قه وأفق واجتهاد -(أرشيفية)فاطمة حاتمميزة هذه الدراسة التي نشرها الباحث التونسي الساسي بن محمد الضيفاوي ونشرت في موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث تحت عنوان "الاجتهاد المالكي بين سلطة النقل وحدود العقل"، أنها جاءت في لحظة تاريخية حاسمة جداً وجب أن نوليها اهتمامنا، ونتحمل من خلالها مسؤوليتنا التاريخية والحضارية والسياسية إزاء أنفسنا وتجاه شعوبنا وحضارتنا وتراثنا وواقعنا، خاصة أننا اليوم نكاد نسير في اتجاهين: اتجاه تقليدي، والآخر مقلد مستورد، وكلا الاتجاهين في مأزق، لأن كل واحد منهما يتنازعه عالم ومرجعية وأيديولوجية وصورة نمطية يريد أن يحتذي بهاً.
أما الاتجاه الثاني، فهو مشدود إلى عالم الحاضر وما يحف به من تحولات وتحديات وثورات ومفاجآت وتناقضات تفرض علينا أن ننحت مصيرنا ونقهر قوى التسلط والطغيان، ولا يمكن أن يكون ذلك كذلك إلا إذا كان إمامنا النقل والعقل معاً، خاصة في ظل تنامي الحركات الإسلامية وتناسلها، من دعوية وسياسية وتكفيرية وإصلاحية معتدلة، وتكفيرية جهادية، وجهادية علمية، من سنة وشيعة ونحوها من الفرق والأحزاب.
جميع تلك الاعتبارات الحضارية، والسياقات السياسية، والمرجعيات الدينية، وما يكتنف لحظتنا التاريخية من تحديات، يقف وراء صدور هذه الدراسة التي تهتم بعلم من أعلام الحضارة العربية والإسلامية هو الإمام مالك بن أنس ، وعلاقته بعلم الكلام في ضوء جدلية النقل والعقل من خلال مدونته وآرائه و مقارباته الاجتهادية في سياق مذهبه.
ويفتتح الباحث الدراسة بالتوقف عند سؤالين: أولا: هل آمن مالك بن أنس بمنزلة العقل في مختلف الحقول العلمية والدينية؟ وماهي دواعي هذا الاعتراف إذا سلمنا بذلك جدلاً؟ ثانيا: ماهي مختلف التجليات النظرية والعملية والاجتهادية من خلال مواقف مالك وكتاباته التي تُحيل إلى أنه فعلاً استخدم العقل ووظفه في مدونته؟
ومن أهم محاور الدراسة، المحور المخصص لإرهاصات المنزع العقلي عند مالك، حيث يرى الباحث أن المنعرجات الحضارية والسياقات البيئية التي واكبها مالك بن أنس تُعد مرحلة تاريخية مهمة، انخرطت في تشكيل ثقافته الاجتهادية واستخدام العقل وتركيز ما يعبر عنه بفقه الرأي، وهي حقبة سياسية عرفت العديد من التطورات والاضطرابات في العالم العربي والإسلامي، مثلما شهدت الكثير من القلاقل السياسية والتطاحن المذهبي، فظهرت في عصره الفرق السياسية على نحو الشيعة والخوارج، والفرق الدينية والمذهبية على غرار القدرية والجهمية والمرجئة، ورأى مالك خروج الخوارج وتمرد العلويين.
ويبدو أن إدراك هذه الأحداث السياسية، والاضطرابات المذهبية، في ظل العصر الأموي والعصر العباسي من قبل مالك بن أنس يُعد لحظة تاريخية ثرية في حياته، يضيف الباحث، لما لهما من أثر في فكره وفقهه واجتهاداته ومنهجه، وإن كان ذلك لا يخلو من نزعة تقربه من الأمويين إلى حد التعاطف معهم، فإن هذا لا ينفي أنه يتعارض مع العباسيين نظراً إلى خطهم السياسي وأطروحاتهم الدينية ومواقفهم المذهبية، بل إن الرجل قد تعرض في عهدهم إلى محنة كادت تودي بحياته في حكم أبي جعفر المنصور (ت 158 هـ).
نشأة مالك في الوسط المدني الذي تميز بكثرة العلماء، وتعدد المناظرات واتصاله المستمر بالعلماء في موسم الحج، واطلاعه على الفقه العراقي الذي هو وليد مدرسة الرأي، كانت من الأسباب المباشرة في تشكيل ثقافة مالك العقلية ومواقفه الاجتهادية ومقارباته العلمية
على صعيد آخر، يرى الباحث أن الاهتمام باللحظة التاريخية، والبيئة الاجتماعية، والسياقات السياسية والفكرية التي نشأ في إطارها الإمام مالك يُعد من أبرز الإرهاصات التي انخرطت في تحفيزه على تبني فقه الرأي، فأخذ من هذه البيئة وجهتها، وقوت الأحداث في نفسه النزوع إليها، وتأيد لديه بالدليل سلامة نظرتها، واستقامة جادتها، فالتزمها إلى النهاية، وقد تبدى ذلك واضحاً من خلال سيرته الفقهية ومسيرته العلمية، فقد أخذ قراءة القرآن عن نافع بن أبي نعيم (ت 169 هـ) وأخذ العلم عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن فروخ (ت 136 هـ) شخصية كان لها تأثير بارز في حياة مالك، تلقى عنه فقه الرأي، واستفاد منه في القضايا العقلية والذهنية، وهو أحد العلماء الذين تلقوا العلم عن الفقهاء السبعة، مما يدل على أنه أخذ من الزاد الفقهي من مصادر مختلفة لا لحفظه فحسب، بل أخذه ليحفظ ويبين ويتصرف ويجتهد ويقايس الأمور بأشباهها ويبدي رأيه.
من جميع ما تقدم في الدراسة، نفهم أن نشأة مالك في الوسط المدني الذي تميز بكثرة العلماء، وتعدد المناظرات واتصاله المستمر بالعلماء في موسم الحج، واطلاعه على الفقه العراقي الذي هو وليد مدرسة الرأي، كانت من الأسباب المباشرة في تشكيل ثقافة مالك العقلية ومواقفه الاجتهادية ومقارباته العلمية.
كما استخلص مالك من خلال النص المؤسس، أن الإنسان مطالب بأن يتزود بالعقل حتى يدرك ما في هذا الوجود من خير أو شر، وما فيه من قيم ومبادئ، وما فيه من واجبات وحقوق، وبفضل هذه الأداة حاول الإنسان أن يعرف هذا العالم الواسع في آفاقه ومجالاته فيقف من خلال ذلك على آثاره وأسراره الكونية، كل هذا يؤكد أن النص القرآني ألح على استخدام العقل وتحريم إتلافه أو تغييبه بأي سبب من الأسباب، بل ندد بتعطيله وتعطيل دوره ووظائفه، ودعا إلى التحريك الدائم للطاقة العقلية تأملاً واستقراء واستنتاجاً.
ويخلص الباحث إلى أن الاجتهاد المالكي يبقى ينوس بين سلطة النقل وحدود العقل، وهو اجتهاد في حاجة أكيدة إلى المدارسة والمراجعة والتجديد، نظراً إلى تبدل المصالح وتلونها وفقاً للحظة التاريخية والحضارية التي يعيشها الإنسان، ويضيف الباحث في أهم خلاصات الدراسة أنه لا يتسنى تقديم أية مبادرة نقدية، إلا إذا التزمنا بمقاربة واضحة المعالم تراجع المؤسسة التعليمية من رياض الأطفال إلى البحث الجامعي والأكاديمي والدرس الحضاري، من حيث مضامين البرامج، ومناهج التدريس، وطرائق التعلم والتعليم، ومراجعة الزمن المدرسي، وتنقية التراث العربي والإسلامي من الحواف والإضافات التي ليست منه، وكل ما يمكن أن يجود هذه الحقول متناً ومنهجاً، لعلنا نستطيع أن نحقق ملكة النقد، ونخرج من طور المنافحة والتمجيد، ونفهم أن التاريخ تعلم وليس تألماً، لعلنا بذلك نعيد اعتبار ألق الفكر وقيمة العمل، ومنزلة الإنسان، وضرورة التسلح بالعلم، وأهمية اللحظة التاريخية في حياتنا.
لقراءة الدراسة كاملة على الموقع الإلكتروني لـ "مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث"، انقر هنا: