلام) ويتحوّل العالم
خارجه إلى دار الحرب والمخاطر، ويتحوّل ساكنو الحمى إلى محظيين تربطهم
صلات القربى والنسب الواحد (القبيلة الطوطمية)، والساكنون خارجه إلى مغضوب
عليهم ضالّين وأعداء لا نسب لهم. وما المعبد إلا بيت الإله الحامي، وما
العبادة إلا العمل في أرض المعبد التي يملكها الإله (لا تزال اللغة
العربية تقرن العبادة بالعبودية أي العمل، ولا تزال اللغة العبرية تطلق
على العمل لفظ العبادة). وإذا كان حاكم المدينة عند السومريين (أي الإنسي)
هو الكاهن الأكبر لمعبد الإله الحامي ومندوبه على الأرض، فإنّ مملكة
صارغون الأكادي شملت عدّة مدن، فصار الملك هو الوصيّ على الإله وإن أظهر
نفسه بمظهر مصطفى الربّ الذي أعطاه المُلك، وهو يعطي المُلك لمن يشاء.
ووصاية صارغون على الربّ تجلّت في تزويج ابنته من الربّ نفسه وجعلها رئيسة
كهنة الربّ. ومع تواتر الإمبراطوريات التي تحكمها طغمة عسكرية مختصة ببناء
الإمبراطوريات (بدءاً بصارغون وانتهاءً بالعثمانيين) اتسع قصر الملك ليصبح
أكبر من المعبد وتحوّلت ملكية أرض المعبد من الإله إلى الملك، واتسعت
بيروقراطية الملك لتضاهي بيروقراطية الإله حجماً وثروة، وتحوّل الملك من
مندوب للإله إلى مصطفاه المحبوب الممسوح بالدهن المقدّس (علامة الاصطفاء).
هذا الإله هو أيضاً مصطفى الأسرة المالكة عاش معها ذلّ الفقر والتبعية
وانتصر معها (أو نصرها) في حروبها لإخضاع الشعوب المحلية والمجاورة (وهذه
العلاقة هي أساس الميثاق والعهد بين الإله وشعبه أو ملكه المختار). فكلما
انتصر الملك على شعب انتصر إلهه على إلههم وأخضعه ليصير جزءاً من حاشيته.
هذه حال حمورابي ومردوخ، والأشوريين وآشور، والأخمينيين الفرس وأهورامزدا،
والعبرانيين ويهوه. وقد يسوق البعض مثال البدو (كالعبرانيين) وعهدهم
المقدّس مع يهوه كنقض لنظريتي. وأقول باختصار إنّ البداوة مختلفة عن
انتقال جماعات الصيادين. إنّ البداوة رعي للماشية ولم تظهر إلا مع ظهور
المدنية والحضارة لاعتماد الاثنتين على بعضهما البعض. وهما قطبان لنظام
واحد ووجهان لعملة واحدة، ولا يوجد واحد إلا بالآخر. أسوق هنا دليلاً
واحداً هو أنّ تجديد المدنية وظهور سلالات ملكية جديدة ارتبط باستيلاء
البدو على الحضر واندماجهم بهم. لذلك قد يبدو الإله الواحد إلهاً متقشّفاً
بدويّاً، لكنه في الحقيقة إله محارب لا يستكين إلا أن يكون ربّ الأرباب أو
الربّ الوحيد وما عداه فهم أرواح خاضعة ملائكية أو شيطانية.
وباعتقادي أنّ التوحيد كان نتيجة شبه حتمية لظهور الإله-الربّ (وظهور
الملك) ومن ثمّ لظهور الإله-ربّ الأرباب (وظهور الإمبراطور ملك الملوك
وحاكم أركان العالم الأربعة كما كان يحلو لملوك سلالة أور الثالثة أن يدعو
أنفسهم). ومن المضحك، لكن الممكن (وإن كنت لا أراه محتملاً)، أن يعتقد
فرويد أنّ أخناتن كان مؤسّس التوحيد، لأنّ الآتن (أي قرص الشمس في منتصف
النهار) لم يكن إلا إلهه الشخصيّ الذي اصطفاه بنفسه موهماً إيانا بالعكس
(أي أنّ الآتن اصطفاه)، اصطفاه ليدغدغه هو وأسرته بأصابع أشعّته الرقيقة
كما تشير رسومات تلّ العمارنة. هذا الصراع بين الملك والإله (أيّهما يسبق
الآخر) لم يُحسم أبداً. الملك يبني معبداً هائلاً لمجد إلهه المفضّل الذي
قاده للنصر لكن يستولي من وقت لآخر على كنوز المعبد وأراضيه. الملك يقدّم
الأعطيات للربّ مما أفاء عليه الربّ في الفتوحات شرط أن يتابع الربّ
قيادتهم إلى انتصارات جديدة. إنّ دمج الدين بالسياسة هو في صلب هذه
العلاقة المتوتّرة بين الملك والربّ. فلا الملك يدع الربّ (ممثلاً رجال
الكهنوت) يسيطر عليه ولا الربّ (وكهنتوته) يدعون الملك يسيطر على الربّ.
أراد الخليفة المأمون أن ينهي سيطرة أهل الحديث وفقهائهم على شريعة الدولة
فثاروا عليه، لكنهم ما لبثوا أن عادوا إلى قصر الواثق يستجدون دعم
الخلفاء. وكذلك دخل الباباوات في أوروبا في حلف "مقدّس" للدفاع المتبادل
مع الأسرة السالية الألمانية ليقضوا قرون نهاية العصور الوسطى محاولين
الفكاك من تسلّط "أباطرة الرومان المقدّسين"، وفعل هؤلاء الأباطرة الشيء
ذاته محاولين الفكاك من تسلّط الكنيسة، وأحد فصول هذا التوتّر ما يسمّى
"جدل التعيين" بين هنري الرابع والبابا غريغور السابع 1075-1122.
ونعود الآن إلى الدين والتجربة الدينية ضمن إطار حكم الآلهة-الأرباب،
أو حتى الإله الواحد، لنتمعنّ في التناقض سابق الذكر بين الفصل والتسلّط.
إنّ الفصل المكاني والفصل الزماني يحتاجان أيضاً إلى فصل فكريّ وشعوري
وعمليّ حسب موضوع الفكر أو الشعور أو العمل. فتنقسم أفكار الإنسان وتجاربه
الداخلية وممارساته ليتسامى بعضها ويتّضع بعضها الآخر، ويشحن بعضها ويفرّغ
بعضها الآخر، ويصبح بعضها طارئاً مفاجئاً غامضاً وباهراً ويصبح البعض
الآخر عادياً يوميّاً تافهاً وبديهياً. كلّ ما اتّصل بالمقدّس هو طقس أو
شعيرة أو صلاة أو تضرّع أو دعاء أو ابتهال أو تسبيح أو ذكر أو مجاهدة في
سبيل الإله (ولكلها شحنة إيجابية)، وكلّ ما اتّصل بالمدنّس هو كلام أو لغو
أو لغط أو جدال أو رياضة أو مهنة أو سعي في مناكبها (ولكلها شحنة سلبية أو
لا شحنة على الإطلاق). والإنسان المؤمن يستبطن هذا الفصل ويراقبه في ذاته،
لكنه بحاجة إلى زيارة أو اثنتين كلّ أسبوع إلى مركز الأيديولوجيا ليعيد
تجديد شحنته الأيديولوجيا وتلقين أناه العليا المراقبة. وكذلك فإنّ أيّة
عملية فصل بحاجة إلى عاملين متفرّغين (حجّاب) لترسيم الحدود وحمايتها
وتعليل وجودها ومراقبة التنقّلات بين جانبيها. هؤلاء هم رجال الدين. حجّاب
الملك يرسمون الحدود بينه وبين العامّة ويضبطون العلاقة بينهما على أساس
قوانين وآداب صارمة. وكذلك حجّاب الربّ (أي رجال الدين من أنبياء وكهنة
وسدنة بيوت الآلهة ولاهوتيين ومشرّعين ومعلمين) يرسمون الدين الذي هو
قواعد علاقة المقدّس بالمدنّس والإله بالإنسان. هو الأيديولوجيا (وسمّيتها
سابقاً النص) التي تقعّد (تضع قواعد) الانتقال من مجال المقدّس إلى مجال
المدنّس. الدين هو الطريق الذي يقود إلى المقدّس، وما الشريعة لغة إلا
الطريق. يعلّمنا الدين كيف نتطهّر للصلاة أو دخول المعبد (أي اختراق حجاب
المقدّس)، وكيف نتحرّك في حضرة المقدّس وكيف نخاطبه و"ننظر في وجهه"، كما
تتعلّم الرعية أدب حضرة الملوك (الدخول والمخاطبة والنظر).
حجّاب الإله هم أصاحب مخازن التسميات والتصنيفات وأصحاب المعرفة
الإلهية: هذه تجربة دينية وهذه تجربة عادية. الدين وحجّاب الإله يستحوذون
على التجربة الدينية ويحتكرونها، فهم صلة الوصل الوحيدة مع الإله، وهم
المتلقون لرسالته والمتكلمون باسمه والكاتبون لشريعته والقائمون على
تطبيقها. وما مصير المتصلين بالإله دون الرجوع إلى الحجّاب إلا كمصير
المخالف للشريعة، ألا وهو القتل. أليس هذا ما لقيه الحلاج الذي بلغ الإله
وذاب فيه فهتف "أنا الحقّ"؟ وما مصير المتنبّئين أيضاً إلا العداء
والملاحقة، فإن خسروا ماتوا وإن ظهروا على خصومهم طغوا عليهم وقتلوهم
لتنشئ الأجيال اللاحقة كهنة جدداً يتكلمون باسم الإله الجديد (أو عهده
الجديد) ويكتبون شريعته الجديدة ويقومون على تطبيقها. إنّ التوازي
التاريخيّ بين نشوء الدولة الملكية، ونشوء الأب ونشوء الإله-الربّ والإله
الواحد من بعده وقيامهم على أسس رمزية متشابهة، لا بل مشتركة، جعلت من
الخلط بين الدين (أي شرع الإله) والأب والدولة أمراً شبه محتم. عندما
يتماهى المقدس مع الدولة، والإله مع الأب والملك، والقانون مع العرف
والشريعة الدينية، تصبح عملية فرض السيطرة على الجماعة سهلة جداً
واقتصاداً مربحاً في بذل الجهد المالي والعنفي. فهل نحقّق حريتنا بإلغاء
الإله؟ أم بإلغاء الإله-الربّ؟ أم بإلغاء الإله الواحد؟ أم بفصل العلاقة
التاريخية بين الإله-الربّ والدولة والأب؟ أم أنّ صورة الإنسان وعقيدته
أعقد من أن تكون صورة خضوع وسيطرة، قدرة واستلاب، فعل وخنوع.
من أجل أن نؤكد على تعقيد هذه الصورة يجب أن ننوّه إلى أنّ ظهور أطر
نظرية جديدة للعلاقة بين الإنسان والطبيعة وما وراءها لا يعني انتفاء وجود
الأطر القديمة. فالأطر القديمة تعيد بناء نفسها باستخدام مسمّيات الأطر
الجديدة فتدخل فيها كجزء منها أو كممارسة غير مستحبة، أو كهرطقة مكروهة،
أو كنفي لها يقام عليه الحدّ وهو ما نسمّيه الإلحاد (وهو في الحقيقة وصمة
وتهميش يعتمد معناها على مطلقها وعلى الحامل لها). فنجد وحدة الوجود في
الروحانيات والسحر والغيبيات، وقد نجدها أيضاً في العلم الذي يشرح الإنسان
كما يشرح الطبيعة ويؤكّد أنّ الإنسان جزء لا يتجزّأ من الطبيعة بجسده
وروحه، وقد يجد دواءً لعذاباته في الطبيعة ذاتها. ونجد فكرة الإله (قبل أن
يصبح ربّاً) في الطرق الصوفية والديانات التي تقوم على الكريزما. وكذلك
نجد الإله-الربّ في بقايا الديانات القديمة وفي الديانات الحديثة.
والإلحاد كمقاومة ليس بالضرورة نفياً لوجود الإله الواحد الخالق
المتحكّم، وإنما قد يتجلّى بصور مختلفة تبعاً للأطر النظرية الجارية التي
تحكم علاقة الإنسان بالإله. فقد يكون الإلحاد نفياً لوحدانية الإله، أو
نفياً لسلطته المطلقة، أو رفضاً لسلطة الحجّاب ونصوصهم وشريعتهم. وحتى
إلحاد الذريين الإغريق لم يكن نفياً لوجود الآلهة وإنما إيماناً بأبدية
المادة سواءً بأبدية الآلهة. وكذلك الحال مع إلحاد فلاسفة عصر التنوير في
أوروبا الذي جعل من العقل الكونيّ إلهاً آخر أقلّ تسلّطاً على رقاب
العباد، أو مقتصراً على إلهام العقل دون التأثير في الطبيعة. أما الإلحاد
الحديث الذي ينفي وجود خالق للكون وملهم للعقول ومسيّر لمصائر الناس، فما
كان ليوجد لولا علوم القرنين التاسع عشر والعشرين التي سلطت الضوء على
الطبيعة والعقل ولم تُبقِ للإله إلا هامشاً من الغموض ليوجد فيه. فبعد أن
كان يتربع على عرش المعرفة وكان نورها، أصبح يختبئ في ظلمات ما يجهله
الإنسان (كمطلق البغ بانغ، أو مسبّب الطفرة البيولوجية، أو الكتلة الكونية
المظلمة، أو المتحكم بالعشوائية).
وأخيراً أريد أن أسلط الضوء على العنصر الأهمّ في هذا التاريخ، العنصر
دائم الوجود مهما تعدّدت الأيديولوجيات والأزمنة والأحوال، ألا وهو
الإنسان. ومن الصعب بمكان أن نضع الإصبع على الثابت الذي لا يتغيّر في
طبيعة الإنسان (الغريزة أو الفطرة) حتى نردّه إلى حالة أوليّة قديمة عاش
فيها سعيداً دون تناقضات تحكم علاقته بالجماعة وبالطبيعة. ولا أعتقد بوجود
حالة كهذه (أي جنّة عدن أو النيرفانا أو الشانغريلا). لكنّي أعتقد أنّ عقل
الإنسان عجينة عجيبة قادرة على التكيّف والتشكّل بأشكال مختلفة تلائم
الوسط المحيط، الاجتماعي وغيره. لكنّ العجينة محكومة في تركيبتها بثوابت
ديناميكية (أي بنيوية) مثل وعي أبعاد المكان الثلاثة، الشعور (أساس دوافع
العمل)، التصنيف (أساس بناء المعرفة)، بناء الرموز والدلالات كاللغة (أساس
الاتّصال والتواصل)، وَهْم العلّة (أي لكلّ شيء مسبّب، أساس المنطق)،
غريزة البقاء (أساس استمرار النوع شكلاً وفكراً)، وأنسنة المحيط (أي إضفاء
صفات إنسانية على كل ما يحيط بالإنسان مثل الشعور والتفكير والنية والدافع
والعمل). وأرى في الثابت الأخير أساس فكرة وحدة الوجود (أي لكلّ شيء روح
تشترك في جوهرها مع روح الإنسان) التي لا يستطيع الإنسان العيش دونها
لأنها تعطيه وهم السيطرة على محيطه ووهم الاستمرار والانتصار على الموت.
إن الإنسان الفرد وحيدٌ في مهبّ الريح وضعيف تحت وطأتها. والعديد من
الناس يعتقد أن التديّن هو إقرار بوحدة الإنسان وعجزه أمام الإله أو
الحياة (الطبيعة، المجتمع) وهنا أصل العبودية. وغيرهم يعتقد أنّ إدراك
الوحدة والعجز هما أساس حرية الإنسان لأنّ ما عداهما وهم. فالفرق بين
العبودية والحرية هو في الحقيقة فرق في النظرة والممارسة وليس فرقاً في
الحقيقة الواقعية. هو الفرق بين أن نرى نصف الكأس الملآن أو نصفه الفارغ
ونبني أفكارنا وأفعالنا على هذه النظرة. لكنّ الحقيقة ثنائية الوجوه
فعلاً، وهي أنّ نصف الكأس ملآن ونصفه فراغ. وهي حقيقة عقيمة بذاتها ولا
يمكن أن تولّد الفعل والحركة إلا بأن نعطيها قيمة باعتماد إحدى النظرتين.
ولهذا أعتقد أنه لا يحقّ لأيّ منّا أن يدّعي الجبروت والاغتناء بالذات، أو
أن يدّعي الخضوع والحاجة، ثم أن يحاول إقناع الآخرين بذلك أو إجبارهم.
فإذا كانت التجربة الروحية (القائمة على الاعتقاد بوحدة الوجود) ثابتة في
الإنسان فلا بدّ أن تكون له حرية ممارستها. وهنا أقول إنّ الأديان
والتجارب الدينية تصنيفات تاريخية قد تزول أو تتغيّر لكنّ ثوابت الإنسان
لن تتغير.
لقد أزاح الدين-النص-الشريعة الفرد وتجربته إلى الهامش، ووضع الربّ
والجماعة وأناها العليا (أي الشريعة) في المركز. وكلنا مدرك لوصمة
الهامشية ومتقبّل لها، فالفرد يعود دائماً إلى مرجعه الديني (النص
ومؤوّليه) ليصنّف له تجاربه الفردية ويسمّيها ويقيمها. فإذا كانت دينية
كرؤيا جان دارك مثلاً تنكّر لها المرجع واتّهمها بالهرطقة ومن ثمّ تخلّص
منها لأنّ التجربة الدينية حكر على الكهنوت. لكنّ الكهنوت عاد بعد موت
المسكينة ليضمّها إلى صفوفه لتصبح تجربتها جزءاً من تجربة الكهنوت (وفعلاً
سمّوها قدّيسة بعد عقود من موتها). وإذا كانت التجربة خارج الشريعة، اعترف
بها الفرد وتاب توبة نصوحاً واغتسل من ذنوبه عن طريق شعائر تفرضها
الشريعة. أمّا إذا كانت التجربة محكومة بالشريعة فيتعلّم الفرد كيف يجريها
في مجاريها المحدّدة لها: الحبّ لا يصح إلا بالزواج الشرعيّ، والغضب يجب
صبّه على أعداء الإله، والسعادة بالوليد(ة) الجديد(ة) يجب أن تتجلّى بنطق
الشهادتين في أذنه(ها) بدل "سأحبّك إلى الأبد".
لذلك لا بدّ من إعادة الفرد إلى المركز لتصبح كلّ تجاربها ملكاً لها،
تسمّيها كيف شاءت دون وصاية من نص أو شريعة متعالية. مركزية الفرد هي
بالتالي إعادة لممارسة وحدة الوجود لأنها تتيح للمرأة (المرء) أن تتصوّر
الكون بحرية، وأن تمارس سلطتها الرمزية عليه بحرية أيضاً. فمن أرادت العلم
فلها ذلك، ومن أراد السحر فله ذلك، ومن أرادت الشعر فلها ذلك، ومن أراد
شريعة الإله-الربّ فله ذلك أيضاً. لا ضرر ولا ضرار، ولا يقتنص سعيد سعادة
آخر، ولا تزر وازرة وزر أخرى. ويصبح قانون الجماعة حافظاً لحرية الفرد
ومانعاً لطغيان الواحد على الآخر، وليس فقط حامياً لحقوق الإله
(الربّ-الأب-الدولة) على العبد. فلا مانع أن تعتقد أنّ الإله "أتى لك
بالتاكسي في شوارع القاهرة المزدحمة"، ولا مانع أن تتداوى بالقرآن، ولا
مانع أن تمارس الإلحاد بكلّ أشكاله، ولا مانع أن تؤوّل النص الديني كيف
شئت، طالما أنّها قرارات فردية لا تفرضها على الآخرين.
ومركزية الفرد هذه لا تعني غياب الدولة وحلول الفوضى، وإنما تعني إعادة
فهم الدولة على أنها الحارسة لحريات الأفراد. شخصياً لا أؤمن بوجود ما
يسمّونه "بالعقد الاجتماعي" لأنه لم يوجد يوماً ولا أعتقد أن سيوجد يوماً.
ولا أعرف إن كان الحلَّ لجميع مشكلات الإنسانية. لكنّي أؤمن أنّ الدولة
مهما كان منشؤها وشكلها ومؤسساتها يجب أن تتخلّى عن تناقض دمج الدين
والدولة المشار إليه أعلاه، أي دمج شريعة الإله-الربّ-الواحد مع القوّة
الضاربة التي تستقطبها الدولة الحديثة. ولن يكون تعايش الأطر النظرية
المختلفة للتجربة الإنسانية (من وحدة وجود وغيرها) ممكناً إلا إذا تخلّت
الأديان ذات الإله-الربّ-الواحد-صاحب الشريعة عن إرثها الإمبريالي، أي عن
سيطرتها على الدولة ونزعتها الجنونية لفرض نفسها على الناس أجمعين. طبعاً
لا يكون الإله-الربّ واحداً فعلاً إلا بالإجماع المطلق، وهذا أساس التبشير
والفتوحات الدينية. لكن على هذه الأديان أن تقنع نفسها بأنّ وحدة
الإله-الربّ يجب أن تصبح قراراً فردياً وليس إجماعاً بالإكراه أو
بالتبشير. وهذه هي العلمانية كما أراها: ليست فصلاً للدين (كما عرفناه
سابقاً) عن الشأن العامّ، وليس كتماً للتديّن، وليس إرغاماً على الاعتراف
بالعلم مخلصاً، وليس إرغاماً على الإلحاد، وإنما رفض للإرث الإمبريالي
السابق الذكر وفصل بين شريعة الإله-الربّ-الواحد والدولة صاحبة القوّة
الضاربة.
لقد ارتبطت الأديان التوحيدية الثلاثة بإرث إمبريالي سلطوي ضخم دام
مئات السنين. ودليل حاجة هذه الديانات إلى مثل هذا الإرث أنّ اليهودية
اخترعته اختراعاً ولم يكن يوماً موجوداً. أتباع هذه الديانات يؤلّفون ثلث
سكان الكرة الأرضية أو أكثر، ولا يزال كثيرون من أتباعها يراهنون على
انتصار دينهم على الأديان والتجارب الدينية كلها بما فيها الديانات
التوحيدية. بل إنّ أية ديانة توحيدية تمثّل خطراً على أخواتها أعظم من خطر
الديانات الأخرى، لأنها بادّعائها تمثيل الإله-الربّ-الواحد تقوّض المزاعم
ذاتها في الديانات التوحيدية الأخرى. و"كره ابن العمّ" هذا جزء لا يتجزّأ
من الإرث الإمبريالي لهذا الديانات. أعتقد أنّ الثلث ليس نصراً ولن يكون
لهم نصر أعظم أو نهائي. فلا بدّ إذاً من توطين النفس على القبول بالآخر.
ولا يكون هذا برأيي إلا بتقويض بعض الدعائم التاريخية لديانات
الإله-الربّ-الواحد، مثل جنون الإجماع، وجنون إنشاء الأمة الدينية الواحدة
الخاضعة للشريعة بتحويل الشريعة إلى قانون الدولة. لا بدّ أن تعود التجربة
الدينية إلى الفرد، وأن يكون الفرد هو(هي) المتحكّم الأوّل والأخير بها.
لا بدّ من فصل الدولة عن جنون الأمّة الدينية. لا بدّ من العلمانية.