هذا النص هو طبق سلطة ومقبلات،
وخارج عن عقال النصوص الصارمة ذات الإيقاع والمارش العسكري المنضبط، وكان
يهدف في البداية إلى تناول موضوع الأقليات الدينية في المشرق العربي. لكن
التمرد وعدم انتظار الطابور ومقته، وعدم سماع الإرشادات العامّة للسلامة،
والهروب من التثاؤب والمحاضرات المملّة، كلّ ذلك دفع لتركه على رسله..
فالكتابة أحيانا تكتب نفسها بنفسها.
أمّا موضوع الأقليات الدينية، فيحتاج إلى تفكيك منهجيّ طويل. تعجز عنه
هذه الوريقات، مع أنّ الحقيقة المرّة تخبرنا بأنّ العالم محكوم من لدن
أقلّيات وأفراد يهيمنون على السياسة والاقتصاد والميديا، وقصّة الجماهير
والشعوب لعبة ذكية على رقعة شطرنج عالم القوّة. وربّما يكون عزاؤنا
للأقلّيات الدينية ما قاله الشاعر:
تعيّرنا أنّا قليل عديدنا
فقلت لها إنّ الكرام قليل
فهذه الأقليات هي كيانات سيوسيو تاريخية تربط بطريقة ما مع أرثوذوكسيات
ديية كبيرة، ولتحليل وفهم واقع الحال على المرء (ـة) أن يتناول الجذور
العميقة ويذهب إلى مناطق التابو واللامفكر فيه. وفي هذا السياق عثرتُ على
نصٍّ بالغ الأهمية للأستاذ هاشم صالح يتناول فيه العقل الدوغمائي.
ولأهمّيته القصوى وجدوى تطبيقاته العملية في علم نفس الاجتماع الديني، وجدت
أن لا مخرج لفهم واقع الأقليات دون فهم أسس العقل الدوغمائي باعتباره
علامة أساسية وماركة مسجّلة لمجتمعاتنا.
وقبل الدخول في وجع الدماغ، اِسمحوا لي أن أغرّد خارج السرب، فقد اكتشفت
أنّ بلادنا هي الأكثر تقتيرا وبخلا وتكاد تكون احتكارا مطلقا لذوي النفوذ،
حتى أسماء الشوارع والدلالات الرمزية يحتكرها البعض لتخليد مآثرهم.
قبل مدّةٍ كنت في مدينة عربية، وبالصدفة مشيت في شارع يحمل اسم الحاكم
(أعزّه الله) ثم انعطفت إلى اليمين، فرأيتني أسير في شارع يحمل اسم جدّه
(طيّب الله ثراه)، وعلى الشمال عثرت على ميدان وجامعٍ يحملان اسم والده
(منه لله).. والمشكلة تزداد سوءا عندما يُطلق أحد قادة الميليشيات اسم
عائلته على مدينة كاملة.. والأدهى والأمر عندما يتكرم سيّافٌ أعرابيّ باسمه
على بلد طويل عريض.
كم شعرت بالغبطة وأنا أقرأ أن دمشق أطلقت اسم نزار قباني على أحد
شوارعها، ليس لأنه واحة غنّاء للكلمة، وفنّان رسم عصره بالكلمات، وعاشق كتب
"قالت لي السمراء" و" طفولة نهد"..بل لأنّه أحد أكبر مجدّدي لغتنا
الخشبية.
لم أشعر بالغبطة تماما، فدمشق كرّمته بعد أن تقاذفته أقدام المنفي
عقودا، ثم عاد إليها محمولا على آلة حدباء.. سمعت أيضا أنّ الشارع قد غُرس
بشجيرات الياسمين، احتفاء بذكرى وفاته العاشرة عام 2008. لكن للأسف لم
أستطع شمّ رائحة الياسمين بواسطة حاسة السمع.
هذه المقدمة الملّتبكة، هي دعوة لتذكير النفس بالإبداع (وأهل البدع)، كي
لا تنام النواطير وتنسى روادا ساهموا بجدّ ومثابرة في إثراء المعرفة. فما
قدمه محمد أركون للمكتبة العربية لا يُثمّن: لقد قدّم للعرب عصارة علوم
الإنسانيات الحديثة، التي نسخت الفيلولوجية الكلاسيكية والتاريخانية (وعلوم
الملوخية). خلاصة مشروعه لخّصه مترجمه المبدع هاشم صالح عندما أخبرنا:
بأنّ التفكيك المنهجي لأركون ليس قصرا مكتمل البناء، بل ورشة عمل للباحثين
والمختصين.
ومن المفيد تذكّر تلك المقولة: ورشة عمل؟ فالبناء الأركوني لازال بدون
سقف وأبواب وشبابيك، وربما أصبح هو الآخر يحتاج لبعض الحفريات لإخراجه من
تحت أنقاض11سبتمبر، أو الاكتفاء ببعض المتعة واللذة المعرفية وتذكّر بعض
عناوينه مثل: تاريخ الأنسنة في العقل العربي (أطروحة أركون التي نال
بموجبها عام 1968 الدكتوراه)، أو إعادة فهم النحت اللغوي "أنسنة" المناقض
للفظ "حيْونة"، أو الدخول في غبار: معارك من أجل الأنسنة في السياقات
الإسلامية، أو الاكتفاء بعنوانه الأصيل: الأصولية واستحالة التأصيل، أو
الإسلام أوروبا الغرب.. ولولا آفة النسيان لتذكّرت المزيد.
لكن الشيء الوحيد الذي حفر في الذاكرة عميقا كان مقدّمة كتابه: "الفكر
الإسلامي: قراءة علمية"، وهي مقدّمة لا شأن لأركون بها، فقد نحتها الأستاذ
هاشم صالح بإزميله البارع، ولأسباب كثيرة أعدت قراءتها مرّات عديدة، عكس
الكتب التي يطويها المرء بسرعة ويخلص من همّها، فهي برأيي أشبه بعصير
معرفيّ (سيروب) عالي الجودة والتركيز، ويحتاج للتخفيف بالماء ليتذوّقها
القارئ العاديّ من أمثالي. لكن قبل الدخول في دهاليزها لا بدّ للمرء أن
يُدهش للجهد الجبّار الذي بذله الأستاذ صالح، لضخّ الأركونية في فضائنا
اللغويّ، فالترجمة هي إعادة كتابة، وصياغة جديدة للدلالة بما يوافق فضاء
اللغة المنقول إليها.
ومن المؤسف أنّ صدى هذه الكلمات، يخبو أحيانا وتبتلعه أصوات أشبه
بالمناجاة، إذ يسأل المرء نفسه: ما جدوى هذه الكتب المعقّدة والمجرّدة، وما
نفعها؟ فمنهجية التفكيك الأركوني كُتبت أساسا بلغة أجنبية تعكس منظورا ما
بعد حداثيّ ورؤية أخرى للكون، والعملية ببساطة تشبه عرض أزياء (شانيل) وسط
قبائل الأمازون؟ ثم متى تُفتح ورشات العمل لإنجاز القصر الأركوني؟ والسؤال
المرير: ما فائدة فتح ورشة وولادة مبدع، إذا استمرّت مؤسّسة التقليد
الأبوية (الدينية) بتفريخ آلاف من طلبة (الله أعلم) الذين يتبوّؤون مفاصل
المجتمع؟
أحيانا يُخيّل لي أننا نظلم الحاكم قليلا، وننسى أنّه محكوم لشبكة
داخلية من العصبيات (ناهيك عن حكم زوجته له)، فالنظام أيّا كان يقوم أيضا
على مفاصل وحلقات تراتبية (لتفريغ عنف السلطة وعقول الناس وجيوبهم)، وهؤلاء
الذين تفقسهم مفارخ مؤسسة الدوغما سرعان ما يتقمّصون هيبة السلطة الأبوية،
ويحفظون ديمومة الاستبداد، ويضعون العصا الغليظة في قفا كلّ من يقول لا
(وأخواتها)، ثم يتوضّؤون مستغفرين شاكرين.
إذًا ما هي الطريقة لإنزال مفردات الحداثة من رفوف الكتب وتدجينها في
الأذهان؟ هل تكفي محاكاتها بأعمال أدبية وفنية، وتوسيع حقول الدراسات
وتراجم المعرفة؟
وقبل كل ذلك دعونا نحطّ الرحال عند مقدّمة الأستاذ صالح وننهل قليلا من
ينابيعها:
يطلعنا الكاتب بأنه يستقي معلوماته من الفرنسي ديكونشي، الذي نقل أعمال
المفكر الأمريكي (البولوني الأصل) م. روكيش، وأبحاثه في علم نفس الاجتماع
الديني وبنية الأرثوذوكسية الدينية، والتي اعتمدت التحقيق الميداني
والمختبري.
لكنّ الكاتب اعتمد ترجمة مُربكة لمصطلح La rigidité mentale حين استخدم
عبارة: "مفهوم الصرامة العقلية" وهذا يحمل بعدا دلاليا إيجابيا يُذكّر
بالصرامة العقلية للألمان وانضباطهم، في حين كان يعني: التخشّب والتزمت
العقلي.. وهي ميزة تصف العقل الدوغمائي وطريقة عمله، والتي يفسّرها كالآتي:
عدم مقدرة الشخص (الدوغمائي) على تغيير جهازه العقليّ أو الفكريّ عندما
تتطلب الشروط الموضوعية ذلك، وعدم قدرته على اختيار حلّ ناجع وفعّال لمشكلة
ما، من ضمن عدّة حلول معروضة.
وبهذا يُدخلنا الكاتب إلى ارتباط العقل الدوغمائي بالروح المنغلقة، دون
الخوض في مضامين الدوغما (دينية أو أيديولوجية كانت) بل الاكتفاء بالآليات
والطرق التي يعمل بها. لذلك فهو يستخدم مصطلح "نظام من العقائد" أو "نظام
الإيمان" الذي يقوم على قطبية حادة موجزها أنّ الدوغمائي يستخدم منظومته
العقلية المتخشّبة (المتزمتة) لتأكيد عقيدته "الإيمانية"، وبنفس الوقت
يستخدم نفس الآلية لرفض وإلغاء عقائد أخرى يعتبرها "لا إيمانية"، ويُدخلها
في حيّز الممنوع والمستحيل التفكير فيه، فتُصبح بمرور الأجيال نوعا من اللا
مُفكر فيه.
وقبل الاستمرار مع الكاتب وقراءة ميزان حرارة الدوغما، تجدر الإشارة إلى
أنّ "نظام الإيمان" للأرثوذوكسيات الدينية الكبرى (مسيحية، إسلام بكلّ
تنوّعاتها) استخدم تلك المنظومة المتزمّتة وأحدث تراكما للا مُفكّر فيه وهو
عبارة عن ركام تاريخاني وليس تاريخيا، بسبب تعرّض الحدث المؤسّس لأسطرة
دائمة اعتمدت المعجزة، والحجب والطمس، والاختلاق والوهم. وربط المؤمن
بماضوية تقديسية مُتخيّله وتاريخ قصصي فانتازيّ.
وبكلمات أخرى فإنّ المقولة الذائعة: "كلما ازداد المؤمن تعصّبا لدينه
ازداد جهلا به".. هي قاعدة ذهبية، فقراءة المؤمن لدينه يسبقها تسليم عقله
للدين واستسلام كليّ يوقف تماما ملكة النقد ويجعله يطرب لصوت الحمير، أكثر
من الأوبرا. وربما تنطبق أيضا على الإلحاد الذي يرفض استيعاب مفهوم "نظام
الإيمان" وطريقة تشكله والعروة الوثقى التي تُنشئ الروابط الاجتماعية
السيكولوجية بين جماعة المؤمنين. وهنا يأتي دور النقد لتأسيس نظام معرفيّ
ورؤى بديلة، وتجاوز التمنيات وأسطورة الفأر الذي أطاح بسدّ مأرب.
وبالعودة إلى مقياس روكيش لتحديد درجة الهزّة الدوغمائية (أنقل بشكل
مختصر وبتصرف):
أولا: أبسط علامات الحمّى يمكن استدراكها من خلال وضع حاجز كثيف معتم
بين نظام الإيمان وخصومه من " أنظمة اللا إيمان" لضمان العزل، مع تأكيد على
اختلافات مع الآخر، واحتقار وإنكار التناقضات الداخلية لنظام الإيمان،
والتعايش معها بدون الإحساس بأية مشكلة.
ثانيا: ترتفع حرارة الدوغما بتقوية الخلاف بين نظام الإيمان والآخر من
خلال رفضه للمحاولات التوفيقية، ومن خلال يقين بامتلاك المعرفة الحقيقية
وخطأ الآخر..
ثالثا: تصعد حرارة المريض أكثر عندما لا يستطيع الدوغمائي التمييز بين
"أنظمة اللا إيمان" ويرميها جميعا في سلة الخطأ.
رابعا: تدخل الدوغما مرحلة أعلى، كلما تنامى اعتمادها على اليقينيات
الهامشية، واعتبارها انبثاقا مباشرا من اليقينيات المركزية.
خامسا: أمّا المرحلة الأخيرة فتحدث عندما يصبح الحاضر جزءا من ماضوية
ويوتوبيا مُتخيّلة..(انتهى)
وكما يبدو فإنّ المرحلة النهائية تصف المرحلة السلفية في الأرثوذوكسيات
الدينية (تكون مصحوبة برجفات إيمانية وتقيؤ للحداثة).
ومبدئيا يمكن الزعم أنّ هذه العلامات الخمس، تتمظهر بدرجات متفاوتة في
جميع أنظمة الإيمان، وأحيانا تعطينا دوغما (خمس نجوم) يتم تأكيدها
بإسقاطات تربوية يمتصها الطفل من ثدي أمه أو من خلال مشاركة ذويه طقوسهم
ومحاكاتهم.. وكلّ من يعيش وسط فسيفساء دينية ومذهبية سيرى تلك الجدران
الكثيفة العازلة، وما تولده من هشاشة بنيوية داخل مجتمعاتنا.
ولو أخذنا المجتمع الشامي على سبيل المثال، نلاحظ أن الأقليّات استثمرت
بسرعة روح العلمنة لحقبة ما بعد الاستقلال الوطني، وحققت سبقا في التعليم
الحداثي (بدأ مع مدارس التبشير أواخر القرن 19) وهذا أهّلها لملء وظائف
متميّزة. ومع ذلك فإنّ تلك الأقليات ظلّت تمارس ثقافة تقوية وقبلية منغلقة
(آلية دفاعية) وادّعاء بالنقاء والتفوّق والأصالة، أمام أغلبية سنيّة
وأرستقراطية مدن عثمانية، طالما عاملتها باحتقار وفوقية ونرجسية (وهذا
يؤكّده تاريخيا لجوء كثير من الأقليات إلى سكن الجبال، كما في حالة الدروز
والموارنة والعلويين واليزيديين) ..وظلّ الموروث الشاميّ يُشيّد في عمقه
جدرانا لا مرئية يعبر عنها اتّهام ضمنيّ متبادل بالنجاسة والهرطقة.
حيث تتربّى أجيال المسيحيين مثلا: على مقت شخصية نبيّ الإسلام ووصفه
بصاحب بدعة وغازي أرض، وحامل مشروع بدويّ، إضافة إلى شعور بتمزّق الهوية
وتوزّع الولاء بين مرجعية وطنية وكنائس أممية مع تباهٍ ضمنيّ بالحداثة
الأوروبية، مع أنّ الأخيرة قامت جوهريا على قلع أنياب الكنيسة. وهذا
التماهي يمكن تفهّمه، وهو تهافت لا مبرّر له، لأنّ مسيحية الشرق لا تختلف
نوعيا عن فضائها الإسلامي، وتقترب من الكنيسة الأثيوبية أكثر من لاهوت
التنوير الأوروبي. لأنها وحسب حفريات المعرفة لفوكو ما تزال تعيش على
فرضيات ومسلمات قروسطية، تقوم على مركزية الإله في الكون، ووجود رسائل
إلهية وأوامر ونواهي وشرائع، مُلزمة، أرسلت بواسطة مندوبين ومتعهّدي
أديان. وكلّ هذا يناقض جوهر الحداثة الأوروبية وفكرة موت الإله بالمفهوم
النتشوي.
أيضا يمكن التحدث عن مكبوت أرثوذوكسي سنّيّ يتّهم النصارى والعلويين
والإسماعيليين والدروز بالهرطقة، وأحيانا بالباطنية، مع تلميحات وتصريحات
بوجود طقوس سرّانية مضمرة وإحياء احتفالات إباحية موسمية. أو اتّهامهم
بالقذف والتشنيع بحقّ شخصيات رمزية صحابية كعمر وأبي بكر.
وهذا يمكن التعرف عليه من إشارات الموروث والأهازيج والشتائم والمجاكرة
بين الصبيان على خطوط التماس المذهبي، وانعدام الزواج المختلط بين الملل،
ودعوات الأمهات على بناتهنّ لحظات الغضب: روحي الله يجوّزك متّوالي..
(متاولة تعني شيعة لبنان)، وتجدر الإشارة إلى أنّ اللغة والثقافة العربية
التقليدية وتقنيات التورية، والتمويه، ساهمت في تكريس المسكوت عنه، عبر
خطاب شعاراتي وشعري، لذا فإنّ فضح المسكوت عنه، مقدّمة جدية للحوار وإزالة
تلك الجدران في مجتمعنا.
وبنفس الوقت فإنّ تعميق وازدهار علم نفس الاجتماع الديني، يساعد القادة
الروحيين للخروج من أقفاص الدوغما قليلا ومشاهدة التاريخ الواقعي، وليس
المُتخيّل ..
ويبدو أنّ عصر الميديا قد زاد من حدّة الجدل وفضح ما تسترت عليه
البلاغة اللغوية والتمويه، وروح المداهنة، خصوصا مع ازدهار الكتابة
والتعليق بأسماء مستعارة.. مما أدخل الجميع في حالة عصابية مرضية واحتقان
مذهبي وديني.
وهنا أسوق مثالا نمطيا لنوع عقيم من الجدل البيزنطي، الذي يشعّ (بنجومه
الخمسة) ويبرهن فعلا على خطورة الموقف وتراخي مجتمعاتنا أمام عصف ذهني قد
يجلب المزيد من الخراب والويلات:
على أحد المواقع القبطية المعروفة قرأت عن تصريحات لداعية إسلامي أدلى
بها لأحد محرّري الموقع تقول باختصار: إنّ المسيح مسلم وكذلك العذراء،
مستندا إلى نصّ قرآني: إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن
يـُنزِل علينا مائدة من السماء، قال له الحواريون آمنّا وأشهد بأنّا
مُسلمون (انتهى)
المهم ليس الاقتباس في ذاته، بل الحوار والتعليقات التي رافقته، وهي وإن
بدت صورة لمرآة مقعّرة، إنما تصوّر الغيوم المتلبّدة في الأفق.. إذ حفلت
ردود الفعل بكثير من السخرية الاحتقارية اللاذعة، وأحيانا الحطّ وتجريح
الرموز بشكل فجّ، مع أنّ المحرّر نوّه إلى أنّه لا ينشر ما يُسيء للمعتقدات
والأشخاص.
أمّا تجلّيات السجال بصورته القروسطية، فقد تمظهرت في ردود الأغلبية،
وهنا أسوق مثالا لإظهار الصورة النمطية للعقل الدوغمائي (أنقل باختصار) :
"المشكلة الكبرى ليست في هذا الشيخ الجاهل، بل في المسلمين ومعهم
الكثيرين من جُهّال العالم الذين يعتبرون الإسلام دينا اٍلهيا سماويا ثالثا
.. لا بد أن يتأكّدوا أنّ الله واحد وله فكر واحد وديانه واحدة وخطة واحدة
فقط لخلاص البشرية وهى صلب ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح له كل المجد
والإكرام وقيامته من بين الأموات وصعوده إلى السموات، والكتاب المقدس
بعهديه القديم ( التوراة ) والجديد هما جناحا هذا الطريق فلا يوجد ولا يعقل
أن الله له ديانات ثلاث".
ما يلفت النظر في جدالات من هذا النوع، بروز استنكار إسلامي مرتبك
وخجول، مشفوع بعدم القدرة على تجريح رمزية عيسى ومريم لأسباب يفرضها النظام
الإيماني الإسلامي. وبالعكس فإنّ نخبة قرّاء المسيحيين تهلّل بفرح وغبطة،
(وترقص بالمناديل) لأيّ نقد تافه وممجوج يُوجّه للإسلام، حتى وإن كتبه
أحمق ( أو حمقاء). وهذا يكشف أنّ الهدف ليس النقد من أجل عالم حرّ، بل
للتنفيس عن أحقاد وكراهية. إذ يكفي علك بعض عبارات مثل "زواج عائشة، بول
البعير، مقتل أم قرفة، ..إلخ ) ليصبح الأحمق (أو الحمقاء) أهمّ من فولتير.
أمّا نسبة القرّاء الذين أدركوا أنهم في حوار طرشان، فكانت ضئيلة، لأنّ
يسوع الإله الذي صُلب لخلاص البشرية هو دوغما مسيحية محضة، لا علاقة لها
بنبيّ اسمه عيسى ابن مريم. وهذه نقطة مهمّة تنسف الجدل من أساسه.
وبالعودة إلى مقدّمة الأستاذ صالح فقد تتوضّح المسألة جزئيا عندما ينقل
عن ديكونشي ما معناه: إنّ العقائد الدينية تنحرف عن معايير العقل، التي
تقوم على الاستنباط والفرضية والتجريب، وتعوّض هشاشتها العقلانية عن طريق
صرامة الضبط النفسي والاجتماعي، الذي يصهر الجماعة المؤمنة بمقولات حقيقتها
المطلقة..وهي مقولات لا تعني شيئا لمراقب خارجي عقلاني (انتهى)
أخيرا وانسجاما مع المقدمة التي تحدثت عن الإبداع، أنقل لمن يهمّه الأمر
خبرا عن فتى عراقي يُدعى محمد التميمي (16 عاما وهو ابن لأسرة هربت من
نعيم "الحرية" عام 2003) هذا الفتى قام خلال أربعة أشهر باشتقاق معادلة
رياضية لحلّ معضلة المصفوفات الرقمية الشهيرة للسويسري برنولي، وهي معضلة
دوّخت عالم الرياضيات لثلاثة قرون. هذا ما أكدته جامعة اوبسالا التي درست
المعادلة، مما حدا بصحيفة "داغنس نيتر" السويدية لكتابة عنوان يقول: فتى
عراقي مهاجر يُدهش العالم.
أوردت هذا الخبر ليس فقط من أجل عيون هذا الفتى الرائع، بل لتذكير النفس
بأنّ ما نكتبه لا يزيد عن همسات وحفيف أو ما يشبه تجليات مشوّهة لعوالم
بورخيسية، لأنّ الواقع هو أكثر تركيبا وتعقيدا من أرقام جاكوب برنولي.