الديمقراطية البلاستيكية
احمد السنوسي
2011-06-15
-1- حين يلحق البوار بسوق السياسة، وتنعدم القدرة
على إنتاج الأفكار، خصوصا حين تنبت الأفكار الجديدة في حقول حرص الرسميون
على أن تظل جدباء جرداء قاحلة، فباغتت الجميع بأزهار نبعت من قلب الصخر
الأصم، معلنة قدوم ربيع الحرية الحقيقي، لا مكان فيه لـ'أزهار اصطناعية
مفبركة'، ولا لـ'ديمقراطية بلاستيكية' لا جذور لها ولا طعم ولا رائحة، فإن
جواب المفلسين يأتي في شكل خيارين لا ثالث لهما: إما الإنزال القمعي
للدبابات والدواب والجمال الهائجة على ميادين التحرير، أو تدبير إنزال
أمني كواليسي مهمته تسويق بالونات الاختبار، من أجل قياس درجة حرارة
الشارع، والعمل، في مرحلة ثانية، على التخفيف من وطأتها، عبر ترويج
الإشاعات المغرضة ضد الناشطين المتطلعين إلى التغيير، أو تصريف وعود
بالقضاء على المفسدين دون القضاء على الفساد. (فيجب أن يبقى الفساد في صحة
جيدة، لأنه من ركائزهم الأساسية). وهو ما يعني التضحية بأكباش فداء فاسدة
أصلا، أو بمناهج تدبير جائرة، أو بتلبية مطالب فئوية طال أمد المناداة بها
واستطال، إلى أن تعتقت وعلاها الصدأ والغبار، وتسيجت بخيوط الرتيلاء. وهي
كلها تدابير تهدف إلى التخدير الموضعي ريثما يتم ربح القليل من الوقت، في
انتظار حقن الشعوب بأمصال جديدة، ذات طابع بهرجي، أو كروي، تصم فيه الآذان
بهدير الطبول وزعيق 'الفوفوزيلا'، والمشاعر الوطنية المتأججة الخارجة من
عقالها، التي يتم توظيفها خارج السياق. ولقد أثبتت ميادين التحرير أن
التخدير الظرفي زئبق زائل، سواء تعلق بأردية 'احتفالية' أو بوعود بنصوص
جديدة بالوثيقة الدستورية، فيما الشعوب صنعت بنود دساتيرها من خلال ما
حملته من لافتات حروفها مكتوبة بنور ونار، ومن النور والنار بالذات تسطع
شمس الحقيقة دائما.
-2-
حين يخاطب الدكتاتور زميله في الدكتاتورية:
'إرحل!'، فتلك علامة لا تخطئ من علامات الساعة التي لا ريب فيها، ودليل
قاطع على المستوى المتدني لـ'التضامن' بين رموز الاستبداد.
قد يستوعب
المرء بسهولة أن دولا استكملت بناء صرح ديمقراطيتها، وشيدت استمراريتها
على أسس الشرعية الشعبية (كمثل طيب رجب في تركيا اليوم)، تبادر إلى توجيه
النصح السديد للمستبدين المنهارة قلاعهم، بمغادرة خشبة مسرحهم التراجيدي.
لكن، أن يتصدى 'نفطيار' ومعه الأمراء والشيوخ والسلاطين ورؤساء القبائل
والعشائر لزملائهم في الاستبداد والظلم والقهر والفساد والتنكر لحق الشعوب
في الحياة، خارج صفة العبودية والسخرة و'البدون'، وضرورة أن يكون للإنسان
الحر 'كفيل' يصادر جواز سفره وحقه المصون في التنقل والعمل والهواء، فذلك
يعني، بالضرورة، وجود قناعة راسخة لدى هؤلاء الذين حرموا الحرية وحولوا
أراضيهم إلى مزبلة للمستبدين المخلوعين، بأنهم وصلوا إلى سدرة المنتهى،
وأن الأبراج الشامخة التي شيدوها على غرار ناطحات سحاب نيويورك، في بلاد
عمهم سام، تعفيهم من الالتفات إلى منظومة القيم التي صنعها الإنسان تحت
سماوات أخرى. لذا، فقد استعجلوا رحيل الفاشلين من زملائهم في الاستبداد،
حتى لا تنتقل عدوى الفشل والانهيار والإفلاس إلى خيامهم.
-3-
وتحت
الخيام، بالذات، شيدت مطابخ للتحريم والتجريم، في مواجهة ربيع حريات
الشعوب، صنعوا قاموسا للخريف الدائم، أمروا بوضع قائمة سوداء للألفاظ
والأفعال التي أضحت محظورة بقرار أميري، وفي صدارة قائمة الممنوعات فعل
'رحل'، وخصوصا في صيغة الأمر: 'ارحل'، وكذا فعل: 'أراد'، الذي يريد إسقاط
أصنام القمع الكثيرة.
ومن الألفاظ المحظورة 'الفساد' و'الاستبداد'،
التي صدر أمر بإلغائها، كما سبق أن تم إلغاء شعوب بأكملها، وبجرة قلم
ديكتاتورية أو أميرية غير قابلة للاستئناف. وامتد قرار الحظر من القاموس
إلى التقويم الزمني، حيث صدر الأمر القاطع بحذف أيام معلومة، منها يوم
'الجمعة' في الشرق المغربي، ويوم 'الأحد' في مغربه، الذي زايد على ذلك
بإلغاء شهر 'فبراير'، بكامله، الذي اختاره الشباب رمزا لإطلاق الشرارة
الأولى ضد وحش الفساد، الذي تفنن في ارتداء أقنعة الحداثة والعصرنة
والحربائية، لإخفاء وجهه البشع. ولن ينجح في ذلك.
' كاتب وفنان مغربي