هذا زمن السقوط بـ'السكتة الشعبية'
أحمد السنوسي
2011-02-16
سقطت أنظمة استبدادية بـ'السكتة الشعبية'، فيما
اكتشفت أنظمة أخرى فجأة ان لها شعوبا، لكن خيالها لم يجمح بعيدا، فهي ما
تزال تنظر اليها على أنها مجرد بطون جائعة، فعمدت على وجه الاستعجال الى
مراقبة اسعار الطحين والطماطم والزيت، حتى لا تخرج من عقالها، ونسيت أن
حاملي تلك البطون يملكون احلاما وتطلعات وشوقا جارفا الى الحرية والكرامة،
ورغبة اكيدة ليس فقط في ترميم الشرخ العميق في جدار وطن جريح، بل يريدون
اليوم اقتلاع وباء الفساد من جذوره، وليس فقط معالجة نتائجه بالمراهم
المهدئة والمسكنات الظرفية.
واذا ما قمنا بقراءة هادئة لأدبيات ما تبقى
من الأنظمة التي لم تمسها بعد 'السكتة الشعبية'، فاننا نصاب بالذهول لكونها
تعتبر 'الشعب' مفهوما جديدا لا مرجعية له في ثقافة العرب العاربة، فيما
حول عرب النفط أرجاء العالم العربي المعوزة الى منتجعات للدعارة والقمار،
واستثمروا في فقر 'اخوانهم' العرب قليلا من 'الفكة'، فيما الارصدة من
العيار الثقيل تنام راضية مرضية في البنوك الامريكية والاوروبية الصهيونية
الى حين يصادرها 'الحلفاء' لدى حلول 'السكتة الشعبية'، بعد ان يطالب الشعب
وفئاته المحرومة باستعادة المال المنهوب من ارضها وعرقها. لقد انتهى ذلك
العهد الذي اعتبرت فيه أنظمة الاستبداد ان 'الشعب' فكرة جديدة ودخيلة. وما
ذكى وهممها كونها لم تستمد شرعيتها من المنطوق الشعبي الحر، وانما استندت
الى أساطير ودجل وشعوذة سياسية وجدت لها 'منظرين' مرتزقة و'مؤرخين' رسميين
ومحللين ومحرمين' سياسيين، وكلاب حراسة شرسين بأنياب طويلة تنهش في جسد كل
من تجرأ على الجهر بسؤال الشرعية.
ها قد انطلق عهد 'السكتات الشعبية'،
لكن السؤال يظل قائما: هل اسقاط الديكتاتور يعني بالضرورة اسقاط
الديكتاتورية، التي كان لها من الوقت ما يكفي لنسج شبكات متداخلة ومتقاطعة،
اخترقت كل مجالات الحياة من أمن واقتصاد ومؤسسات واعلام وولاءات خارج
الحدود، وتواطؤات من 'ديمقراطيي' أوروبا وامريكا، ومن منظمات دولية شكلت
لها رأس مال هائلا من تجارة تسويق صورة الديكتاتور عالميا والترويج له
وكأنه المنقذ من الضلال وحامي حمى أمريكا وأوروبا واسرائيل من خطر الاسلام،
ومحاربة كل دعوة الى الانتفاض والانعتاق واحقاق الحق.
وقد أحبطت
انتفاضة الجماهير العربية من سيدي بوزيد الى ميدان التحرير، كل هذه الصيغ
الملتوية التي هدفت الى تأجيل الثورة الى أجل غير مسمى، وهو ما سيدفع
بالمتربصين بالشعوب الى مراجعة حساباتها بالكامل. وقد تصيب الهدف اذا هي
راهنت على دعم الثورة، وستخلف موعدها مع التاريخ ان هي عادت الى التآمر
عليها، واصرت على دعم من تبقى من المفسدين في الارض. فمن رحم ثورتي تونس
ومصر خرج قاموس عربي جديد نقحت صفحاته من المصطلحات المتآكلة والمفردات ذات
الرنين الصداح والمعنى الاجوف، والكلمات التي ضجيجها اقوى من مدلولها، كما
تخلص القاموس العربي الجديد المنبثق من معاناة الشعب من كل الامثال
و'الحكم' التي ربت الانسان العربي على الانهزام والخضوع والامتثال وطاعة
الحاكم، حتى لو كان على ضلال وظلم وجبروت، واوصته بالصمت لانه من ذهب، فيما
الذهب تكدس في خزائن الطغاة، من البحر الى البحر.
واسدت له نصائح بحفظ
اللسان لانه يؤدي بصاحبه الى التهلكة، (ألم يقل أحدهم: لساني سبع ان تركته
أكلني)، وبالتزام الصمت حيث يجب الكلام، حيث تبارى شعراء الديكتاتور
والمداحون في تعداد فضائل السكوت وفوضوا للطاغية الجلاد وحدة الحق في القول
والفعل.
لقد خرج القاموس الجديد منتصرا من خضم ثورتي تونس ومصر.. وما
ستليها من ثورات شعبية أخرى، حيث ستتخلص اللغة وقاموسها دفعة واحدة من
الحمولات الاستبدادية المزروعة في صلب الكلمات، فاللغة ليست بريئة، كما
يقول علماء السيميولوجيا، وعاشت الثورة.
' فنان وكاتب مغربي