تلصص قلمي على نصوص
الشاعر الأردني المتميز محمود النجار في موقعه، فوقفت عند هذا النص الشعري
الذي أثار تساؤلات عدة فوق هضبة هذه الكتابة.
في لغة تستوطن
رَبْعَ المجاز، عَبَرَتْ إلينا قصيدة فوق سَفِينِ الغضب والموت؟، كيف لا
يكون الأمر كذلك، وقد رمى بنا الشاعر منذ وقوفنا على أعتابه الشعرية فوق
أرض يغمرها البكاء، حيث الحروف مسكونة بعوالم عفرها النواح، فهل هي أساطير
خاصة تبني هياكل من سعير داخل النص الشعري الممدد على حافة الجرح، أم هو
رذاذ صباح يلف ليلا أشعث ممزوج بالماء والدماء.؟
ولنبدأ من
البداية... ميتا ولدت كأنني..
موتي يدق علي روحي
كلما استيقظت من
عقلي قليلا
هو يعتريني كل وقت
بيد أن حضوره الصوفي
يحملني إلى يوم جديد
ألتقي فيه الحياة.
لنتأمل هذا الرصد
الدقيق للموت كلوحة مشنوقة في هيكل هذا النص الشعري، فنحن أمام قصيدة
موشاة بحكي غائر في المتخيل، ولنعلن بصوت عال تساؤلا يتراقص في حَنجرة
الكلام:
عن أي موت يتحدث
الشاعر؟؟،وكيف يولد جارًّا نعشه فوق سنين عمره، أهو وهم أرادنا أن نسقط في
مزالقه؟، أم يريد منا أن نتأهب ونحن نسافر في الأبعاد التي ترمي بنا فيها،
مستمعين لتاريخه المطري المكتوب فوق قبر اشتعالاته.
فلنضع شبكة صغيرة
لموضوعة الموت في هذه القصيدة:
تيمة الموت ـ الموت الموضوعي ـ الموت الذاتي على المستوى العربي الإخفاقات السياسية = الاستبداد الحرب الطغيان والظلم دجلة ،ومدينة الرشيد (العراق) كل المدن الشهيدة
|
إن تيمة الموت هذه
ـأو
عالم أورفيوسـ تمثل خيبة تعلقه فوق جسد المدينة النبوية،
متصوفا أمام الزمن الآتي. كالنبع معانقا عروق الحياة، فهل نستشف من هذا
الإيحاء مكر الشاعر الذي يحيلنا نحو تفاؤل جزئي، لنقول ما هذا إلا رفع
لستارة الإثارة لمعانقة موقف درامي، يحثنا على أن نتنفس من البياض رائحة
الوقت المنتشرة في نعش التذكر؟.
أم أن ذكر الموت
مرتبط بتداعيات طفولية، معتبرا إياه حنينا للانتصار على واقع يناضل فيه
أبناؤه بالحديد والنار؟.
أم تراه استسلام
ذاتي لليأس ، يحاول من خلاله الشاعر وصف رهبة بلا هوية، قد تكون إشارة
إلى انتشار الموت أفقيا ليشمل كل الأراضي المغتصبة وخاصة مدينة العراق؟.
فبين الولادة والصبا
يقطع بنا الشاعر رحلة تتصبب هوسا ميثولوجيا.ولنبحر معه في كل الزوايا،
معنا أشرعة تكتب فوق بقايانا بأبجدية ترتوي من حبر الغربة النفسية.
يقول:
أصبحت في عمر الصبا
ألفيت
موج البحر يتبعني
كسرب
من قطا فوق الرمال...
فخشيته،
واشتد نبض الفؤاد
خلت
الرمل يرصدني..
ويسعى
نحو أقدامي الصغيرة أن تخون القلب
أسقط
بين أسماء الذين تعثروا بالموج يوما..
لم
أزل أخشى من البحر الممكن بالشباك
وبالعواصف
والقدر
أخشى
العلاقة بين ماء البحر؛
يفرش
سحره فوق الرمال وبين غائلة القمر
أمتد..تمتد
المياه على مدى العينين
تمشي
تحت النوايا السود
ينهمل
المطر
وأضيق
ينحسر اللهاث
وتكتفي
بالموج ناصية السماء
فينحني
نصف انحناء
موجة
أخرى وأرجع
كنت
أرقب أن يدوخني احتراب الرمل والموج الذي
اقترف
الجماجم والعظام بخنقه
إن الشاعر العربي
محمود النجار يعرض وساوسه الذاتية لتشمل عالم الإنسان العربي، ليمنحنا نصا
تتلوى منعرجاته مَكْفُوفَةَ الحلم ، تكتب فوق دفتر النزيف شظايا تقرأ قسمات
الحاضر بأنامل مكسوة بالوهم. وتنفتح أكمام الخوف حين يتنقل بنا فوق شطآن
الوجع، مترصدا صورا مخيالية تتحرك في دوائر وحلقات يتناثر فيها الرمز
بكثافة.
وهذا رصد لبعض
ذبذبات الشاعر النفسية من خلال معجم يحتوي بعض التكرار، كإشراقات وفلتات
يمتزج فيها سواد الحبر بآفاقه الحزينة الحابلة بالتوتر، والذي يستقي
دلالاته من مرجعيات متعددة ومختلفة هو واقع العراق الذبيح، والمدن التي
تسقط شهيدة الطغيان، ولنسمه
معجم الخوف.
ميتا ـ موتي ـأموت
قد كنت جثمانا
خشيت ورد ثلاث مرات
في النص
أخشى مرتين
أضيق
ما أزال أخشى
أوجست
اشتد نبض الفؤاد
أشباح الظلام (...)
لكن الشاعر حاول أن
يستمد من قوته الداخلية دفقة من الشجاعة، فرغم أن النفس الملغمة بضباب روحي
تستوحي علتها من واقع مهزوم، فهو يحيلنا نحو لوحة تحاول إعدام التيه
والضياع بالتمسك بشِبَاك الشجاعة المحيطة بسفينة الحياة.راجيا الخلاص في
تشبثه بمنقذ قد يأتي وكأنه ينتظر
كودو.
لكن ما عبئت بلون
خوفي
في الأفق كان..
رأيت هاته الكبيرة
قلت ذاك
السندباد،
فإن سقطت
مد لي يده القوية.
كنت أحسبني سأغرق
عدت محمولا على وهمي
الصغير
ولم أزل حيا..
وأحذر أن أموت
ليبدأ نداء
الاستغاثة بأحد الرموز الأسطورية المتربعة فوق عرش ألف ليلة وليلة، وكأن
بيده الخلاص. إنها حيرة شاعر مشى في بحة السقوط المعنوي، و تسلق
شرفات النجاة الوهمية. في زمن ماتت فيه النخوة العربية، وأصبح الوطن منفى
كبيرا اختلطت ملامحه. لتستيقظ في قصيدته قبضة من كلام أصم تسافر به الرياح
ذات الجهات الأربع.
يا سندبادأتيتُ من أرض بعيدة
لم ينته التطواف بعد
فلم تزل سفن الرحيل
تجوب فوق الغيم
أرصفة المنافي
حيث لا عشب يغني
لا دم يغلي، ولا وجه
قبيح أو حسن(...)
وصار حرفي كالحصى
وقصيدتي صارت صعيدا من حجارة.
يستمر الشاعر في
الركض وراء النداء، ليعلن أن قسوة المد والجزر التي طاردته غريرا قد
انكسرت. ربما لأن قلبه قد تعود على انتشار رائحة الموت !!
يا سندباد البحرما عدت الفتى الذي
يرجو النجاة إذا أفاق الموج يوما عابسا
قسمت روحي بين هذا
البحر والنهر المخيط بالدماء
في دجلة المجروح
في دمع الرشيد تركت
روحا طفلة
تسمو هناك مع اللذين
أتت قيامتهم
إذن؛ في هذا الطقس
الإبداعي المغلف بالسخط، يطلق الشاعر صيحة عذاباته،وهو يفتح أمامنا جزرا
ومحطات تترصد تاريخا ينسجه الظلام.وهذه القصيدة متمنطقة بأحزمة ناسفة، سلمت
رايتها للحرف الحارق منذ البداية، ونظنها أرادت الانتحار في وجدان كل
عربي، مترصدة وطنا ممسوخ الهوية بواسطة المغتصبين.
رؤية: إن الشاعر الكبير
محمود النجار.. بَحَّارٌ في الدجنة التي تعيشها الأمة العربية، يحلم
بالنوارس المقيمة فوق عتبات الحرية، وهو يجر قدميه المنهكتين فوق رمال
السُّعار، أمامه وجه الشرق مسكونا بالأسرار المبثوثة في بئر الاستغراب، بين
الأقدام والرؤوس المتناثرة مثل الأشباح قرب صخور الليل.حيث تَنْشَقُّ شفتا
الوطن عن دماء تلوث بياض الحلم.
وما البحر سوى
المجهول الذي وقف بكل عمق أمام مرآته، مترقبا أحداثه التي جعلته مسجونا في
توابيته،مُشَرِّحًا بلدا كان النفط سبب بلائه، لكن ما العمل؟ غير الصلاة
على الشهداء. إنه الخلاص الروحي من هذا الثقل السيزيفي الذي جثم على روحه
الشفيفة.
إذ لا خلاص من كل
هذا الحزن بغير الدعاء لمن رحلوا وتَذَكُّرِ أمجادهم.
يا سندبادإذا احتوتك الأرض في
بغداد والمدن الشهيدة
فاذهب إلى أرواح من
ماتوا
ورتل فوقهم آي
الكتاب
وقل لهم شعرا عن
التاريخ المجيد
قل للذين تبددت
أحلامهم:
طفل تمرعليه أحلام
الصغار
رأى الفرات وكل
أبناء العراق توضؤوا
صلوا..وجاء من
السماء مؤذن في السماء:
"حي على الشهادة"
وغدا يخط البحر
خاتمة الضياع
وآخر الأمواج تلفظ
آخر النفط الذي قتل المحار.
رجفة نهائيةلقد مر هذا النص
الشعري بين ثنائية الموت والخوف، قادما من براكين وزلازل الواقع التي جرفت
أحلام أمة بكاملها، فكان الشاعر محمود النجار فارسا بحق، إذ غزا مجازات
الروح ممسكا بخنجر الاستعارات، مستريحا على حافة نهر اللفظ السهل الممتنع،
ورمى بنا في سحر الصور الغنية بشعرية آسرة، والتي مرت كشريط سينمائي غائر
في الآليات البلاغية الثرة، والتي تجاوزت التمثل البسيط للواقع المعاش.
لقد حاولنا بإيجاز
الإبحار في ظلمات هذا النص المرهق، والذي عجزنا على الإحاطة ولو بالبعض من
نهاراته، إذ يبقى مفتوحا على مرافئ تزحف فيها الغياهب والانكسارات. فهل
سيحمل الغد أبوابا مسحورة تكسر الأصفاد، وتزرع ابتسامة الأطفال ربيعا ؟،
نتمنى أن يكون الأمر كذلك...