الطفل حمزة الخطيب.. |
محمد دحنون
31/05/2011
الجريمة
مروّعة، لكنّها تكتسب صفات لا أسماء لها، حين تفوح روائح تبرير قاتلة
تمتزج مع روائح الدم. هي المأساة مضاعفة: تعذيب، قتل، فمحاولات للتبرير:
تبدأ مع الحديث «الطبي العلمي» عن انعدام وجود آثار للتعذيب على الجسد،
وأن الجثّة منتفخة وحسب، وتنتهي بقول ما لا يقال. مفاد الحديث كلّه: موتك
بالرصاص مقبول وربما مستحب، أمّا التعذيب فقصّة أخرى.
لكن من أنت؟ أنت طفل وهذا يكفي. يكفي لقول أشياء كثيرة، من بينها: إنّ
حديث «الطبيب» على إحدى القنوات الفضائيّة ليس أقلّ من تكرار للجريمة؛
تمثيل بالروح التي خرجت، بعد أن بلغ التمثيل بالجسد غايته القصوى: قتلوك
مرّة، مرتين.. ألف مرّة.
لا شفاء لروحك. تصعد سماءً أو تتيه في أحاديث أرضيّة عنك. المطلوب في
لحظات كهذه شيء واحد: ربّ موجود، موجود بحقّ، موجود بقوّة، إذ لا أمل منا
نحن البشر!
سترفع شعارات كثيرة تعلن الوفاء لك، وسيقول كثيرون، وهم صادقون فيما
يقولون، إن دمّك لن يذهب هدراً. كلّ هذا لن يفيد. كل هذا لا يفيد: قُتلت،
عُذّبت، قطعوا لك عضوك، اخترق الرصاص أنحاء في جسدك. شيء واحد تعنيه كلّ
هذه الفظائع: إنسانيتنا نقصت، أو ربما انكشف غيابها. علينا أن نعيد ترتيب
أنفسنا ونتدّبر حيواتنا بحيث نغيّب حضورك الذي لا يغيب؛ نهرب إلى الأمام،
نرتكس إلى الخلف، كل هذا ليس بمهم، المهم أن نختزل حساسية أراوحنا إلى ما
هي عليه بحق، لنعد فنحيا بدائيتنا المتوّحشة: هكذا كنّا، هكذا صرنا!
كيف لنا أن نتقدّم إن نحن نسيناك... وسننساك؟ لا سبيل إلى إعادة الزمن.
لم يكن لنا سوى استقرار عفن نموت فيه ببطء. نموت فيه ألف مرّة. نموت من
خلاله بالمفرّق. لم يكن لنا سوى ماض رُوّضنا فيه على نسيان عذابك القادم.
لكنك خرجت، تظاهرات، شاركت الآلاف في الهتاف لشيء تبدو أنت أقرب إليه من
أي أحد آخر: طفل يهتف للحريّة! كنا ننعم بدفء التفسخ، ندّعي حلولاً
لموتنا، نرتجل سعادة وفرحاً في عزائنا بأنفسنا، وحين انتهى حبل الكذب،
وحين تململت جثثنا ودبّت فيها أرواح جديدة، كنت، مع غيرك، في المقدّمة:
دليل ودرب. نطمئن إلى الدليل إذ يبحث عن الفرح، ونثق بالدرب الذي اخترته،
فقد اخترت الدرب المشاكس، الوعر، والصعب.
لكنّك عُذبت وقُتلت!
الوفاء ممكن والإخلاص كذلك، لكن حاجتنا إلى جهود عظيمة لنتصف بهما تجعلنا
نفضّل النسيان عليهما، نحن الذين عشنا عقوداً طويلة عجزنا خلالها عن
اكتشاف قيمتنا حين استسلمنا لـ«نسيان الوجود»، سيغدو من الصعب اليوم أن
نصرّح لأنفسنا بكوننا بشر، مشروع إنسان!
اليوم، يهتف سوريون في شوارع بلدهم لشيء اسمه الحريّة. خرجت الكلمة منهم
هكذا. ليست شعاراً ولا أهزوجة. شيء ما يشبه كلمة سرّ تموج في الصدور
لتُسحق عند الشفاه. يهتفون لها. يرددونها كممسوسين: حريّة، حريّة، حريّة.
ليس أمراً غريباً، صادف أن التقت وجوه وجوهاً أخرى، تتواطأ الوجوه لتندلع
الكلمة التي في الصدور. في البدء، لم يهتف السوريون ضد أحد. صدحت حناجرهم
بما تاقوا إليّه. نادوا على عوزهم الشديد للتحرّر. طالبوا بما يحقق لهم
إنسانيّة لم ولن تتحقق بالخبز وحده. هتفوا لرغبتهم في أن يكونوا قيمة
إنسانيّة. هتفوا لرغبتهم في أن يسهموا في صياغة «قدرهم». «اندسوا» في
شؤونهم الخاصّة، والحريّة المدخل الأوّل والأنسب لهذا «الاندساس». لماذا
يفعل سوريون كل ذلك؟ لماذا أريقت دماء وستراق دماء كثيرة في سبيل ذلك؟ فقط
لمقاومة العطالة التي أنتجتها عقود طويلة من الغربة عن وجودهم وعن شروطه،
لمقاومة العطالة التي حوّلتهم، بطاقة القمع الهائلة، إلى هلام لا حول له
ولا شكل ولا قوّة ولا حريّة!
يبحث سوريون اليوم عن شروط حياة جديدة، آن لها أن تتشكل. شروط لا تسمح
لكافة أنواع المجرمين بمجرد الاقتراب من طفل صغير. شروط تنقل سوريا من
كونها وطن حزب أو أيديولوجيا أو فئة إلى وطن إنسان. يناضلون في سبيل أهداف
كثيرة، يكثفّها واحد أحد: إعادة الاعتبار لوجودهم كبشر، كقيمة إنسانيّة!
الأربعاء يونيو 22, 2011 5:04 pm من طرف تابط شرا