حصلت ثلاث موجات ديموقراطية كبرى في الربع الأخير من القرن العشرين، تميزت بكون كل واحدة منها كانت محصورة ومحددة في نطاق اقليمي محدد،وبأنها كانت تحصل في سياق زمني متصل وقصير المدى:أولها في جنوب القارة الأوروبية،انتهى من خلالها الحكم الديكتاتوري،سواء منه الفردي،أوالذي يتم عبر طغمة عسكرية:(برتغال نيسانإبريل1974،ويونان تموزيوليو1974، ثم اسبانيا عبر انتخابات برلمان حزيرانيونيو1977التي شاركت فيها كل الأحزاب وذلك إثر فترة انتقالية نحو الديموقراطية أعقبت وفاة الجنرال فرانكو في 20تشرين ثانينوفمبر1975). كانت الموجة الثانية في أميركا الجنوبية:(بيرو1980،بوليفيا1982،أرجنتين1983،برازيل1985،تشيلي1990،باراغواي1993).فيماحصلت الثالثة في أوروبا الشرقية والوسطى عندما سقطت الأحزاب الحاكمة خلال مدى زمني لم يتجاوز ستة أشهر من عام1989بين حزيرانيونيو وكانون أول ديسمبر في البلدان التالية على التوالي:(بولندا،ألمانية الشرقية،هنغاريا،بلغارية،تشيكوسلوفاكية،رومانية).
لاتوجد آلية سقوط واحدة في تلك الإنتقالات نحو الديموقراطية من الأنظمة الديكتاتورية،سواء كانت فردية،أوطغمة عسكرية،أولحزب حاكم سواء كان واحداً(رومانية)أوكان يحكم مع إطار ديكوري ل"جبهات"،تضم الأحزاب الحاكمة مع أحزاب أخرى،كمافي بلدان (الكتلة الشرقية) الأخرى المذكورة آنفاً:أولاً كان نشوء تلك الأنظمة مرتبطاً بظروف الحرب الباردة(1947-1989)بين العملاقين الأميركي والسوفياتي،وحتى من كان سابقاً في النشوء،مثل ديكاتورية سالازار في البرتغال(منذ1928)أوفرانكو(1939)،فقد ساهمت ظروف الصراع مع موسكو في دفع واشنطن لوضع هذين الديكتاتورين تحت جناحيها،رغم تعاونهما وقربهما من نظامي هتلر وموسوليني.طبعاً،هذا لايعني أن الديكتاتورية لم يكن للعوامل الداخلية دور في نشوئها،مثل فشل واستعصاءات الحكم المدني في برازيل1945-1964،ولكن ماكان للطغمة العسكرية في برازيليا أن تصعد للسلطة وتستمر لعقدين من الزمن لولاالغطاء الأميركي ،الذي ظلَل بحمايته ورعايته العديد من الأنظمة العسكرية في أميركا الجنوبية في ظروف المد اليساري بتلك القارة الذي استمر،لعقد ونصف،إثر وصول كاسترو للسلطة في هافانا بيوم رأس سنة1959.
على نفس المنوال،كان الإنتقال الديموقراطي محكوماً بعوامل متعددة،ولم يكن على نسق أوآلية واحدة ومتشابهة:في البرتغال قام الجيش بانقلاب25نيسان 1974ضد ديكتاتورية أصبح تمثيلها الاجتماعي متآكلاً وضعيفاً ليفتح الباب أمام تطور سياسي حزبي،مالت فيه الكفة لصالح الشيوعيين،والقوى اليسارية،حتى النصف الثاني من عام1975،وقد أظهرت واشنطن الكثير من القلق أمام تطورات المسار الديموقراطي البرتغالي،قبل أن يستقر عند تركيبة حاكمة "مرضية"لواشنطن تراوحت بين (الديموقراطيين الاشتراكيين)و (الديموقراطيين المسيحيين).في اليونان كان سقوط الحكم العسكري ناتجاً عن آلية اجتماعية قوية مضادة أعقبت فشل انقلاب15تموز1974المدعوم من أثينا ضد الإسقف مكاريوس في قبرص،فيمالم تستطع تحركات شهر تشرين ثانينوفمبر1973الجماهيرية في العاصمة اليونانية أن تسقط العسكر،وإن هزَت نظامهم . في اسبانيا كان موت الديكتاتور بمثابة انهيار السد الأخير أمام مجرى الإنتقال الديموقراطي،ولم تكن التوازنات الاجتماعية – السياسية تسمح لماتبقى من قوى النظام القديم بالإستمرار على طراز ماكان عليه فرانكو.
في تلك البلدان الأوروبية الجنوبية،كانت قوة الدفع نحو الإنتقال الديموقراطي ذات طابع محلي،ولم يكن للعامل الخارجي دور مقرِر : في بلدان أميركا الجنوبية،بالثمانينيات،كان الاختلاط بين المحلي والخارجي قوياً في اجتماعه نحو الدفع باتجاه الانتقال نحو الديموقراطية.انتهت موجة المد اليساري هناك منذ أواسط السبعينيات،وبدأ التوازن العالمي يميل لصالح واشنطن ضد السوفيات في أوائل عقد الثمانينيات.هنا،لم يعد الأميركان في موقع الخوف من ظاهرات مثل تشي غيفارا، أوسلفادور أليندي،وإنما بدأوا في الميل نحو ركوب الموجة الديموقراطية التي أصبحت ،بخلاف تشيلي أيلولسبتمبر1970،تفرز صناديق اقتراعها قوى فائزة ،من اليمين،أومن يسار أويمين الوسط. هذا حصل في برازيل1985،التي قاد الحكم العسكري ثورتها الاقتصادية في الصناعة والزراعة بالسبعينيات،على الرغم من أن ذلك النمو الاقتصادي قد ولدَ فوارق جهوية وطبقية في توزيع الثروة ليكون في تلك السنة واحداً من كل أربع برازيليين يعيش على أقل من دولار في اليوم،وأيضاً في أرجنتين 1983التي قادت مغامرة الحكم العسكري الفاشلة بالعام السابق في حرب الفوكلاند ضد لندن إلى تفجر حركة احتجاجية قوية أجبرت الجنرالات على التنحي أمام الحكم المدني الآتي عبر انتخابات تنافست فيها الأحزاب.أيضاً،في تشيلي ،كان من الواضح أن قوة الفئات الوسطى،والحركة العمالية،قد أصبحت الموازين الاجتماعية- السياسية تميل لصالحها بالنصف الثاني من الثمانينيات،وخاصة بعد انضمام الكنيسة الكاثوليكية للمعارضة فيماكانت مع العسكر في انقلاب1973 ضد أليندي.
بخلاف أميركا الجنوبية،كانت سقوط أنظمة (الكتلة الشرقية) خلال عام 1989محكوماً بعامل خارجي،تمثَل في انهيار التوازنات الدولية التي قامت عليها (الحرب الباردة)منذ أن كسرت(مبادرة الدفاع الاستراتيجية:"حرب النجوم") ،التي قدمها الرئيس الأميركي ريغان في آذار1983،توازن الرعب النووي القائم منذ وصول السوفيات للقنبلة الذرية في1949. هذا أدى إلى ترجمة في موسكو سميت ب(البيريسترويكا)منذ نيسانإبريل1985،وضح من خلالها دخول القوة السوفياتية في مرحلة الأفول،وهو ماقاد بالتالي إلى تلك الترجمة التي تمثلت في انهيار نظم أحزاب(الكتلة الشرقية) في 1989قبل أن يلحق بها الحزب الشيوعي السوفياتي في آب1991ومن ثم الاتحاد السوفياتي الذي تفكك خلال الأسبوع الأخير من ذلك العام. يمكن لهذا أن يتوَضح،إذا عرفنا أن حركتي هنغاريا1956وتشيكوسلوفاكيا 1968كانتا تملكان قوة دفع اجتماعية ذاتية،أكثر مماتوفر بهما أثناء عام1989،ومع هذا لم تفلتا من قبضة موسكو ،بحكم مفاعيل التوازن الدولي الذي كان مازال محكوماً ب(يالطا).
لم تحصل موجات ديموقراطية،خلال العقدين الأخيرين،على الصعيد العالمي:عربياً،ظنَ الكثيرون أن موجة انهيارات الأحزاب الحاكمة في (الكتلة الشرقية)ستصيب بريحها العالم العربي.على العكس من هذا،اتجهت السلطة المصرية في التسعينيات إلى تقليص(نموذج الديموقراطية المحدودة)التي رعاها نظام الرئيس مبارك عبر انتخابات1984و1987البرلمانيتين،وهو مافعله أيضاً منذ عام1991 نظام بن علي في تونس بعد فترة من الحريات المقيدة والانفتاح إثر وصوله للسلطة في7تشرين ثانينوفمبر1987،قبل أن يلحق بهما جنرالات انقلاب11كانون ثانييناير1992الجزائري الذي ألغى الجولة الثانية من انتخابات البرلمان التي كان واضحاً اتجاه(الجبهة الاسلامية للإنقاذ)نحو الفوز بأغلبية كبيرة من مقاعده. في هذه الأمثلة العربية الثلاث،رعت واشنطن(وباريس) تقييد الفضاء الديموقراطي،تحت ذريعة "مكافحة المد الأصولي الاسلامي"،وإن كان من الواضح أن التقاء هذه الأنظمة العربية الثلاث مع الإستراتجيات الغربية العامة هو الأساس في ذلك،حتى أتت مرحلة مابعد ضرب البرجين بنويورك لتظهرحدود رغبة واشنطن في ديموقراطية بالعالم العربي،ربما كان يحسب مفكروا وصناع القرار الأميركيون أن القوى المرشحة للفوز بصناديق اقتراعها ليست "ملائمة" لمصالح واشنطن، وإن كان هذا لم يمنع إدارة بوش الإبن من استخدام"تبشيريتها"بالديموقراطية كفزَاعة أوكوسيلة ضغط من أجل اجبار بعض الأنظمة العربية على الإنخراط أوعدم الممانعة أمام مافعله الأميركان في عراق2003.
خلال العقد الأول من القرن الجديد،كانت الأوضاع الديموقراطية بالعالم العربي متراجعة بالمقارنة مع فترة1985-1991في العديد من البلدان العربية،حيث أصبحت أغلب الأنظمة في حالة من الركون والاطمئنان إلى ثبات الوضع القائم في ظل دعم دولي ،وقوة أجهزة السلطة،وضعف المعارضة،وتطورات اقتصادية- اجتماعية على مدى عقود ماضية أفرزت طبقات وفئات اجتماعية ثرية جديدة، من البرجوازية الجديدة بماتضمه من صناعيين وتجار ورجال أعمال ،إلى فئات وسطى من المتعلمين والتكنوقراط والأكاديميين،رأت غالبيتها الكبرى مصالحها مع السلطات العربية القائمة.
مع بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين أظهرت تونس معطيات جديدة،كان أولها أن هناك خيطاً رفيعاً وقصيراً يفصل بين الضعف والقوة ،وبين القوة والضعف، في أوضاع المجتمعات التي تعيش بظل نظم غير ديموقراطية . ثانياً، دلَل المثال التونسي أن هناك بركاناً اجتماعياً ،يسخن ويغلي ببطء تحت السطح الظاهري للهدوء والاستقرار القائمين في ظل العديد من الأنظمة العربية. هذا يأتي من أسباب اقتصادية أساساً بحكم الخلل الكبير في توزع الثروة بين فئات وطبقات المجتمع الذي أدت إليه اللوحة الاقتصادية- الاجتماعية الجديدة إثر تطورات العقود الماضية في ظل الأنظمة التي أتت للسلطة في خمسينيات وستينيات القرن العشرين.ساهم خلل النمو وطبيعة البرجوازية الجديدة،ذات الطابع الخدماتي والوسيط والأعمالي،في عدم قدرتها على استيعاب القادمين الجدد إلى سوق العمالة،وهو مااستفحل منذ الأزمة المالية- الاقتصادية العالمية بدءاً من أيلولسبتمبر2008،التي ألقت بظلالها القوية على أكثر من بلد عربي.هنا اجتمع الاحتجاج الاقتصادي- الاجتماعي ليتوجه ضد سلطة سياسية كانت خيمتها هي المطبخ والإطار التي أتت من خلاله،أومن ظله، ثروات الأغنياء البرجوازيين الجدد.هذا أدى إلى أن يكون الانطلاق الاجتماعي من(الاقتصاد) ليس محصوراً أومحدداً بمطالب اقتصادية- اجتماعية محضة،وإنما لأن يصل إلى(النظام السياسي)،الذي كان الخيمة والقوة الدافعة للخريطة الاقتصادية- الاجتماعية خلال العقود الماضية.
في تونس حصلت هذه الآلية،التي بيَنت امكانية للتغيير الديموقراطي عبر قوة اجتماعية داخلية،بخلاف ماروَج الكثير من المعارضين العرب الذين راهنوا على"العامل الخارجي الأميركي للتغيير"في فترة2002-2007،بعد أن انطلقوا من مقولة أن "الديكتاتوريات قد قضت وجففت العوامل الداخلية للتغيير":ربما تعطي أحداث(مابعد25يناير2011)المصرية ،مع ارهاصات أظهرتها الجزائر وصنعاء، مجالاً يمكن أن يعطي المشروعية للتساؤل التالي:هل ستكون تونس نقطة البدء لموجة ديموقراطية عربية؟....