يهدف هذا النص أساسا إلى
التساؤل عن الخطاب القائل بضرورة ولاء الأقلّيات للديمقراطية باعتبارها
ضمانة لحقوق الأقلّيات. هذا الخطاب يبدو لنا اعتباطيا رغم استعماله المفرط
في الأدبيات السياسية العربية، وعند النخب من أبناء الأقلّيات.
هذا السؤال في رأينا، مركّب وغامض، ولتفكيك بعده المعرفي، لا بد من
تقسيمه إلى سؤالين مترادفين: أوّلا : ليس من العدل والمعرفة الحقّ، طرح
سؤال الولاء، بمطلقيته وتجرده. يعني ثمة ما هو مبطن في طرح تساؤل الولاء
للديمقراطية، بطرح الكلمة الأخيرة مجردة. يعني أن الأصح هو : هل ثمّة ولاء
من قبل أبناء الأقليات، للشكل المطروح من الديمقراطية في ديارنا، على الأقل
نحن الذين نحيى في بلدان المشرق العربي. أي الديمقراطية المعرّفة بأرقام
صناديق الاقتراع فحسب، والمعفاة من العلمنة التربوية والقضائية والدستورية.
أو الديمقراطية المؤسسة على روح استنهاض براكين الغرائز والهويات،
والمغسولة من تراكم العقلانية والأعراف الدستورية ومن الأيمان العميق
بالتساوي في المواطنة؟ أي باختصار؛ هل لأبناء الأقليات ولاء لديمقراطيتنا،
التي تعني تحويل الأغلبية الجماعاتية الشاقولية في مجتمعنا إلى أغلبية
سلطوية وتسلطية، أي تحويل الاستبداد السياسي الأقلوي إلى استبداد جماعاتي
أكثروي، وهي كذلك، على الأقل من منظور الأقليات.
ثانيا : هل مصطلح أبناء الأقليات، محدّد وواضح المعالم، حيث أن طرحه في
الفكر السياسي العربي المعاصر، يطرح متجاوزا هذا التساؤل. يعني مثلا، هل
الأقليات هي تلك الأقليات الهوياتية العددية، وذلك سيحول سنة العراق أيام
صدام حسين مثلا، إلى أقلية عراقية – تصور أقلية بكل تلك الامتيازات ؟ أم
الأقليات هي تلك الجماعات التي لا تحصل على نصيبها من كل السلطات – يعرف
الفيلسوف غوشيه الديمقراطية بأنها التوزيع العادل لقوة الدولة –، والتعريف
الأخير سيحوّل شيعة العراق وسنّة سورية إلى أقليات مثلا! ؟ . بالمقابل ثمة
سؤال آخر: هل نعتُ الأقليات ذو معطى قبلي، أي كامن في جوهر الجماعات التي
تحمل صفتها الأقلوية، أم ثمّة تشكّل لوعي مكتسب يحوّل الجماعات إلى الوعي
الأقلوي، أي أنّ روح الإحساس الأقلوي مكتسب بفعل الحياة السياسية ونمط سلوك
الدولة وتطورها، أي أن نعت الأقلية مكتسب بفعل عوامل حركة التاريخ، وليس
بصمة جينية مطلقة .
فك ذلك السؤال إلى فرعيه، يعود إلى الرغبة في فكّ ثلاث مغالطات فكرية،
نراها بالرغم من مغالطاتها بديهياتٍ في الوعي السياسي العربي المعاصر ،
فيما يخص الأقليات وشأنها السياسي:
المغالطة الأولى: ثمة شبه تسليم بأنّ الأقليات – أيا كانت – هي احتياط
مباشر ودائم في التدافع نحو الديمقراطية، وهو وهم ليس إلا. لأنه ينطلق من
الإحساس بأنّ ولاءها المطلق للعلمانية – التي هي أساس الديمقراطية -
سيفترض مباشرة ولاءها للديمقراطية، والتي ربما لا تكون دوما ضمانا
للعلمانية، وبالذات في الشروط الخاصة لتكون العملية الديمقراطية في بلدان
كبلداننا. فإن كانت العلمانية عتبة هامّة للديمقراطية في التجارب الحديثة،
فإنّ العكس ليس صحيحا بالضرورة، وهو شيء مفرط في الحساسية في وعي الأقليات،
ولا تأخذه مداركنا الفكرية بالاعتبار . أما الأساس الآخر لذلك الوهم، فهو
الإحساس، بأنّ الأقليات تعيش حالة مقارنة دائمة، بين وضعها كأقلية في ظل
نظام استبدادي، ومواطنة كاملة وإيجابية في ظل نظام ديمقراطي مثالي مفترض،
لذا يجب أن تختار الأخير دوما، وأن تكون ذات ولاء دائم له، وهو أساس
التوهّم. فالمقارنة الذهنية الحقّ والدائمة في وعي أبناء الأقليات، هي تلك
التي تتمّ بين كلّ الامتيازات التي تحصلها الأقليات في ظلّ النظام
الاستبدادي، من استقرار أمنيّ وامتيازات اقتصادية غير دستورية وتمايزات عن
طبقات أقل مرتبة في حالتها المدنية، من المواطنين، وبين حالة غير مثالية من
الديمقراطية، أي الديمقراطية بكل مساوئها. ولنأخذ عن ذلك نموذج مسيحي
سورية، حيث أنهم يفضلون شكل النظام السياسي الراهن، بكل سلبياته السياسية،
وطبعا بكل ما يحصلون عليه من امتيازات، على أيّ تغيّر غير مضمون العواقب،
وهم – أي مسيحيو سوريا الراهنة – كانوا الأكثر ضررا خلال القرن الماضي من
أي تحوّل حادّ في شكل العلاقات السياسية في المنطقة. منذ مجازر الأرمن مع
انهيار الإمبراطورية العثمانية، والتحول نحو الدولة القومية في المنطقة.
إلى مجازر الموصل في عهد بكر صدقي في العراق إلى الحرب اللبنانية، إلى هجرة
مئات الآلاف منهم عقب التحولات الاشتراكية في المنطقة… الخ حيث كانوا دوما
قرابين أيّ تحوّل سياسي، لذا باتوا يفضلون الاستقرار على أيّ تحوّل كان،
حتى لو كان نحو الديمقراطية المأمولة .
المغالطة الثانية : النظر بنمذجة بالغة إلى الثقافة والوعي السياسية
لأبناء الأقليات، وهي نمذجة فكرية في الوعي التاريخي أولا، أي ترى وتعرف
أبناء الأقليات، على ذلك الشكل، على طول حياتها كجماعة، ولا تفرق ولا تعي
تفاوت وعيها الأقلوي، بين حين تاريخي وآخر، وهو الشيء الذي يمكن رده إلى ما
يسمى باللاوعي التاريخي بحال الأقليات وطريقة تشكلها. فأكراد سورية، الذين
يشكلون الآن أقلية اثنية بالغة التشنّج، لم يكونوا كذلك قبل ربع قرن، حيث
كانت القواسم المشتركة بينهم وبين النظام السياسي الحاكم، أكثر من النوافر،
بسبب علاقة النظام السوري مع القوى الكردية في العراق وتركيا. وطبعا قبل
نصف قرن، لم يكونوا أقلية إلى حدّ بعيد، بسبب عمق مشاركتهم في الحياة
السياسية الديمقراطية، في خمسينات القرن المنصرم. أضف إلى ذلك أنهم قبل
ثلاثة أرباع قرن، لم يكونوا يكنّون شعور الأقلية بالمطلق، بسبب عمق الرابطة
الدينية وقتئذ، وبسبب رصد كلّ طاقات الوعي السياسي لديهم لمواجهة الغريب
الفرنسي المحتلّ، ولا بأس هنا أن نذكر أنّ الثائر السوري الكردي إبراهيم
هنانو كان يخاطب جماهيره، الذين كانوا ربما بأغلبيتهم من الأكراد بـ :
"أيها العرب" !؟. أما بعد النمذجة، فإنّ الآخر هو بالنظر لأبناء الأقليات
ككتلة صمّاء، وعدم ملاحظة الفروق الطبيعية بين أبناء تلك الكتل. يعني صحيح
أن أكراد سورية مثلا، كلهم كذلك، لكن ضمنهم ثمّة الغنيّ والفقير، والمحافظ
والمدني، واليساري والقومي والمتدين والليبرالي، وثمّة المتعلم والأمّي ..
الخ. أي لا يمكن الحكم على بعد واحد من أبعاد وعيهم للعالم، كما تذهب إليه
النمذجة الفكرية السياسية الراهنة لحالة الأقليات. وهنا يمكننا تسجيل نقطة
على النخب السياسية والثقافية لأبناء الأقليات، والتي تحاول جاهدة تعميق
تلك الحالة من النمذجة، وذلك لتكريس جدران التفارق الأيدلوجي الشاقولية،
وتاليا تكريس حالتهم النخبوية المفترضة. وهي مثلبة يمارسونها بحقّ الوجه
الأخلاقي للمثقف، ليس من مثلها مثلبة.
المغالطة الثالثة : عدم ملاحظة الجوانب المشوهة من الوعي السياسي لأبناء
الأقليات، حيث ثمة افتراض مسبق، يحول كل انتماء هوياتي أقلوي إلى انتماء
سياسي أقلوي، وبالتي إلى نقمة مفترضة وحاضرة في ذات هؤلاء، من جراء وضعهم
المعاش، ونتيجة لذلك الافتراض بأن كل الأقليات تحاول التخلص من حالتها تلك.
فهل أرمن لبنان مثلا، يحيون حالة أقلوية سياسية ناتجة عن حالتهم الأقلوية
الهوياتية بالنسبة لباقي اللبنانيين؟ وهل حالتهم الأقلوية المفترضة راكمت
بعدا من النقمة في ذاتهم. أم أن حالتهم كأقلية، خلقت لهم جوّا من تحقيق
الذات القومية والميزات القطيعية والإقطاعية السياسية، ووفّرت لهم نوعا من
البازار السياسي، حولتهم لبيضة قبان في المعادلة السياسية اللبنانية. كل
تلك الميزات التي ربما تحول حالتهم الأقلوية، وبنظام كالنظام السياسي
اللبناني، إلى امتيازات ستقاتل تلك الجماعة في سبيله. وإن كان ذلك تشوّها
بالمعنى التاريخي العميق. لكن من قال إنّ ثمّة جماعة تاريخية كلها من
الفلاسفة والمؤرخين!؟
ثمة خلط بالغ في وعينا الفكري بحالة الجماعة الأقلوية، خلط يقارب مرتبة
الاعتداء غير المقصود .