القلم في قفص الاتهام
أحمد الجنديل
أن نتوكل على الله ، ونشحذ الهمم ونحثّ الخطى ونعقد العزم ، وعلينا بالبسملة والحمدلة والعوذلة والحوقلة ، ثمّ نتحدث عن عراقنا ، نكتب عن جراحنا ، ندوّن كوارثنا ، نطلق النار على أنفسنا تارة وعلى مستقبل أطفالنا تارة أخرى ، فالكتابة عن العراق – الجرح – الفجيعة – الهزيمة ، يشبه إلى حدّ كبير السير في حقل ألغام مجهول ، لا تعلم في أية لحظة تصطدم بلغم ، فتذهب إلى بارئك تشكوه ظلم عباده وفسادهم .
أنتَ محاصرٌ من الخارج بمَنْ يريد أن تكتب على هواه ومزاجه ، ومحاصرٌ من الداخل بالنزيف الحاد من جرح العراق ، ومهما اجتهدت في التوفيق بين هذا وذاك ، فستخرج حروفك مصبوغة بدم العراق .
وأنتَ مسكون بالخوف عندما يواجهك عنوان كبير ، أطلقته أقوى دولة في العالم ، وقد كتب بوضوح ، ووزّع على أرجاء الكون كوثيقة لابدّ من التعامل بها ، وهذه الوثيقة الآمرة الناهية تقول : ( مَنْ لم يكنْ معنا فهو ضدّنا ) ، والعبد ينحني أمامها بدافع عبوديته ، والحرّ رغم وصول الإشارة إليه يشعر بالقرف والخجل منها ، عندما يدرك أنّ هذا الشعار المتخلف هو خلاصة حضارة القرن الواحد والعشرين عند الأمريكان . وعندما تعلن عن ولائك المطلق للعراق دون غيره ، فأنتَ متهمٌ بجريمة ( الوطنية ) وهي من الجرائم الخطيرة ، والتي لابدّ من معاقبة صاحبها بأقسى العقوبات لغرض إذلاله وإلحاق الهزيمة به .
أنتَ متهمٌ لا محال ، عندما تقول أنّ الديمقراطية التي يتحدث عنها الجميع محض خيال ، تسمع بها ولا تراها ، وأنّ العراق بلد الحضارات تناهبته أطراف وجدت الأبواب مفتوحة لها فدخلوها آمنين ، دون أن تكون لهم القدرة على إدارة عواطفهم ونواياهم ، وأنّ أزمة الوطن التي أفرزت جراحا وسيولا من دماء ، تتلخص في اعتقاد كلّ طرف بأنه صاحب الحق الإلهي المطلق ، ولا أحد من هذه الأطراف يملك القدرة من الاقتراب لهذا الحق .
أنتَ متهمٌ لا محال ، لأنّ الأطراف المتصارعة توحدّت جميعا على رفع شعار ( أن نكون أو لا نكون ) وهذه مقولة قد تصلح في مجال الفلسفة ، لكنها أبعد ما تكون عن عالم السياسة .
وأنتَ تشعرُ بالمرارة عندما تسمع عن احترام الرأي والرأي الآخر ، وعندما تصفق وتدعو له بالموفقية ، تجد الاحترام يقوم على أساس رمي الرصاص والرصاص الآخر . وعليك أن تكتب ، أن تكذب ، أن تزيد النار اشتعالا ، أن تمنح الجرح عمقا ، لأن تدفع بوطنك إلى الهاوية .. عند ذاك سيدخلونك في عداد المثقفين الذين لا يشقّ لهم غبار .
أنتَ متهمٌ ، ومن أجل رفع الاتهام عنك وعن قلمك ، فلابدّ من تعطيل قواك العقلية واغتيال عروق الفهم النابضة في رأسك ، والالتحاق بحظيرة الخنازير التي تسرح في المزابل الخلفية لقصر السلطان أو الكاهن ، وأن تشطب من قاموسك مفردة ( لا ) لأنّ هذه الكلمة لا تنسجم مع أخلاق المخصيين من الذين باعوا رجولتهم على مذبح الدولار الرجيم .
أنتَ متهم ، ولكي تكون بريئا من هذه الجنحة المخلّة بالشرف ، عليك أن تمنح شرفك ورجولتك ووطنيتك هدية متواضعة إلى أميرة الشر وسيدة الظلم جلالة الملكة أمريكا مشفوعة برجاء ذليل على قبولك كلبا ذليلا في صفوف زمر الخونة والعملاء التابعين لها ، ولا تنس كتابة البسملة في أعلى ورقة الالتماس مكتوبة بالخط الكوفي .
أنتَ متهمٌ وقلمك الشاهد الوحيد على اتهامك ، وكلماتك قادرة على سحبك إلى جوف الزنزانات وغرف التعذيب المزيّنة بمبتكرات الحضارة الحديثة ، من سياط التعذيب ، إلى الخوازيق بمختلف أشكالها ، إلى الكراسي الكهربائية بعد فشل عقوبة الفقر والعوز التي مارسوها مع أقلام الرفض والثبات .
ولأنني أحببتُ فقري وعوزي فقد دفعني فخري بهذا الحب أن أجعل من قلمي مدفعا ، ومن كلمتي قنبلة ، وسأغرس أصابعي في عيون كلّ المنافقين والجبناء من سماسرة مواقف الخزي والعار والإذعان .
الخميس نوفمبر 12, 2009 9:26 am من طرف لعليليس