الخطاب العاطفي هو ذلك الخطاب
الذي يهدف إلى إقناع الآخرين بفكرة أو أيديولوجية معينة عن طريق إثارة
مشاعرهم وعواطفهم، طبعا هذا لا يعني أنه يخلو من التبريرات العقلانية، إلا
أن هذا النوع من الخطاب لا عقلاني بطبيعته فرغم احتوائه على تبريرات
عقلانية في بعض الاحيان إلا أنه يستخدمها بطريقة مجتزأة تتناول القضية
(موضوع الخطاب) من زاوية واحدة توحي بصحة النتيجة التي يخلص اليها الخطاب
وسلامته واحيانا يبني هذه التبريرات على مقدمات مثيرة للجدل؛ الحديث عن
الهوية الثقافية هو أحد هذه الخطابات، وهو موضوع حديثنا هنا، الذي يرتكز
على الحق بالاستقلال وإثبات الذات.
الآخر (هُم) من وجهة نظر هذا الخطاب هو الفاعل مقابل النحن المفعول به،
اذ ان الآخر لا يتاثر بنحن ويسعى دائما في اتجاة واحد اي تحويل نحن الى
نسخة مطابقة له. عاقبة ذلك تدمر الذات (نحن او انا)، وفقا لخطاب الهوية،
وبالتالي على الذات ان تقاوم هذه العملية بتشكيل جهاز مناعة قادر على
مكافحة الكينونات الفيروسية الساعية الى تدميرها وتحويلها الى نسخة
فيروسية، على الذات ان تُغلق معظم ابوابها وتضع حراسة مشددة على ما تبقى
منها بحيث تسمح بمرور ما يتوافق مع الذات (من وجهة نظرها- بحسب توجه خطاب
الهوية مثلا الخطاب القومي يسمح بمرور اشياء معينة والخطاب الاسلامي يسمح
بمرور اشياء اخرى) فقط.
بعد أن حدد خطاب الهوية المشكلة ينتقل الى التأكيد على ضرورة مواجهة
المشكلة وخلق اليات لتجنبها، ولأن المشكلة تتمثل بخطر إندثار الهوية بواسطة
المد الثقافي الغربي الذي يمثل طوفان (بالنسبة لاصحاب الخطاب) يهدد
بابتلاع كل ما يصادفه؛ وذهب الخطاب الى اعتبار احياء التراث والتمسك به
ضرورة لانه المصل الواقي من حمى الثقافة الغربية. الهوية هي ما يميز الذات
(وهذا متفق عليه) وبالتالي فان التأكيد على هذا التميز وزرعه في لا وعي
الذات هو السلاح الوحيد للحفاظ على الذات (يبدو هذا منطقيا)، لكن هنا في
هذه النقطة انقسم الخطاب الى اتجاهين بسبب اختلاف الاجابة على السؤال ما
الذي يميز الذات؟، الاتجاة الاول اعتبر ان اللغة هي ما يميز الذات بينما
الثاني اعتبر انه الدين، بهذا انقسم خطاب الهوية الى خطاب قومي وآخر
اسلامي.
عندما يحدث تداول ثقافي بين مجتمعين يحملان ارثا مختلفا، فان من
المُحتم، نتيجة لذلك، ان يتأثر كلا المجتمعان. التغير الناتج عن تفاعل
الثقافتين، اذا امكن قياسه، لن يكون متساويا لان كل طرف سيتأثر بطريقة
مختلفة بناء على عدة عوامل منها مقدار فاعلية الطرف الاخر ومقدار انفتاح
هذا الطرف نفسه. ما اريد ان اقوله هنا هو ان اي تفاعل ثقافي بين مجتمعين
مختلفين سيؤثر حتما على كلا الطرفين ومن المستحيل ان تكون احدى الثقافتين
مستقبلة فقط او مُصدرة فقط؛ لكن ايضا طبيعة التأثُر ومقداره ليس متساويا في
الطرفين. مبدأيا يمكن تصنيف التأثُر الى فئتين ايجابي وسلبي، اقصد
بالتأثُر الايجابي ذلك الذي يطور الذات ينمي قدرتها على الابداع ويجعلها
اكثر تنوعا وفاعلية، اما السلبي فهو ذلك الذي يزيد من انعزالية الذات
وجمودها ويُضيق (بتشديد الياء) حدود الابداع والاختلاف. الدول الاسيوية
المنتجة (الصين، اليابان و كوريا الجنوبية) خير دليل على ما اقول، لانها من
جهة تأثرت بالثقافة الغربية (من ذلك ان بُنية هذه الدول علمانية
واقتصاداتها رأسمالية) ومن جهة اخرى لم تتحول ثقافيا الى نسخة غربية. ربما
يعتقد اصحاب خطاب الهوية انهم نجحوا في مهمتهم وان المجتمعات التي كرسوا
لها خطاباتهم لم تتأثر بالثقافة الغربية واحتفظت بهويتها، لكنهم مخطئين في
ذلك لان هذه المجتمعات تأثرت فعليا بالمد الثقافي الغربي لكنها تأثرت سلبيا
(سأوضح هذه النقطة في الفقرات التالية) بينما تأثرت دول شرق اسيا ايجابيا.
إذا وكما رأينا يبدو الاستدلال (أو المبرر العقلي) الذي يستند اليه خطاب الهوية سليما، للتذكير سأورد الحجة، بوضوح أكثر، كالتالي:
هناك خطر يُهدد الهوية
الهوية هي ما يميز الذات
اذا للحفاظ على الهوية علينا ان نُعزز ما يميز الذات
بنية الاستدلال سليمة لكنه غير صحيح لان المُقدمة الاولى (هناك خطر يهدد
الهوية) غير صحيحة، المشكلة الرئيسية التي ادت الى اعتبار هذه المقدمة
صحيحة تكمن في فهم الهوية، صحيح ان الهوية هي ما يميز الذات لكن الخطأ هو
اعتبار ان ما يميز الذات هو الخصائص التي تحملها لان هذه الخصائص مجرد
ظواهر تُنتجها الية تفاعل الذات فيما بينها اي طريقة التفاعل التي تحدث
فيها وبموجبها تتعامل مع المستجدات التي تعترضها، قد يُقال بان هذا تعريف
دائري، اُجيب باني ادرك ذلك تماما لان الذات لا تتميز بالخصائص التي تحملها
فتمايزها في كينونتها (جوهرها) وليس خارجها. لكن لماذا نعتبر ان
الخصائص/الصفات التي تحملها الذات عارضة (اي ليست جوهرية)؟، ببساطة لانها
عُرضة للتغير فمثلا تغيرت لغات الشعوب الاوربية لكننا لا زلنا ننظر اليهم
كاوربيين. للتوضيح اكثر، دعونا ننظر الى خصائص/صفات الذات كفرد، مثلا ان
يُقال عن شخص بانه حليم او هادئ بالتأكيد لا يعني ذلك بالضرورة انه ولد
بهذه الصفة فربما كان في فترة ما من حياته سفيها (طائشا) او عصبيا، اعتقد
ان هذا امر لا خلاف عليه وتجارب الحياة تؤكد ان خصائص الافراد عُرضة للتغير
وليست جوهرية في ذواتهم. تعريف الهوية هو انها ما يميز الذات وما يميز
الذات هو وجودها كذات اي ان ما يميز الذات هو الذات اذاً يصبح التعريف
"الهوية هي الذات" اي ان الهوية متمثلة بوجود الذات وبالتالي يُصبح القول
بان هناك خطر يهدد الهوية ساذجا عندما يكون القصد فقدان الذات لهويتها!.
بينا سابقا ان خطاب الهوية أخطأ في انه اعتبر الهوية صفة تُحمل على
الذات، ما زاد الطين بلة ان الخطاب يتحدث عن هوية مجتمع، هذا ما جعل
المشكلة تتفاقم، فبينما تكون صفات الذات الفردية عُرضة للتغير نجد ان صفات
المجتمع ليست شاملة فدائما هناك اختلاف وتنوع اذ ان المجتمع يتضمن صفات
متنوعة واحيانا كثيرة متناقضة، وعندما نحدد هوية المجتمع بصفة معينة فاننا
تلقائيا نُخرج كل فرد لا يحمل هذه الصفة من المجتمع، وحتى الافراد الذين
يحملون هذه الصفة (التي اُعتبرت هوية المجتمع – اي اذا خسرها المجتمع فانه
خسر هويته!) عُرضة للاقصاء لان هذه الصفة عارضة ومن الممكن أن تتغير
وبالتالي يجدون انفسهم فجأة خارج المجتمع. هذا النمط من التفكير، الذي كان
خطاب الهوية احد اسبابه، هو ما نسميه الفكر الشمولي. مشكلة المجتمع الذي
يحمل فكرا شموليا انه يحصر التنوع داخل المجتمع وبالتالي يحد من الابداع
وتطوره بطيء جدا (نظرا لغياب التنوع). التنوع لا يعني غياب المبادئ العامة
تماما في المجتمع لكن هذه المبادئ العامة لا بد ان ترتكز الى اساس يشترك
فيه البشر اي ان تكون موضوعية لا يمكن الاختلاف حولها، والموضوعي هو ذلك
القابل للاثبات بادوات العقل او البداهة اما الاعتقاد فهو ذاتي وتعميمه غير
مشروع، المبادئ العامة التي تُدرك بداهة ولا يختلف عليها اثنان مثل "عامل
الآخرين كما تُحب ان تُعامل" و "اهمية التنمية لتحقيق مستوى معيشة مناسب" و
"حق الفرد في الاعتقاد" وغيرها.
خطاب الهوية ظهر كردة فعل للاستعمار على أساس أن الاستعمار يحرم
المجتمعات المستعمرة من حقها في السيادة والاستقلال وبالتالي اعتبروا فرض
المستعمر لثقافته أمرا غير مشروع (أي أنه لا أخلاقي)، لكن خطاب الهوية
بدورة انتج مجتمعات شمولية تسعى هي الاخرى لفرض ثقافتها وتُقصي الاقليات
التي لا تحمل الصفة المُحددة للهوية (من وجهة نظرهم) اي انهم ارتكبوا نفس
الإثم الذي انكروه على المُستعمر؛ طبعا هم لا يلاحظون هذا التناقض (اعتبار
فعل معين غير مشروع اخلاقيا عندما يرتكبه الاخر لكنه مشروع بل انه واجب
عندما ترتكبه الذات) وهذا يُسمى كيلا بمكيالين – هذا ليس غريبا فالمجتمعات
الشمولية ترتكز الى دوغما الاعتقاد وتحكم بموجبها ولا ترتكز على العقل.
قلتُ سابقا بان التفاعل حتما سيؤدي الى تغيير وهذا التغيير اما ان يكون
سلبيا او ايجابيا، وقلتُ ايضا ان المجتمعات التي كُرس لها خطاب الهوية
تأثرت سلبا ومع ذلك يعتقد موجهو الخطاب ان الغرض من هذا الخطاب هو حماية
المجتمعات من التأثُر وربما يعتقدون انهم نجحوا الى الآن في حماية ما
يسمونه الهوية من الاندثار وقلت انهم مخطئون. من الممكن ان يكونوا محقين
اذا وفقط اذا كان قصدهم التأثُر الايجابي فهم فعليا نجحوا إلى حد ما في
مهمتهم. من ما لا شك فيه أن الخطاب نفسه (اي خطاب الهوية) كان نتاج حضور
الآخر أي أنه نتاج تفاعل الذات مع الآخر، ولو ظهرت طفرة نقدية لربما أمكن
تفادي عواقب هذا الخطاب الذي كرس توجها معينا في المجتمع (الذات)، ولأن
الخطاب لم يكن سليما (أي أنه لم يرتكز على مبررات عقلية) فإن تأثيره كان
سلبيا على المجتمع. الخطاب يؤكد على أن هوية الآخر تمثل خطرا يهدد هوية
الذات لدرجة ابتلاعها، وبناء عليه اذا لم نحم الهوية الذاتية من خطر الآخر
سنصبح بلا هوية؟!؛ لكن لماذا لا يحدث العكس (أي أن تبتلع الهوية الذاتية
هوية الآخر)؟، الاعتقاد بأن نتيجة التفاعل ستؤدي الى هذه النتيجة يعني ضمنا
الاعتراف بتفوق ثقافة الآخر، لذلك فإنّ ظاهرة الشعور بالنقص وبتفوق الآخر
(اي الغرب تحديدا) لا تثير الاستغراب وهذا أدى إلى الاعتقاد أن من الضروري
أن تتفوق الذات على الآخر، أي أن جدلية الأنا-الآخر في نظرهم هي حالة عدم
استقرار ويجب ان تنتهي حالة الجدل هذه باقصاء احد طرفيها للطرف الآخر (لاحظ
ان هذا يؤكد على طبيعة الخطاب الشمولية التي لا تقبل بوجود الآخر بتاتا).
نتيجة لمبدإ الصراع الإقصائي نجد رفضا لكل ما يصدر عن ثقافة الآخر تقريبا
وظهور مصطلحات مثل "الاعجاز العلمي"، "الاقتصاد الاسلامي"، "نظرية نقد
عربية" وغيرها لانهم يعتقدون أن هذا ما سيؤدي إلى تفوق الذات على الآخر
(ربما تمهيدا لإقصائه تماما) وهي آثار سلبية للتفاعل مع الآخر، هي طبعا
تُشعر المجتمع الشمولي بالارتياح لأنّه تحول بفعل هذا الخطاب الى كيان
منغلق على ذاته ينظر الى الآخر بارتياب (نظرية المؤامرة). التأثُر السلبي
واضح في تناقض ردود الفعل (طبعا لانها عاطفية بالاساس وليست منطقية) مثلا
الانبهار بالآخر وازدراؤه. أهمّ مؤشرات التأثُر السلبي هي شحة الابداع وفقر
الانتاج الفكري والاقتصادي و غياب فاعلية المجتمع – هذا الاخير يُبرر فرض
وصاية على المجتمع من قبل اطراف/ أفراد لها مصالح معينة تمثل ما نسمية
الدكتاتوريات.
قد يعترض احدهم قائلا بان الهوية ليست مجرد وجود ذات بل، أيضا، إدراك
الآخرين لوجود هذه الذات، أجيب بأن ليس مجرد إدراك الآخرين بل يجب أن يكون
الإدراك إيجابيا، اذ من الممكن أن يُدرك الآخر وجود ذات عدائية، ويكفي أن
تُحدث الذات ضجيجا كافيا ليُدرك الآخرين وجودها؛ بالمقابل نجد أن على الذات
أن تحقق نجاحا إيجابيا. بكلمات اُخرى الذات فاعلة بطبعها لكن يُمكن أن
يكون حجم الفعل ضئيلا وهنا نقول إنها غير فاعلة (لا تُقدم على الفعل عادة)،
وعندما يتجاوز حجم فاعلية الذات قدرا معينا نقول عنها ذات فاعلة، إلا أن
فاعلية الذات قد تتخذ اتجاها سلبيا (صُراخ، عداء، تذمر…الخ) أو إيجابيا
(إنتاج، تنمية، إبداع). الذات فاعلة بطبعها لذا عليها أن تنخرط في التفاعل
فيما بينها ومع الآخر بذلك لن تتعطل فاعليتها، لكن عليها، أيضا، أن تُقلص
من الفاعلية السلبية قدر الامكان.
بمعنى آخر لا يمكن الحديث عن الهوية وخطر زوالها. كلّ ما يمكننا أن نتحدث عنه هو فاعلية الذات واتجاه هذه الفاعلية.