يغلب على التوجّهات الفكرية التي تحكم المجتمع، في إطار السجال السياسي
والإيديولوجي الذي يحتدم بينها، نزوع إلى اختزال الخصم وتحجيمه وإلباسه بعض
الصفات الجاهزة، إمّا بغرض إقصائه وتنحيته من الصراع، أو بغرض إراحة الذات
من عناء التفكير وطرح الأسئلة. هذا الأمر هو ما تمارسه الحركات الإسلامية
في التصوّرات التي تصوغها عمّن يعمد إلى تقديم موقف نقديّ منها، فتصير إلى
نعته بـ"معاداة الدين" والكيد لأهله، محاولة بذلك تأليب العامّة عليه تحت
هذا المسمّى، ولكنّ هذا السلوك أيضا هو عينه الذي تنهجه بعض
الحركات الموسومة بالحداثية، حين تنزع إلى اتهام خصومها بمعاداة الحداثة
ومناهضتها وما إلى ذلك من أوصاف.
بيد أنّه إن كان للحركات الإسلامية عذر في هذه التوصيفات، من حيث أنّ
عالمها وبنيتها الفكرية بنية ثنائية بسيطة، إمّا معنا أو ضدّنا، إمّا الله
أو إبليس؛ فإنّ من يقدّم نفسه "كمحلّل" وناقد عقلاني لا عذر له في أن يسلك
نفس المسلك، أي لا عذر له في أن يكتفي بهذا النزوع السجالي البسيط، فهذا
الأمر قد يكون مغريا وفعّالا في سياق الصراع الإيديولوجي، ولكنه على
المستوى الفكريّ العميق لا يكون كافيا.
في هذه الورقة سأحاول أن أستشكل بعض عناصر جدل الأصولية والحداثة، حتى وإن
كنت لن أستشكل هذه الثنائية في ذاتها (الأصولية – الحداثة)، بل سأتركها في
هذا التقابل الصلب، كما تطرحه التصوّرات الأصولية نفسها.
مكر الأصولية، الإفراغ والانتقاء: من المسلّم به أنّ الأصولية في العمق هي ردّ فعل سيكولوجيّ وثقافي تجاه
حركة التحديث، بهذا المعنى فهي حركة مضادّة للحداثة. لكنّ الأصولية لا
تقدّم ذاتها كذلك، بل هي وأمام دينامية الحداثة الكاسحة التي تفكّك كلّ
أشكال المقاومة، لا تعلن أنها ترفضها "مبدئيا"، بل تلتجئ إلى أساليب
ملتوية، تتمحّل فيها حتى تبرّر "عمليا" موقفها الرافض في العمق.
أول تقنية تعتمدها الأصولية ضدّ إكراهات التحديث هي ما يمكن أن
نسمّيه بـ"الانتقائية"، وبموجب هذه التقنية تعمد الحركات الأصولية إلى
التقطيع والتمييز في الحداثة بين جانب "تقنيّ ماديّ" نافع، وجانب "قيميّ"
غير نافع؛ الأوّل لا يضرّ من منظورها لأنه لا يمسّ الجوهر ولا يهدّده،
والثاني مضرّ تنبغي محاربته؛ الأوّل كونيّ وإنسانيّ مشترك لأنّه لا دين له،
والثاني مخصوص بالغرب علينا تركه، بل محاربته. على هذا الأساس تميّز هذه
الحركات مثلا بين "منتوجات" الحداثة التي ينبغي أن نستفيد منها، وبين
"روحها" التي تبقى من منظورها خاصة بالغرب وثقافته، وهذا الأمر هو ما يبرّر
ولع الأصوليين بمنتجات الحداثة، بل وتفوّقهم في تدبيرها واستخدامها، وهو
ما يظهر مثلا من براعتهم في استغلال الإعلام ووسائله من أنترنيت وقنوات
فضائية وغيرها، فالقنوات و المواقع الدينية هي اليوم بالعشرات، في حين لا
نكاد نجد غير قلّة قليلة من نظيراتها "الحداثية" والنقدية.
في مستوى آخر تلتجئ النزعات المحافظة لتقنية أخرى لا تقلّ "بساطة"، ولكنها
لا تقلّ دهاء، وهي ما يمكن أن ننعته بـ"التفريغ"، فالأصولية - عن وعي أو
من دونه- تحاول أن "تفرغ" عناصر التحديث من مفعولها، ولهذه التقنية مظاهر
عديدة، أهمّها نصادفه في المجال السياسي، وفي الطريقة التي تستغلّ بها هذه
الحركات وتستعمل بعض المفاهيم السياسية الحديثة، وعلى رأسها مفهوم
"الديمقراطية".
تعلن الحركات الأصولية أنها لا تعارض مبدئيا "الديمقراطية"، بل تؤكّد أنّ
عناصر هذه الديمقراطية "موجودة" فيها وبأحسن ما يكون، ويكفي لتبين ذلك
عندها أن نفحص مفهوم "الشورى".
على أنّ مقصود هذه الحركات بالديمقراطية صوريّ محض، لأنّه عندها لا يتعدّى
حدود "تقنية" "الانتخابات النيابية، أي السلوك "التطبيقي الذي نلتزم به
حتى نوجِد ممثّلين، أمّا المبادئ الأساسية التي تؤسّس للديمقراطية عمليا
(حرية التديّن، والحقّ في الاختلاف، وحرية المرأة، وحقوق الإنسان …) فإنّه
يتمّ تناسيها، وبذلك فهي تفرغ الديمقراطية من محتواها عمليا، في الوقت الذي
تدّعي العمل بها نظريا.
مكر الحداثة، استعارية الخيار:
هل تنجح الأصولية بهذا المعنى في احتواء الحداثة؟ هل تحدّ من أثرها؟ هل تنتصر عليها؟
يغلب على بعضنا أمام هذا المدّ الأصولي الذي تحياه مجتمعاتنا، أن يميل
للتسليم في الجواب، ولكنّ الأمر، في نظري، هو على غير ذلك، إذ أنّ هذا
النزوع الانتقائي والتفريغي، وعلى الرغم من فعاليته الآنية، أي على الرغم
من نجاحه على المستوى القريب؛ فإنّه على المستوى البعيد ينعكس على ذاته،
فليست العلاقة بين "الجوهر" الذي هو "الروح الإسلامية" ومنتجات الحداثة
المادية الخارجية، هادئة ساكنة كما تتصوّر الحركات الأصولية، بل هي فعل
وانفعال مستمرّان، إذ أنّ هناك فعلا للظاهر في الباطن، وللصورة في المادة،
فليست الأمور بهذه المانوية الساذجة الفجّة، وبهذا المعنى فإنّ اختيار
الأصولية مفخّخ في العمق، لأنّ الحداثة تسخّر الأصولية ضدّ ذاتها، حين تسعى
هذه الأصولية لتحريضها واستغلالها، بل إنّ فعل الحداثة في الأصولية من هذا
المنظور يكون أقوى وأشدّ، لأنّه فعل "جزيئي" داخليّ، فعل مقنع صامت، فعل
شبيه بفعل الماء في الصخر، فالحداثة تمكر بالأصولية في الداخل، حين تسعى
هذه للمكر بها في الخارج.
أوّل أشكال مكر الحداثة أنّها تدفع هذه الأصولية إلى أن تعمل دائما
بـ"إزاء" و"بالقياس إلى" و"باعتبار" الحداثة، وهي في هذه "الإزائية"
و"القياسية" و"الاعتبارية" ترغم النزعات الأصولية على أن تتنازل عن كثير من
أسسها، فهي تكون مضطرّة مثلا لأن تبرهن أنها ليست ضدّ الاستفادة من
الحداثة، بل هي تريد فقط أن تهذّبها، فهي مثلا ليست ضدّ المرأة، وليست ضدّ
ولوجها المجال العموميّ، بل هي فقط تريد – بحسب ما تعلنه - أن "تقنّن" هذا
الولوج، ثم هي تكون مضطرّة لأن تقول إنها ليست ضدّ الرأسمالية والنظام
البنكي اقتصاديا مثلا، ولكنها تريد فقط أن "تخلّقه".
ما ينبغي الانتباه إليه هنا هو أنّ الأصولية وأمام ضغط الحداثة الكاسح
تصبح في موقف دفاعيّ، بل وتبريريّ، وهي من هذا المنطلق تكون مضطرّة للقبول
بتنازلات قد تبدو "شكلية" في الظاهر، ولكنّها من منظور التاريخ عميقة
وأساسية، لأنها تنازلات "مبدئية"، إذ هي تنازلات في المستوى القيمي، أي في
الفلسفة العميقة التي تحكم الأصوليات، فالحداثة ترغم الأصولية وتدفعها لأن
تتحوّل من الحديث عن الموت، إلى الحديث عن الحياة، بل وأن تتفانى في بيان
مدى إقبالها على الحياة وحبّها لها، ومن هنا الحديث عن "فنّ
إسلامي" و"موسيقى إسلامية" و"أناقة إسلامية" و"تعارف إسلامي على النيت"
وغيرها، وهذا تحوّل عميق، لأنّ جوهر الأصولية هي كونها في الأصل تمتح من
الموت وتجد مبرّراتها في تدبير "اقتصاد"ه.
على المستوى السياسي أيضا لا تقلّ هذه التحولات أهمّية، لننظر مثلا في
مسألة شكلية ولكنها دالة، وهي مسألة الأسماء، فحتى المجتمعات التي تعلن
الشريعة مرجعا لها تكون أمام ضغط الحداثة مضطرة لأن تتسمّى بأسماء معاصرة،
والنماذج في ذلك كثيرة منها "دولة العراق الإسلامية" أو "الجمهورية
الإسلامية الإيرانية". فما لا ننتبه إليه كثيرا هو أنّ هذه التسمية حاملة
لتناقض، وهو تناقض يدلّ على توتّر وأزمة في التصوّر الأصولي، فالحركات
الأصولية حين تسعى لإثبات ذاتها ككيان إسلامي، لا تستطيع أن تفعل ذلك
إلا عبر محدّد سياسي حداثي محض هو نظام "الدولة"، وصفة "الجمهورية"، مهما
اختلفنا آنيا في تحديد القيمة السياسية لهذه الأوصاف، وهو ما يعني أن
الأصولية في سعيها لتكريس ما هو إسلامي، تعمل على النقيض من ذلك على تكريس
مقدّمات الحداثة السياسية(1).
الأمر هنا أشبه ما يكون بمكر العقل الهيغلي، حيث يرسّخ الخصم، دون وعي
منه، أقدام خصمه ويثبّتها، من حيث يريد ويعمل حثيثا على نفيه وتنحيته.
إن ما يعلمنا إياه هذا الأمر هو أن فعل التاريخ يتجاوز إرادات الأشخاص
وميولاتهم، فالتاريخ سيد نفسه، ودينامية الحداثة والقدامة وصراعهما
وصدامهما ليس مواجهة مباشرة بين خصمين مكتملين منفصلين في مجال واضح
المعالم، بل هي مواجهة في الجزئي والبيني؛ مواجهة تتجاوز وعينا المبدئي
وإرادات "الفاعلين"، فالفاعل الحقّ هو التاريخ، ولهذا فأفضل ما يمكن أن
يفعله "المحلّل" أو المفكّر، هو أن يمتلك فضيلة الإنصات والإصغاء لحركة
التاريخ .
هامش: 1- سبق لمجموعة من المفكرين العرب أن اشتغلوا بهذه القضية، خصوصا المتعلقة
بالمجتمع الإيراني، وهنا نسوق اجتهادات الأستاذ العفيف لخضر، ونسوق
بالخصوص أبحاث الأستاذ محمد سبيلا، خصوصا في كتاب له بعنوان "النزعات
الأصولية والحداثة"، (منشورات رمسيس، الرباط 2000) ففي هذا الكتاب نجد
تحليلا لهذه القضية، كما نجد تحليلا وافيا للآليات التي تحاول بحسبها
الحركات الأصولية ترويض الحداثة، أنظر بهذا الخصوص المبحثين الأول والثاني
من الكتاب، والمعنونين بـ"في الإسلام السياسي"؛ "بين الأصولية والحداثة"