1) تلخيص يحاول هذا المقال مناقشة بعض الأفكار المتعلقة بهوية المجتمع التونسي
وكيفية تحويلها إلى معادلة في قالب قانوني - يمكن أن يتضمّنها الدّستور
التّونسي الجديد- لتصبح محدّدا لعلاقة الدّولة التّونسيّة الجديدة بهويّة
المجتمع التّونسي وبالأفراد. يبيّن هذا المقال رؤية ما للهويّة العربيّة
الإسلاميّة تحتفي بأصالة الفرد ضمن وجود اجتماعيّ حقيقي تاريخيّ. يُبرز هذا
المقال أن الهويّة العربيّة الإسلاميّة ليست هوية إيديولوجية ولكنها هويّة
اجتماعيّة وهي روح المجتمع ووجدانه وتطلعاته. أصالة الفرد والمجموعات
الدينية والأيديولوجية الأخرى داخل هذه الهويّة محفوظة تماما، بل يبيّن
المقال أن هذه الهويّة إذا أدمجت داخل الدّستور التّونسي ستكون الضّامن
الحقيقي ضدّ هيمنة الإيديولوجيا والتعصّب، لأنّ حريّة الأفراد والمجموعات
ستكون في هذه الحالة نابعة عن مرجع شعوريّ رمزيّ يعترف بالحياة الجماعيّة،
بما تقتضيه من تكليف وإرادة واختيار بل ومحاسبة جماعية إذا رضي المجتمع عن
اعتداء فرد من المجموعة على حقّ غيره من الأفراد أو حتى على حقّ الكائنات
الأخرى كالحيوانات مثلا. هذا المرجع النظري موجود في النصوص، بينما
الضّمانات الواقعية هي تاريخ تشكل هذه الهوية واستمرارها وحالة التعايش
والصّفاء الذي تعيشه المجموعة الوطنية التونسية وإمكانيات التحقّق الواقعي
لضمانات ومكاسب هذه الهوية بعد سقوط الاستبداد.
2) إبانة عامة إن الفكرة التي لا تكون قادرة على دخول عالم التغيير ومحتفظة بهذه القدرة
على تغيير التغيير نفسه تصبح كالفكرة الأفلاطونية التي تسبح فوق عالم صناعة
التغيير لا تنزل إليه ولا تقرّ على قرار. إنّ أيّ فكرة تتعلق بهويّة
الشّعب التّونسي يتركّز عليها بناء دولة ما بعد الثّورة تظلّ خارج إمكان
التحقيق، ما دامت لم تدخل تاريخ تبلور هذه الهوية، ولم تتوقت بأوقات ذلك
التاريخ. إن المأزق الحقيقي الذي يعترض الأفكار الهويّاتيّة التي لا تستند
على فكرة الشّعب العربي المسلم هو كونها أفكارا غير تاريخيّة وهي خارج نطاق
المشروعيّة الاجتماعية، بل حتى المشروعيّة العقليّة، وأغلبها مدعوم
بأيديولوجيات المركزية الغربية وتاريخها. لكي تكون الفكرة منتجة للتغيير أو
قابلة لربط صلة ما بالواقع، وجب أن لا تكون غريبة على الصيرورة التاريخية
التي تنتج حتما كينونة للكائن الذي تتعلق به الفكرة، وهو هنا الشعب
التونسي، وقد أنتج التاريخ -بعد تركيب طبيعي ناتج عن تفاعل عناصر متعددة-
مركبا ذا هوية واضحة هي الهوية العربية الإسلامية ضامنة لأصالة الفرد
والجماعة في نفس الوقت.
3) في سؤال الهويّة إنّ سؤال الهوية وهو متعلق بكينونة الشعب لا يمكن أن يتجاهل هذا الكائن
الذي هو الشعب نفسه فليس ثمة كينونة بدون كائن. صحيح أنّ في الفلسفة
والعلوم الاجتماعية قد لا يمكن تفسير المعقول بالمعقول وحده، ونحتاج في بعض
الأحيان إلى وضع النظريات حول قوى أخرى هامشية وغير مدركة كاللاوعي
الفرويدي والبروليتاريا الماركسية واللامدرك الفينومونولوجي وغير ذلك. غير
أن مسألة الهوية ليست مسألة استدلال فلسفي لا حدود له في المفكّر
به واللامفكّر به. بل إن إلصاق هوية للشعب هو ليس بحاملها أصلا إنما هو جري
وراء هوية مجهولة يبعدها عن أصل الهوية الثابت وهو حاملها، وإن حدث هذا
سنكون كمن ينتج دالا لما لا يدلّ عليه أصلا.
4) ضمانات نظريّة لأصالة الفرد والجماعات الفرعيّة وقد وجب التنبيه أولا لرأينا في وصف الهوية بالعربية، الذي لا يعني أن
الهوية مرتبطة بأي إيديولوجيات قومية أو بانغلاق لغوي أو بتعصب شوفيني،
بقدر ما يعني أن شخصيّة أو كينونته المجتمع التونسي تكونت بتفاعل طويل مع
اللغة الغالبة الحاملة لمضامين الدين الإسلامي والامتداد العرقي والجغرافي.
أما التعاليم الإسلامية فتقوم على حرية المعتقد لدى الأفراد والجماعات
الدينية الأخرى "لكم دينكم ولي دين" ( قرآن-سورة الكافرون). فمسألة جلب
الضرر من "ضلال" الآخرين غير واردة، ولا يجب أن يكون الاختلاف حتى في
الإيمان بالله محلّ انزعاج لدى المهتدين "يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم
لا يضركم من ضلّ إن اهتديتم" (قرآن -المائدة -105 )، وحتّى الكفر بالله هو
خيار شخصي و"من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون" ( قرآن-
الرّوم-44)، ومسألة النّهي عن المنكر إنما هي حثّ على مقاومة الفساد والظلم
وتمرّد على الاستضعاف السّالب للحريّة الإنسانيّة والحقوق الاجتماعيّة "
إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح
أبناءهم"(قرآن- القصص-2) وهو سبب زوال عرشه وقد ظلّ هذا سببا أصيلا يطيح
بعروش الحاكم الدكتاتور في كل زمان ومكان. وحتّى في الفقه لا يوجد تصنيف
لنوع من التعدّي بين الأشخاص يتعلّق بالأفكار أو المعتقد بل إن التعدّي
"يكون في الأموال والفروج والنفوس والأبدان فقط" (القوانين الفقهية-ابن جزي
). ويقوم التعايش داخل المجتمع المتنوع نظريا ضمن هوية الشعب المسلم على
احترام العهود والمواثيق والعقود المكتوبة، ويفترض أن تسعى الفئة الغالبة
داخل المجتمع لاحترام هذه التعاقد الذي يصبح مصدر حقوق الآخرين من البشر
والكائنات الأخرى و" إنما يجمع الناس الرضا والسخط وإنما عقر ناقة ثمود رجل
واحد فعمّهم الله بعذاب لما عمّوه بالرضا فقال : فعقروها فأصبحوا نادمين" (
نهج البلاغة-علي ابن أبي طالب)
5) ضمانات ومكاسب واقعيّة إنّ المجتمع إذ ينتقل من نظام استبدادي تذعن فيه إرادة الشعب كله لإرادة
فرد واحد يتمتع وحده بالقوة، إلى نظام حرّ تكون فيه سلطة الحاكم مقيّدة
محدودة ومراقبة من الشّعب، إنما يتبع خطا واضحا لتحرير هويّته التي لا تظهر
مطلقا في ظلّ الاستبداد ولذلك لا يمكن القول أن المجتمع التونسي عاش ضمن
هويّته طوال فترة الاستبداد.
فالاستبداد مدخل لاغتراب الفرد والمجتمع. فالحكومة الاستبدادية تزعم
أنها تحقّق سلامة المجتمع، ولكنها في الحقيقة إنما تستلب المجتمع هويته، بل
حتى أسباب بقائه وكينونته. فالنظام الذي لا يقوم إلا على الخوف والخشية
إنما هو نظام يدعم قيام القوة حكما بين الأفراد لا قوانين التعاقد
الاجتماعي. لا هوية لمجتمع في ظلّ الاستبداد، بل لا وجود حقيقي لمجتمع
تحكمه حكومة استبدادية. وإذا كانت الحكومة الاستبدادية لا بد أن تنتزع
الحرية فهذا لا يعني أن الحكومة الديمقراطية ضامنة بالضرورة للحرية، بل لا
بد من مراعاة المخاطر التي تكتنف قيام حكومة جمهورية ديمقراطية بحيث يتوهم
الأفراد أنهم أحرار دون أن يكونوا أحرارا في الواقع. إن ما يشهد على قيام
الحرية ليس ذلك الشعور الواهم لدى الأفراد والشعوب عن حريتهم، وإنما يجب أن
يكون احترامهم للقوانين وبالتالي احترامهم للأشخاص هو دليل حريتهم. وإنا
نزعم أن هذا المظهر من مظاهر الحرية ألا وهو احترام الأفراد بعضهم بعضا(le
respect de l’autre) سيكون أكثر تحققا إذا استند على هويّة الشعب التونسي
التي استمرت واستوعبت كل ماضيه، لأنها تقوم على احترام الآخر بدافع داخلي
يستند لرمزيّة قوية لم تظهر طوال فترة الاستبداد. فبورقيبة استنتج أن الشعب
التونسي طوال فترة الاستعمار كان مجرد ذرّات بشرية (poussières
d’individus)وقد سعى لصناعة تركيب اجتماعي من هذه الذرّات البشريّة فأخفق،
لأنه سلك طريق الاستبداد، ومع ذلك استمر الشعب التونسي يحتفظ بكينونة في
داخله تظهر في مواقف متعددة أبرزها التعايش مع أصحاب الدّيانات المختلفة
واحترامهم وتسامحه مع الملحدين وغيرهم بل والانزعاج الشعبي الشديد إذا
تعرضت هذه الجماعات الدينية أو الإيديولوجية المخالفة لأي اعتداء الذي سببه
الاستبداد السياسي أو بعض الأطروحات الشوفينيّة القومية والدينية فقط وليس
هوية الشعب. بل إن الشعب التونسي لم تتح له الفرصة مطلقا لإبراز مظاهر
هويته الحقيقية في ظل حقبة كاملة من الاستبداد وما أظهره فقط هو إشارات
لكينونته، وهي مبنية على مبادئ عامة من التعاليم الإسلامية تحتفي بها حتى
المجموعات الدينية الأخرى، والتي لن تجد ضامنا أوسع وأفضل من الهوية
العربية الإسلامية لحريتها.
6) خاتمة إذا كان الغرض الأسمى من الدستور إنما هو الحريّة وإذا كانت الحريّة إنما
تظهر جليّة في احترام الأشخاص بعضهم بعضا أكثر من أن تكون شعورا للأفراد عن
حريتهم، فإنا نعتقد أن الهويّة العربية الإسلامية ستكون ضامنا مهما لهذه
الحريّة. وصفوة القول أن تنظيم الكيان السياسي للدولة على أساس توازن
السلطات واستقلال السلطة القضائيّة وفرض حدود على السلطة التنفيذية، وإن
كان أمرا مهمّا في صياغة أيّ دستور جديد، إلا أنه لا يكفي وحده لشعور الفرد
بالأمن والطمأنينة. بل لا بد أن تكون حقوق الأفراد مدعومة بمنظومة
قيم نابعة من صميم التقاليد الجماعية تراعي المبادئ الإنسانية، ومنها
الاحتفاء بالطيبة والعدالة والحرمة الجسدية، ورفض كل أشكال التعدي والتحكم
بالأفراد والتعسف والظلم، وتستند لرمزية قوية تنطلق من كينونة الفرد ومن
مبادئ المجتمع وهذا ما تكفله الهوية العربية الإسلامية للشعب.