الاختطاف المزدوج للحداثة !
خيري منصور
12/12/2009
بدءا لا بد من الاعتراف بأن مصطلح الحداثة في
ثقافتنا العربية يعاني من عدة التباسات، فهو يطلق على الموضة والمكنسة
الكهربائية والانترنت والتصاميم الهندسية، وغالبا ما يرد في سياقات
متناقضة بحيث يفقد دلالته، ولعلّ اكثر ما يوضح هذا الالتباس هو تعريف
الحداثة كما ورد في معجم عربي، فهي أول الأمر وابتداؤه، اي ثلاث كلمات
فقط، واذا حذفنا الكلمة الثالثة وهي معطوفة على ما قبلها ومرادفة له، فإن
هذا التعريف يصبح اقرب الى الأحجية، لأنه يختزل الحداثة في كونها اول
الامر، وللمفارقة فإن هذا المعجم يعطي ثلاث صفحات لتعريف كلمة حاشية وصفحة
كاملة من القطع الكبير لتعريف كلمة حكاية ! وتفسير هذا الالتباس والتسطيح
هو ان العرب لم يجترحوا حداثتهم، على الاقل بالطريقة التي أشار اليها هنري
لوفيفر عندما كان يضيف ( نا ) الجماعة وهو يتحدث عن الحداثة الفرنسية،
فالحداثة ليست حقبة موزعة بالتساوي على القارات والشعوب والثقافات، خصوصا
اذا تذكرنا ما كتبه ماكفرلين عن صدور بيان موت الحداثة في ألمانيا عام
1815 أي قبل ما يقارب القرنين، وما أعنيه بالاختطاف المزدوج للحداثة في
ثقافتنا العربية، هو الحصار الذي مارسه الاتباعيون من جهة، وسوء الفهم او
التماهي والتقمّص الشكلاني الذي مارسه بعد ذلك الحداثيون الذين اقتصر
فهمهم للحداثة على الأشكال والمقاربات الأفقية .
نذكر ان بواكير الشعب
العربي الموصوف بالحديث عانت من استنكار واسع عندما تحالفت المؤسسات
الثقافية الرسمية مع الذائقة التقليدية والحساسية الداجنة، وقد منع شعراء
مصريون في تلك الأيام من المشاركة في مؤتمر أدبي في بلودان لأنهم ينتمون
الى ما يسمى الشعر الحديث، وهو نمط من الكتابة المستهجنة والمطرودة من
ملكوت الابداع الذي كان يحتكره كلاسيكيون لم يغادروا النصف الثاني من
القرن التاسع عشر، رغم انهم يرتدون ثياب القرن العشرين، ويستخدمون أدواته
وينعمون بكل ما جادت به حداثته عليهم... لكن الشعر العربي الحديث سرعان ما
تخطى تلك الحواجز، واستطاع ان يبرر نفسه من خلال التناغم التدريجي بينه
وبين الحساسية الجديدة وما طرأ من تطور على الوعي العربي في مختلف
المجالات في خمسينيات القرن الماضي وما أعقبها، لكن الكمين الآخر الذي
ينتظر هذا الشعر هو من صلبه او من افراز من يتوهمون بأنهم من سلالته
الابداعية، ولفرط الاستخفاف بالكتابة عموما وبالشعر على وجه التحديد اوشك
الشعر الحديث جدا لدى البعض من هؤلاء على ان يكون مجرد رد فعل أعمى على
الكلاسيكيات الى الحد الذي دافع معه احد الشعراء الصغار عن اخطائه النحوية
والجذرية بأن مثل هذه الاخطاء لا قيمة لها، ويجب ان لا يتوقف المتلقي او
الناقد عندها !
وبالعودة الى الاختطاف الأول الذي مارسه تقليديون ظنوا
ان الحداثة الشعرية هي بعثرة العمود واعادة ترتيب العبارات والكلمات، نجد
ان من كانوا اشد راديكالية في مقاومة التحديث قد أصابتهم العدوى، لكن على
نحو سلبي، فقد كتب شعرا حديثا او صنّف في هذه الخانة شعراء عموديون ومنهم
من ابتكر مبررا لا علاقة له بالابداع وهو أن من يكتب الشعر الحديث يجب ان
يكون قد مرّ بمرحلة العمودي، وكانوا يستشهدون ببعض الفنانين التشكيليين
الذين بدأوا كلاسيكيين وانتهوا الى التجريد أو السوريالية . ومثل هذا
الاشتراط قد يصحّ ولو نسبيا على جيل مُخضرم لكنه لن يصح على الاطلاق على
الاجيال التالية، لأن المشهد سيبدو كوميديا بامتياز اذا طالبنا كل شاعر او
رسام بأن يبدأ من اول السطر في التاريخ وأن يبرهن على أنه قادر على ان
يزاوج بين امرىء القيس ورامبو في قصيدة واحدة !
* * * * * *
ان
ما تعرض للاختطاف خلال العقدين الاخيرين ليس الشعر فقط، بل كل ما له علاقة
بالحداثة سواء تعلقت بالسياسة او التمدن او اي حراك مجتمعي، فالجمهوريات
اصبحت ملكيات، والمقاومة تحولت الى ادانة لمن يمارسها بعد ان تغيّر اسمها
واصبح ارهابا، وثمة مهن قديمة كالقوادة والبغاء والسمسرة اصبحت لها اسماء
أنيقة تسوّغها، حتى الخيانات الوطنية العظمى تغيّر اسمها واصبحت مجرد
اختلاف في الرأي أو اجتهاداً تبرره الديموقراطية، والديموقراطية المحرمة
سياسيا واجتماعيا في العالم العربي لا يتم استذكارها الا من اجل توظيفها
لتبرير مثل هذه الكبائر. لهذا فالاختطاف شمل كل شيء، بدءا من الفرد حتى
الدولة، ولم يعد بالامكان التعرف على اي حدّ فاصلا بين لويس والدولة التي
ادعى انه المرادف لها، ولو شئنا الذهاب الى ما هو أبعد فإن التاريخ كله
بات عرضة للاختطاف منذ اعلان نهايته قبل عشرين عاما، فمن المعروف ان
فرانسيس فوكوياما لوى عنق هيغل كي يسهل اختطافه، وقد كتبنا في هذه الزاوية
مُقاربة مكرسة من الفها الى يائها لما سميناه اختطاف هيغل .
خمسون عاما
فقط تفصل بين اختطافين للشعرالأول مارسه انصاف عموديين والثاني يمارسه
الان شعراء يصعب تعريفهم، خصوصا اذا كان الانترنت قد تحول الى حاضنة
صناعية لتفقيس الشعراء والمفكرين. ولأن الشعر تحول الى رهينة يصعب تحديد
الجهة التي ترتهنها لأنها مبثوثة بين مؤسسات رسمية تهدف الى خلط حابل
الاعلام العابر بنابل الثقافة وبين صحف ومجلات ومنابر عددها يفوق عدد
قرائها، والنقد في اجازة طويلة كما يبدو، لأنه لا يظهر الا في المهرجانات
كمصاحب للجوقة الخاطفة، انه الطبّال الذي تقتاده الراقصة يمينا ويسارا،
بحيث تحول الى مجرد صدى خصوصا بعد ان أصبحت هناك تَوأمة بين المختطفين،
وهو ما عبّر عنه هربرت ريد عندما قال ان التحالف استراتيجي وصارم بين
الشاعر الرديء والناقد الاردأ، وأخيرا بين الكاتب التقدمي وقارئه الواعي
الذي عرف كيف يجترح طريقا آمنا في الغابة !
* * * * * *
ان كل
شيء مباح ومتاح الان، ليس فقط بسبب ما قاله ديستويفسكي عن فراغ السماء بل
لأن العرب استبقوا هذا الكابت الخالد عندما قالوا : ان لم تستح افعل ما
تشاء، وغياب الناقد والمتلقي معا، يتيح الان المزيد من الاختطاف للابداع
كله، ما دام كل واحد قادرا على اشراك سبعة اشخاص فقط في وهمه، وقد يتحررون
من هذا الوهم اذا قدّر لهم الافلات من القبضة، ولا نريد هنا العودة الى
الحلقة المفرغة ذاتها عن دجاجة الحداثة وبيضة الشعر، فالحداثة كأسلوب في
التفكير ورؤية وانماط انتاج ومنظومات في علاقة الفرد بالمجتمع والسلطة
بالمحكومين لم تعد موضوع سجال، لأنها ان توقفت عند التماهي والتقمّص
الماهر ستكون اشبه بشجرة لبلاب وستموت على الفور اذا سقط الجدار الذي تسند
ظهرها الرّخو اليه. ان الحداثة كإفراز من صلب التاريخ وحراكه وتطوره سياق،
واجتزاء الشعر او الفن من هذا السياق يفتضح تصورا في الوعي، خصوصا اذا
تذكرنا ان نقادا وعلماء إناسة من طراز كلوديل البريطاني وكلاستر الامريكي
قرأوا الحداثة بمنهج لا يعزلها عن العمل وتطوره، واغتراب الانسان عما يصنع
في المجتمع الرأسمالي، وقد يكون فقر الجانب المعرفي والحفريات بمختلف
مجالاتها عن النقد العربي جعله احاديّ البعد، بحيث رأى في الأدب مجرد أدب،
او حسب تعبير شهير لإرنست همنغواي وجبة كاملة من السكر او الملح، رغم انه
ما من أدب كله أدب، ما دامت اللغة وهي وسيلة التعبير لهذا الأدب منجز
جماعي وما دامت هناك بيئات وعوامل تمارس نفوذها على المبدعين وحتى لو لم
يكونوا على وعي بذلك .
* * * * * *
لقد أدى الاختطاف المزدوج
للشعر الى ارباك مخلّ لكل المعايير لدى الناشر والناقد والمتلقي، واعترف
بأن ما حفّزني للعودة الى هذا الموضوع هو ما شاهدته قبل أيام على شاشة
احدى الفضائيات العربية حيث المذيع او المذيعة يدعيان الفهم في تنضيب
اليورانيوم وفيروس الايدز والخلايا الجذعية اضافة الى استنساخ النعاج .
قدّمت
المذيعة شاعرا، لا يرقى في اتباعيته وشعريته الداجنة الى شعراء مجهولين في
العصر العباسي، على انه خير من يجسّد الحداثة، وكان دليلها قصيدة عمودية
اجريت لها جراحة في توزيع السطور، اما رؤاها فهي ما قبل الحداثات كلّها
!!!
الثلاثاء ديسمبر 15, 2009 11:29 am من طرف حرانية