يقوى الاهتمام بحوار المسلمين والمسيحيين، مبادرة إثر مبادرة، بفعل
حراجة الأوضاع التي تعرفها العلاقات بين الأمم، وداخل العديد منها،
وازدياد المخاوف والمخاطر التي ينذر بها صدام الجهالات، بظلّ سياساتٍ
تتوسّل الرموز والعواطف الدينية، فضلاً عن الخصوصيات الثقافية في
الصّراعات على السّلطة. ولا ترعوي هذه السياسات، في غلوّها وتطرّفها، عن
دفع التمسّك بالهويّة والحقّ في الفرادة نحو مسالك العداء للآخر، بعيداً
كان أم قريباً.
لقد تعاظم الاهتمام بالحوار نتيجة القلق من الظواهر
الجديدة أو المتجدّدة والموسومة بالعنف الطائفيّ والإثنيّ والإرهاب
والتخويف والإكراه وتشويه الصّورة والسّمعة والاعتداء على الكرامات. ولم
يعد توسيع آفاق التفاهم شأن نخبة مثقّفة دون سواها، بل شأن الجميع، ولا هو
قضيّة من قضايا الزمن الطويل، بل حاجة لا تحتمل الانتظار.
وقامت في
العقدين الأخيرين، وعلى وقع المواجهات والتوترات، محاولات كثيرة للائتلاف
في مواجهة التعصّب والتطرف وللاضطلاع بوساطات من أجل حلول سلمية للنزاعات.
وعود الحوار وخيباته
غير
أنّ ازدياد الطلب على الحوار لم يحجب التساؤل عن واقعية الوعود الكثيرة
التي حملها وما يزال. كما لم يبدد اعتراض المعترضين وتحفظ المتحفظين ممن
يحمّلونه ما لا يحتمل. وكأنهم يرفعون توقعاتهم ليحكموا عليه بالفشل قبل أن
يبدأوا به، وليبرروا حذرهم من الدخول في مجازفته. وأياً كان من أمر
التساؤلات والتحفظات والاعتراضات، فإنه مع تكاثر المحاولات أو تناسلها
يزداد الشك في الإنجازات وتقوى الخيبة من الإخفاقات.
ويرتــّب علينا
ذلك أن نقيّم المبادرات من منظورَي الصدقيّة والفاعليّة، ولا يخفى على
أحدٍ أنّ الصدقيّة، في هذا المقام، لا تُشير إلى صدق النوايا فحسب، بل إلى
القدرة على استدعاء الجدّية والاحترام عند أوسع فئة ممكنةٍ من الناس. أما
الفاعليّة فإنّها لا تعني، بالطبع، إمكانية التغيير الفوري والمنظور، بل
التأثير الحقيقي على العقليّات والمشاعر والمواقف، وبصورة غير مباشرة على
تطوّر العلاقات أو مسار الأحداث.
كما يترتّب علينا أن نكون أكثر
دقّة في تحديد مقاصد الحوار وإبراز قيمته والاتفاق على قواعده. فالحوار،
كما الثقافة والدين، متعدّد المعاني، ممّا يؤدّي غالباً بالجهود التي تقوم
باسمه إلى التشعّب، بل إلى التفرّق أحياناً كثيرة.
لم تغبْ عنّا، في
لبنان، هذه الأسئلة؛ ذلك أنّنا كثيراً ما نرفع الحوار إلى مرتبة وعينا
لذاتنا الوطنية، أو لما سمّي رسالة بلدنا. فنحن نُعلي شأنه رغم أنّنا لا
نوفّق دائماً في تعزيز ثقة اللبنانيين بما يستطيعه لجهة تجديد معنى
المواطنة والمساواة في احترام التنوع، أو العيش المشترك كما يُسمّيه
دستورنا ويحلو لنا ترداده.
ونجد أنفسنا، خاصّةً في أزمنة الانقسام
السياسيّ والتوتّر الطائفيّ، وأيّاً كان من أسبابهما، أمام تحدٍّ آتٍ من
حوار الحياة. فهو الذي يضع أمامنا صعوبات التوفيق بين صون وحدتنا والحفاظ
على تنوّعنا. فنخشى مرّة أن يفقدنا الحرص على الوحدة، في الثقافة
والاجتماع والسياسة، شيئاً من إمكانية الاغتناء المعنوي بتنوّعنا والإفادة
منه. ونخاف مرّةً أخرى من أن يُهدد هذا التنوع، إذا ما تحوّل في ظرف من
الظروف إلى تباعد أو تنافر، وحدة الانتماء الوطني وإرادة العيش معاً. لذلك
فإننا نحتاج باستمرار إلى اكتشاف احتمالات الحوار حيث تبدو غائبة، تحت
ركام السّجال مثلاً أو في حيـَل المسايرة.
بالطبع، ليس الحوار بحثاً
عن الاتفاق بأيّ ثمنٍ. ففيه قبول بالاختلاف ومعه الرّغبة في إيضاح الفوارق
وإحلالها في موضعها المناسب، من دون تخفيف مصطنع لها ولا تضخيم مفتعل.
فالحوار لا يزعم إلغاء المنافسة ولا الصراع، بل يقترح سبيلاً لإدارتهما من
غير أن يتحول إلى عملية تفاوض مستمرة. فالتفاوض مقيـّد بما تسمح به علاقات
القوى، أما الحوار فإنه يسهم في التحرر النسبي منها. بل لعلـّه يؤدي
أحياناً إلى تعديلها فيتحقق قدر من التكافؤ بين الأطراف المشاركة فيه.
ويفتح
الحوار أبواباً يوصدها اختزال الناس إلى بعدٍ أوحد من شخصيّتهم الإنسانيّة
وردّهم إلى هويّةٍ واحدةٍ من هوياتهم العديدة والمتداخلة. فيصير واحدهم
مجرّد جزءٍ من جماعة، قوميّة أو شبه قوميّة، دينيّة أو ثقافيّة. لقد راجت
في لبنان، كما في بلدان أخرى كثيرة، تصوّرات وصور توحي بأنّ للجماعات
الدينية والمجموعات الثقافية شخصيات متجانسة وطبائع مميّزة. فيتطلع الواحد
إلى جماعته أو مجموعته فيراها مجمـّلة ويجعل من هذه الصورة أساساً
للمقارنة مع الجماعات الأخرى. ويصير كلّ اختلاف للآخر عنا بمثابة عيب من
عيوبه. ويتجسد جوهر الجماعة أو المجموعة في الأفراد مما يبرر محاسبتهم على
أفعال مستنكرة ارتكبت على يد من يشتركون معهم في الانتماء إلى دين أو
مذهب، حتى وإن كانوا بعيدين عنهم.
على هذا النحو ينتقل العنف،
الفعليّ والرمزيّ، من مكانٍ إلى آخر. فتـُقحم الخلافات البعيدة في
العلاقات القريبة. ولقد شهدت بلاد كثيرة، ومنها بلادنا، مخاطر هذا الإقحام
وهو غالباً ما يوظـّف لمصلحة أغراض سياسيّة خارجيّة، بمعنى أنّها تخرج عن
الصالح العام للجماعة الوطنيّة، لحساب مصالح أخرى تستثمر التناقضات
المحليّة وتفاقمها. لكلّ هذه الأسباب لا ينفصل الحوارعن السياسة انفصالاً
ناجزاً، في دوافعه حيناً وفي تأثيراته حيناً آخر.
إنّ خبرات كثيرة،
ومنها خبرتنا اللبنانية، تعلّمنا أن محك صدقية الحوار وفاعليته وقدرته على
تمكين الناس، أيام الشدة والتعبئة والإيديولوجية والتهويل بالاقتتال أو
الإعداد له، على بناء جسور بديلة من التي يهدمها الخوف والتخويف، وإطفاء
الحرائق التي يتعمد البعض إشعالها واستثمارها في الصراعات على السلطة.
لكن
الاستعانة الطارئة بالحوار لحلّ النزاعات الناشبة، أو المحتملة انفجارها،
لا تؤدي نتيجة تذكر ما لم تستند إلى عملية تراكمية طويلة تـُنسج فيها،
بصبر وبشكل منتظم، علاقات الثقة والصداقة والانفتاح على الغير. وفي سياق
هذه العملية التراكمية تكمن أهمية الجهود الثقافيّة والتربويّة
والإعلاميّة المرافقة للحوار في قطاعات المجتمع على اختلافها.
حـوار المؤمنيــن
وتكمن
في هذا السياق أهمية الحور بين المؤمنين الذي يلتبس أمره أو يجـَلّ شأنه
فيُبعد أو يبتعد عن شؤون المجتمع والسياسة والعلاقات الدولية.
ولقد
صار من البداهة والبداهة لا تعفي من التكرار، القول إنّ قصد الحوار بين
المؤمنين ليس في اقناع الواحد الآخر بصحّة ديانته ابتغاء "هدايته". إنه
لغة تعامل ونوعيّة علاقة مستدامة لا يغيّرها انتفاء الحاجة الظرفيّة
إليها. وهو ارتضاء أن يسائل الشريك شريكه في احترام متبادل للقناعات
وقبول، في الوقت نفسه، باحتمال الخطأ في ما يذهب كلّ إليه. وهو يفتح مساحة
تدعُ الواحد يفسّر ذاته ويستقبل الآخر مفسّراً نفسه بنفسه. لكن الحوار
يفترض نوعاً من الشكّ المنهجيّ، أو تعليق الحكم القيـَميّ، من غير أن
يؤدّي ذلك إلى زعزعة الإيمان. ولا يعني ذلك نسبويّة دينيّة أو سعياً وراء
التلفيق. غير أنـّه يتطلب إقراراً بنسبيّة القول البشريّ، بما فيه
اللاهوتيّ الذي قد يشوّه، هنا وثمّة، الكلام الذي يؤمن النّاس به إلهيّ
المصدر. ولا يقوم الحوار بين الأديان بل بين المؤمنين الملتزمين، كلّ من
جهته، الطاعةَ لله من داخل تراثه الدينيّ والساعين إلى التحرّر من كلّ
اضطراب آتٍ من جراح التاريخ ومن نواقص التفسير.غير أن الحوار الحق ينفتح
أيضاً على فرص اللقاء على صعيد الخبرة الإيمانية والأخلاق وعلى النظر، بل
تجديد النظر، في معنى التعدّد الدينيّ من منظور مقاصد الله الخلاصيّة.
...يستدعي
الحرص على تقدّم الحوار تعزيز القدرة على التمييز، وان من غير فصل، بين
الدينيّ والسياسيّ. والتمييز هذا يبدأ بالإحجام عن تسييس الدين بشكل مصطنع
أو تسخيره لإضفاء الشرعيّة الدينيّة على المواقف السياسيّة. وليس في ذلك
قول بالانقطاع بين الدّين والسياسية، لا في الإسلام، بطبيعة الحال، ولا في
المسيحيّة. ذلك أنّ المسلمين يشدّدون غالباً على العلاقة الوثيقة بينهما
وأنّ المسيحيّين، بخلاف ما يعتقده البعض، لا يعون دينهم كشأن روحيّ خالصٍ
منفصل عن شؤون المجتمع والحكم. فالمسيحيّة والإسلام، وإنْ حسب نهجَين
مختلفـَين يتأسّس كلّ منهما على نصوص الوحي والخبرة التاريخيّة، يشهدان
أنّ حقائق الإيمان تنير الناس وتـُرشد التزامهم شؤون الدنيا كلـّها فضلاً
عن كونها مؤثـّرةً في تشكيل الشخصيّة الجماعيّة، و منها ينبثق معيار تقويم
السلوكيّات التي تنتسب إليها.
ويتبيّن لنا بوضوح كلّ ذلك إذا
توقـّفنا، قليلاً، أمام الحالة اللبنانيّة، صحيح أنّ ما نسمّيه "العيش
المشترك" ليس، في المقام الأوّل، مسألة دينيّة. لكنه، بمعنى ما، شأن دينيّ
أيضاً. فبقدر ما يغفلها الحوار المسيحيّ- الإسلاميّ من أجل تجديده (العيش
المشترك)، يتراجع أمام منطق المشاركة الطوائفيّة. ليس القصد من ذلك ألا
تكون العلاقات بين الجماعات الطائفيّة مدار حوار. بل أن يذهب الحوار إلى
أبعد، نحو نقد النزعة "الجوهريّة" الطائفيّة وهي التي تفرض أنّ لكلّ جماعة
شخصيّةً متجانسةً وطبائعَ ثابتة تكوّنت في كنف الهويّة الدينيّة وباتت
قائمة بذاتها. ويستدعي هذا النقد فيّردّ الدين إلى دوره الروحيّ ليعود
ثانيةً إلى دوره المجتمعيّ، بصيغة جديدة إذا جاز القول. ومن شأن هذا الدور
المستعاد أن يحول دون توظيف البنى الرمزيّة ذات الأصل الديني في ترسيخ
الهويّة الطائفيّة التي تعترض الطريق إلى بناء علاقات المواطنة الحقــّة.
عن واقع المبادرات الحواريّة
...سوف
نقترح، بدايةّ، نمذجةً سريعة لما هو جارٍ من حوارات ثمّ نشير إلى بعض ما
حقـّقه وإلى ما يعيق تقدّمه. فبالإضافة إلى حوار المؤمنين الذي سبقت
الإشارة إليه، لا بدّ من ذكر لقاءات الشخصيّات الدينيّة الكبيرة وهي ذات
دلالة أكيدة، وإنْ اختلف الناس في تقويم أثرها. فهي، بنظر البعض، أقرب إلى
"حوار الصور التذكاريّة". وقد لا يتعدّى وقعها تأثير الصورة على المشاعر
ودورها في حفظ الذاكرة واستعادتها. غير صحيح أنّ اللقاءات المذكورة ليست
بالضرورة جولات من حوار موصول. لكنـّها مناسبات تكشف عمّا بات ممكناً على
صعيد العلاقات بين المسيحيّين والمسلمين، وتدل أيضاً على ما هو مرتجى.
وهي، على هذا النحو، تبيّن أنّ الحوار يعني الجماعات الدينيّة في مجملها،
لا نفراً من الناس فحسب. ثمّ إنّ لقاء الشخصيات الدينيّة، في أزمنة الحرب
او التوتر كما في لبنان، يُقيم فصلاً بين الانتماء الدينيّ وتوسّله سلاحاً
في الصراعات. ولكنه فيما يجهد إلى تبرئة الدين اوالى التنصل ممّا يُركب
باسمه لا يصنع السلام بل يدعو إليه.
وهناك أيضاً الحوارات التي توحي
بها أو ترعاها الحكومات والمؤسسات الدولية وهي تلبّي حاجات متعدّدة، لجهة
بناء الجسور واستدعاء الاعتدال وتشجيع التبادل الاقتصاديّ والثقافيّ.
وهناك غير مبادرة في باب الحوار يشغلها تجسير الفجوة بين الإسلام والغرب
عن طريق التمايز عن التطرف الديني والسياسي والتبرؤ منه او إدانته.
وهناك
ما يُمكن أن نسميّه حوار المواطنة، الذي يميل إلى لون من الواقعية تشدّد
على التلاقي في ميادين الحياة، ومناقشة مسائل المشاركة والمساواة
والمعايشة بين المسلمين والمسيحيّين على الصعد المحليّة والوطنيّة
وانطلاقاً منها.
ويبقى الحوار الجامعي المتخصصّ والذي لم يعدّ
مقتصراً على الباحثين في العلوم الدينيّة. ومنه ما يسلك نهجاً مقارناً أو
يتجاوزه إلى مقاربة مشتركة لمسائل الدين والدنيا بين المسيحيّة والإسلام.
لا
تفترض هذه المنذجة بالضرورة أنّ الحوارات المذكورة تسير بشكل متوازٍ ولا
تعني أنّ لكلّ منها جمهوره الخاصّ وقضاياه. إنـّها تبغي إظهار تعدّد
الدوافع والأولويّات. ولعل التداخل بين النماذج، من حيث الاهتمامات
وأصحابها، يستدعي نمذجةً من نوع آخر ربّما لم يحُن وقتها بعد.
بين التقدم والتعثـّر
....لقد
أنشأ الحوار صداقات طيّبة في لقاء العقول حيناً والقلوب حينا آخر. وفي
الحالتين، أدرك الشركاء فيه أنّ الناس لا تصنعها النصوص إذا تباينت ولا
التاريخ إذا رمى بثقله على المشاعر. وأسهم الحوار، بلا شكّ، في تصويب
معرفة الآخر وتحريرها من أسر علاقات القوى ومركزيّة الذات الجماعيّة.
وفتحت المعرفة المتجدّدة الباب واسعاً أمام الحوار داخل كلّ جماعة حول
معنى التعدّدية الدينيّة بالعلاقة مع وعيها لنفسها. وتنامى الإحساس
بأهميّة التبادل على نحو يتخطـّى الحذر الذي تحكـّم به، في الماضي، منطق
الشروط المسبقة وحسابات المعاملة بالمثل...
وعلى الرغم من أنّ خبرة
الحوار صاغت، وتصوغ باستمرار لغة تخاطب جديدة، فإنّ هذه اللغة، بما تحمله
من مشاعر طيّبة، لم تستبطن بعد في خطاب الهويّة وفي الأدبيّات الدينيّة.
لقد أوصت نصوص الحوار المرجعيّة والتوجهات الصادرة عن عدد غير قليل من
الهيئات والمجموعات بطيّ صفحات الطعن المتبادل الماضية. بيد أنـّها دعت في
الغالب إلى نسيانها عوض مراجعتها وتدارس تاريخيّتها. وإذا ما عاد السجال،
هنا وثمّة، يذرّ قرنه، متسلحاً بالجدل السالف، فليس الأمر مجرّد استخدام،
سياسيّ الأهداف، يلجأ إليه المتطرّفون. بل يبيّن ذلك أنّ أهل الحوار لم
يؤدّوا قسطهم في نشر وعي جديد. وكأنّ بعضهم يحسب أنّ الحوار شيء والتثقيف
الدينيّ شيء آخر.وإنّ ما يصحّ في الأدب الدينيّ يصحّ أيضاً في الذاكرة
التاريخيّة، فالانصراف عن الماضي لا يمحو، بحدّ ذاته، كلّ آثاره. ونسيانه،
بدل ترتيب أمورنا معه، يعيده ثانيةً إلينا.
ومن الأوجه الأخرى
للتعثـّر في الحوار ما يتـّصل بصعوبة سلوكه بين منزلق وآخر يقابله. حسبنا
أن نذكر مثلـَين. فالبعض يخشى من اختراق أنظومته الدينيّة إلى حدّ تجنـّبه
الخوض في المسائل العقائديّة. وإذا ما رضي البحث فيها لجأ إلى المقارنة أو
المقابلة بين مُطلـَقات، وأحياناً إلى إحلال التاريخيّ والنسبيّ في منزلة
المطلق. ويُجازف البعض الآخر في طلب اللقاء على صعيد العقيدة الدينيّة من
دون الالتفات الكافي إلى مخاطر النسبوية والتلفيق التين لا يستسيغها الذين
يدعون للحفاظ الصارم على خصوصيّة العقيدة الدينيّة.
وعلى نحوٍ
مشابهٍ، هناك مَن يؤكـِّد على وحدة الإسلام ووحدة المسيحيّة، ويرى نفسه
ناطقاً، أمام الآخر، باسم أصالتها فلا يعترف، حقـَّاً، بالتنوّع داخل تراث
جماعته الدينيّ ويأخذه التماهي بالمثال والتباهي، بعيداً عن الواقع
بألوانه وتناقضاته. ونجد، من جهة أخرى، الذين ينشغلون بإبراز التباين داخل
المسيحيّة والإسلام خوفاً من الوقوع في الجوهريّة اللاتاريخيّة، فيفوتهم
أنّ الوحدة والسعي إليها مبدأ محرّك في حياة الجماعة الدينيّة وهو يشدّ
الواقع إلى المثال. أما آخر ما يلفت المهتمين، ولعلـّه الأول عند
المراقبين، هو قصور المبادرات الحوارية على اطلاق حركة واسعة من التآزر
والتعاون تعالج المشكلات، تبدد المخاوف وتحد من التوترات والمضايقات.
تبقى
مسألة أخيرة سأتوقف عندها وهي تتصل بتجاوز النطاق الضيق الذي يميل البعض
الى حصر الحوار فيه. ويدفعنا الى ذلك اننا نتبادل الرؤى في الزمن السريع
والمتسارع، زمن الحدث والصورة والمفاجأة والإثارة، وفي الزمن الطويل، زمن
تكوّن المشاعر والمواقف وتطورها. كما نستعيد، نوقظ او نصنع ذاكرتين، ذاكرة
الأحداث والحروب والأبطال والثورات والحركات الشعبية وذاكرة الأيام
العادية، ذاكرة العقليات والأحاسيس وطرائق العيش وصناعة الأفكار.
ولعلّ
الذين يرون العلائق بين المسلمين والمسيحيين بصورة الصّراعات المتواصلة
والمستأنفة أو المتجدّدة هم أنفسهم الذين تأخذهم قراءة التاريخ بعيداً من
ذاكرة الزّمن الطويل تجنح بهم إلى اختصاره في أوقات النزاع ومنطقه
ومشاعره. وهم أنفسهم يميلون عند الحاجة ـ حاجة الاستنفار أو التعبئة ـ إلى
اختراع ذاكرة صراعات لا تنتهي، يسقط فيها الحاضر المأزوم على حقبات
الماضي. فتبدو المواجهات الحاضرة وكأنها نتيجة العداءات الموروثة. فيما
تؤكّد لنا المشاهدات في غير بلد أنّ الحرب تولّد عداوات وتسمّيها وتوحي
بأنّها موروثة. وليس غريباً إذا ما انصرف الإعلام إلى تغطــِّية الحدث في
آنيّته أو لحظته الراهنة واستعان بالصّورة ليظهر المسائل المعقدة بصيغة
البساطة، ليس غريباً أن ينحو إلى تغليب النزاع على المسالمة والتعارض على
التفاعل والمواجهة على التبادل. لكن هذا يدفعنا إلى الالتفات نحو الزّمن
الطويل الذي يسبغ المعنى ويُعطينا مفاتيح للفهم والتفسير في مقاربة أحداث
الحاضر...
إن التشديد على الفوارق بدل وضعها في نصابها، من دون
تهويل أو تهوين، يستند إلى نظرة جوهرية للآخر راكدة بل ثابتة فالجماعات
حسب هذه النظرة. هي كليات متجانسة ولها طبائع مستقرة في التاريخ وهي عابرة
للمناطق والبلدان. لا تلتفت النظرة الجوهرية، إلى المتغيرات الاجتماعية
والسياسية في كل بلد، وداخل كل بلد وهي تبالغ في إعلاء شأن الخصوصية
الثقافية ولا ترى، ولا تريد أن ترى تحت هذه الخصوصية خصوصيات كثيرة.
قد
تكون النظرة الجوهرية على قدر كبير من الفجاجة وتصل في حدّها الأقصى إلى
العنصريّة لكنّها لا تظهر دائماً بشكل سافر. فالإعلام، وإعلام الصورة
خاصّةً، يأخذنا في رحلات إلى عوالم الآخرين ويعرض أمامنا ألواناً كثيرة
وقصصاً متعددة ويوحي بذلك أن التنوع ماثل أمام أنظارنا. لكن التنوع هذا
يحتجب وراء الخلاصات التفسيرية في صورة وكلمات تختزل التنوع في نمط واحد.
والأمثلة على الخلط والتعميم كثيرة. وقد ازدادت في السنوات العشر الأخيرة
بظل المخاوف الحقيقية أو المصطنعة التي تسببت بها العمليات الإرهابية
والحروب العدوانية على حد سواء. ونلاحظ أحياناً أن بعض الإعلاميين، ومعهم
أو من وراءهم الكتّاب، يشددون على التمييز بين مسلم ومسلم ومسيحي ومسيحي
وبين سمح ومتطرف وبين عقلاني وغرائزي، غير أنهم في الوقت ذاته يلمحون إلى
أن التمييز هو في حقيقته إظهار للاستثناءات التي تخالف القاعدة. والقاعدة
هذه تحددها في حقيقة الأمر تلك النظرة الجوهرية التي تصنع الصورة النمطية.
وفي
عودة إلى ما بدأت به، تبقى محاذرة أخيرة تتعلق بالطريقة التي تظهر
الصراعات فيها، اليوم أكثر من الأمس، وكأنّها تفرّعات محليّة لمواجهات
كونيّة. ولقد شهد العالم، منذ تنامي الحديث عن الحدود الدامية بين
الديانات والحضارات، ومعه الحديث عن الحروب المعولمة فالحرب على الإرهاب،
ميلاً متعاظماً إلى إيلاء الأبعاد الدينيّة والثقافيّة للصّراعات أهميّة
كبيرة بعدما تمّ تجاهلها لعقود طويلة. وبفعل النظرة هذه إلى الصّراعات
يستحضر الإعلام السريع والمعولم، المشكلات ويقحمها في العلاقات القريبة.
فإذا ما ظهرت الأزمات والخلافات في بلدٍ بصورة نزاعٍ دينيٍّ أو مواجهة بين
أهل ثقافتين، عوض أن توصف كمشكلة محليّة متعدّدة الأسباب، نقلت العنف
والتوتر إلى بلدٍ آخر. صحيحٌ أن للانتماء الديني والهوية الثقافية تأثيراً
حقيقيّاً في إعطاء الخلافات بعداً تاريخية عميقاً ومدى واسعاً على نحو
يتفوق على المؤثرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. لكن هذه المؤثرات
غالباً ما تكن في أصل النّزاعات ويأتي العامل الديني والثقافي لتبريرها أو
تأجيجها لا أكثر.
كل ذلك يستدعي من أهل الحوار تفكـّراً متجدداً.
ويرتـّب عليهم مسؤولية كبيرة لجهة تجسير الفجوة بين السياسيين والإعلاميين
من جهة والنخب الدينية والثقافية التي اختارت التزام الحوار سبيلاً
للتفاهم بين الناس وليس تجسير الفجوة بالأمر اليسير. فكثير من الأولين
يعيش في الزمن القصير، فيما يبقى الحوار عملاً تراكمياً يندرج في سياق
الزمن الطويل. لكن الناس يعيشون في الزمنين معا"ً.
د.طارق متري/الاتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة