لأنّ الصحافة هي المرآة التي
يفترَض بها أن تكون كشّافة العيوب، فضّاحة الشوائن، الضمير المتكلّم باسم
الشعوب المقهورة المغلوبة على أمرها، الوسيلة الأكثر تأثيراً، والأنفذ
مفعولاً، يكون التنادي من أجل سَنّ قانون للصحافة مطلوباً، بحيث يكون
التقنين من أجل توسيع نطاق الحرّيّات الصحافيّة، وتأمين الحماية للصحافيّين
الذين قد يقعون فريسة للتهديد المتواصل بالاعتقال أو الإقصاء أو التصفية،
أو التكفير، أو هدر الدم، لكن ما لا يمكن القبول به، هو أن يُستَغلّ هذا
النداء لتقنين الصحافة في إطار آخر، يكون مقيّداً لها، يجيّرها لخدمة أرباب
الأنظمة، يجبرها على الرضوخ لإملاءاتهم، يَحجر عليها لتكون تحت السمع
والبصر، وفي رعاية القيّمين على الأمور، أي يغدو التقنين وسيلة للتطويع
والتقييد والتضييق.. ولا يخفى أنّ واقع الصحافة في العالم العربيّ مزرٍ،
تكون مراوحة في مكانها، مستعيدة موضوعاتها البعيدة عن مشاكل وقضايا
المواطنين، ذلك أنّها لا تقوم بدورها كسلطة مستقلّة، مهمّتها مراقبة عمل
السلطات الأخرى، لتعرية المختلّ السافر منها، والثناء على الإيجابيّ.
تحوّلت الصحافة في ظلّ الأنظمة المتحكّمة المُستعبدة المُستبدّة، إلى أبواق
تمجّد كلّ تفاصيل حياة الملوك والقادة، تعظّمهم، تسعى إلى رسم صور لهم لا
يطالها الشكّ في الأذهان، تهتف بحياتهم، تصبح وَقفاً على كتابة وتدوين
الاستقبالات والتوديعات، أمّا النبش في الواقع الكارثيّ الذي تعيشه الشعوب،
أو المعاناة المزمنة التي تعانيها، أو المواضيع التي تتغلغل في أدقّ
دقائقهم الحياة، فإنّ ذلك يعدّ من المحرّمات، يعتبر خرقاً للمحظورات، كفراً
بالمقدّسات، وثورة على المنصّبين آلهة وطواطم..
تسلّط الباحثة أسماء اصبير في كتابها «الصحافة المغربيّة بين النصّ
التشريعيّ وحدود المقدّس» الضوء على مختلف القضايا الأساسيّة في الصحافة
المغربيّة في امتدادها التاريخيّ، وواقعها القانونيّ المتراوح بين النصّ
التشريعيّ والتطبيق العمليّ له. وقدّم نماذج من المحاكمات التي تعرّضت لها
الصحافة تحت ذريعة المساس بالنظام العامّ، والمقدّسات بمختلف أشكالها. كما
يجيب على صيحات الاحتجاج التي يطلقها المطالبون بحرّيّة الصحافة، ويكشف عن
بنية التحوّلات التي مرّت بها الصحافة المغربيّة، يعكس بوضوح حقيقة بلد
بأكمله، بكلّ تناقضاته واهتزازاته..
تنطلق الباحثة اصبير في مقدّمتها من القول: «لاشكّ أنّ المقدّس
يتأرجح بين أن يكون ثابتاً أو متغيّراً حسب السياق، والجهة المصدّرة،
وأيضاً حسب الخطاب، فبغضّ النظر عن المقدّس الذي نصّ عليه الدستور أو
القانون صراحة، هناك مقدّسات لم يتعرّض لها القانون، لكنّ تناولها في
الصحافة تُعَدّ مغامرة غير آمنة». ص6.
ينقسم الكتاب إلى فصلين، يحوي الفصل الأوّل إضافة إلى المقدّمة
والخاتمة، ثلاثة مباحث هي على التوالي: 1- فترة ما قبل احتلال المغرب
«1820م – 1912م» يتحدّث عن صحافة عدد من المدن المغربيّة هي: سبتة، تطوان،
طنجة، مليلة، فاس، الدار البيضاء، الرباط. 2– فترة الاحتلال «1912م –
1956م»، تنقسم هذه الفترة إلى ثلاث مراحل هي: مرحلة المطالبة بالإصلاحات
الدينيّة «1912 – 1924». – مرحلة المطالبة بالإصلاحات السياسيّة «1925 –
1945». – مرحلة المطالبة بالاستقلال «1943 – 1955». 3- فترة الاستقلال «منذ
1956م»، وتنقسم هذه الفترة أيضاً إلى ثلاث مراحل. أمّا الفصل الثاني الذي
يأتي عنوانه عنواناً للكتاب: الصحافة المغربيّة بين النصّ التشريعيّ وحدود
المقدّس، يتضمّن ثلاثة مباحث رئيسة هي: - التطوّر التشريعيّ للحقل الصحفيّ
«1958 – 1973». – قانون الصحافة المغربيّ. - الصحافة المغربيّة بين حدود
المقدّس وحرّيّة التعبير.
تكون الصحافة المغربيّة، انعكاساً لمجمل ما مرّ به المغرب من تقلّبات
تتراوح بين ما هو سياسيّ وما هو ثقافيّ، وفي السنوات الأخيرة، تعرّضت
الصحافة المغربيّة لعدد من الإكراهات، خاصّة في ظلّ قانون الصحافة لعام
2002م، وهو حكم لم يُستخلَص من واقع المحاكمات السياسيّة التي تعرّضت
وتتعرّض لها الصحافة، إنّما يُستخلص من خلال المقارنة بين واقع الحرّيّات
في البلاد، خاصّة منها حرّيّة الصحافة، والمعطيات الحداثيّة التي يحاول
المغرب أن يتبنّاها في إطار مخطّطه نحو الانتقال الديمقراطيّ، وما يتطلّبه
ذلك من تبنٍّ لعدد من الممارسات ذات الطابع الإنسانيّ والحقوقيّ. كما أنّ
الصحافة المغربيّة لم تكن بعيدة عن التأثّر بما كان يجري في الدول
المجاورة، فالأحداث السياسيّة كانت تلقي بظلالها على المجتمعيّة
والصحافيّة، منها مثلاً ما أحدثه إعلان فرانكو خروجه عن الجمهوريّة
الإسبانيّة الثانية في 18 يوليو 1936 من انشقاق عموديّ في صفوف الحركة
الوطنيّة، التي راح رجالاتها يحابون الحزب الاشتراكيّ الفرنسيّ بإعلان
مناهضتهم للنظام الجديد، مقابل مجموعة من المطالب من أهمّها ضمان استقلال
المنطقة الخليفيّة.
ترصد الباحثة نماذج من المحاكمات التي تعرّضت لها الصحافة المغربيّة
تحت ذريعة المساس بالنظام، حيث كانت المحاكمة الأولى في قضيّة محمّد هاشم
الوجدي 1959م، الذي كان عضواً في «لجنة اليقظة لإنقاذ العمّال»، عندما
اتُّهِم بالإخلال بالنظام العام وتهديده، والمساس بجلالة الملك، بعد إرساله
برقية إلى الملك محمّد الخامس بخصوص قمع الحرّيّات واضطهاد العمّال،
القوانين المسنونة، التعديلات المقترحة للإدخال على تلك القوانين، ما أنجز
منها، وما لم تعذّر إنجازه، حتّى تلك المنجزة لم تبلغ المستوى المنشود من
التطبيق، حيث كان هناك دوماً من يضعون العصي في الدواليب، لتأخير التقدّم
المأمول..
تؤكّد الباحثة في خاتمة كتابها أنّ سعي المغرب إلى الانضمام إلى ركاب
التوجّه الدوليّ السائر نحو ترسيخ العديد من البنيات الحداثيّة ذات الصبغة
الحقوقيّة، كمحاولة لتجاوز الماضي المميّز بانتهاكاته الخطيرة لحقوق
الإنسان. لكنّه سعي ظلّ سطحيّاً بمجمله، نظراً لوجود تناقضات جوهريّة بين
الواقع السياسيّ بكلّ تمفصلاته، انطلاقاً السلطة الحاكمة مروراً بالتشكّلات
السياسيّة، سواء منها الحزبيّة أو غير الحزبيّة، وصولاً إلى الوعاء
الفكريّ المجتمعيّ العام، ومجمل الاختيارات الحداثيّة المتبنّاة. كما تؤكّد
الباحثة أنّه يمكننا معاينة تلك التناقضات عن كثب، من واقع الممارسة
الحقوقيّة في المغرب، التي لم تتجاوز القشور، مهملة بذلك أساس الفكر
الحقوقيّ وجوهر الانتقال الديمقراطيّ.
تفصّل الباحثة في الحديث عن التعديلات المقترحة رسميّاً وحدودها
الممكنة، كما تذكر التأرجح والانسيابيّة عند نقل مضمون مادّة قانونيّة إلى
أخرى، حيث تكون التغييرات شكليّة، «غير أنّ ما يثير الانتباه هو انتقال
مقتضيات الفصل 77 من قانون 1958 «معدَّل» إلى الفصل 41 من قانون 2002،
والذي ينصّ على «يُعاقَب بالحبس لمدّة تتراوح بين ثلاث وخمس سنوات وبغرامة
يتراوح قدرها بين عشرة آلاف ومئة ألف درهم كلّ مَن أخلّ بالاحترام الواجب
للملك وأصحاب السموّ الملكيّ الأمراء والأميرات بإحدى الوسائل المنصوص
عليها في الفصل 38. وتطبَّق نفس العقوبة إذا كان نشر إحدى الجرائد أو
النشرات قد مسّت الدين الإسلاميّ أو المؤسّسة الملكيّة أو الوحدة
الترابيّة». ص81.
على الرغم من أنّ الباحثة لا تدّعي شموليّة بحثها، لكنّ بحثها يُعَدّ
مرجعاً في تاريخ الصحافة المغربيّة، التي يعكس واقعها واقع الصحافة
العربيّة هنا وهناك، التي تميّعت الرسميّة منها بحكم ارتهانها للسلطات
والأنظمة التي حرصت على تقزيمها، وعملت جاهدة على إفراغ الصحافة المعارضة
من مضمونها، بعد تمييعها وترويضها وتدجينها لتلك المعارضات التي تنقلب إلى
النقيض ممّا كانت تنادي به..
يوماً بيوم تتّسع الهوّة بين الحرّيّات والأنظمة، يكون التناسب
عكسيّاً بينهما، ولا يكتفي التقديس بالله أو الملك أو الزعيم، بل تخلق
البطانات المحيطة بهم هالات قداسة حولها، يشمل المنع كلّ حديث مفترَض حول
سلوكيّاتها التي «تصبح» فوق الشبهات والنقد، رغم أنّها تَغرق وتُغرِق في
الفساد والإفساد.. ومع المستجدّات والمتغيّرات استجدّت أمور أملتها المرحلة
الجديدة وراقت للأنظمة المتحكّمة، تقول الباحثة في ذلك: «وقد تحرّكت
مقتضيات قانون الصحافة بالمؤازرة مع قانون الإرهاب، والقانون الجنائيّ،
ليحيطوا العمل الصحفيّ، بسياج شائك كفيل بالحدّ من كلّ محاولة للأقلام
الحرّة للانطلاق والتعبير عن الذات بحرّيّة. ص112.
التذكير بالتاريخ الصحافيّ الموغل في التجاوزات التي لا تمتّ إلى روح
وقداسة الصحافة بصلة، يؤرّخ للجرائم والهزائم التي وقعت في فخاخها أو نصبت
لها الشِراك التي أوقعتها في مستنقعات الابتذال والتسطيح، لكنّه لا يخلو
من بوارق أمل، وإرادات حقيقيّة مجاهدة لتسييد الحقّ والقانون والعدالة،
وكلّ القيم النبيلة التي تنادي بها الأنظمة ولا تلتزم بها، ولا ينادي بها
الشرفاء على الرغم من تمتّعهم والتزامهم بها..