لطالما طرحت على نفسي هذا
السؤال: لماذا لا نستطيع حتى الآن تشخيص المشكلة الطائفية بشكل صحيح تمهيدا
لحلّها يوما ما؟ ومعلوم أن التشخيص الصحيح لأيّ مشكلة هو نصف الطريق نحو
العلاج. أما التشخيص الخاطئ فقد يقتل المريض، أي نحن بالذات. أقصد بالتشخيص
الخاطئ الايدولوجيا العربية الرثّة والهشّة، إن لم أقل الكاذبة
والديماغوجية بمعظم تياراتها. وهي تتحاشى دائما طرح المسألة الأساسية، وإذا
طرحتها فإنها تكتفي بدغدغة المشاعر الشعبوية السائدة في الشارع وتكريس
المواقع المحافظة واليمينية. وقد تكرر إلحاح هذا السؤال عليّ بعد كل ما
حصل في المنطقة العربية منذ الثمانينات وحتى اليوم: أي بعد اندلاع الموجة
الأصولية الإخوانية- الخمينية التي اكتسحت الشارع بل وحتى الكثير من
المثقفين، لدهشتنا الكبرى إن لم أقل فجيعتنا الكبرى.
لندخل في التفاصيل قليلا. نحن الآن أمام نوعين من الإسلام: معتدل
ومتطرف. هناك إسلام معتدل على طريقة شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي مثلا
مقارنة له بإسلام محمد مهدي عاكف المعأرض المتشدد او الشيخ يوسف القرضاوي
وكل تياره. قد يحتج البعض قائلا بان الشيخ القرضاوي هو أيضا وسطي معتدل. لا
ريب أن هناك فرقا بين الشيخ يوسف القرضاوي والدكتور أيمن الظواهري. ولكن
ظاهريا فقط ومن حيث الدرجة لا النوعية. أقصد من حيث حدة اللهجة. فالأول
معتدل لا يطالب، على الأقل علنيا، بحمل السلاح وممارسة التفجيرات لقلب
الأنظمة العربية أو لنسف مخازن الغرب ومطاراته وبناياته الخ… والثاني متطرف
يطالب بذلك علنا. والشعب الطيب البسيط ينقسم بين هذا وذاك. نفس الشيء يمكن
أن نقوله عن الجهة الشيعية. فهناك أيضا رسميون معتدلون وهناك متطرفون
خارجون على كل شرعية ويريدون تغيير العالم بالقوة. انظر الفرق بين الشيخ
علي السيستاني مثلا أو محمد حسين فضل الله من جهة، ومقتضى الصدر والمتطرفين
الآخرين من جهة أخرى.
السؤال المطروح على الإسلام المعتدل والمتطرف في كلتا الجهتين هو
التالي: متى سيحصل إصلاح ديني حقيقي في أرض الإسلام يخرجنا من كل هذا
التعصب والانغلاق القروسطي؟ متى سيحصل تنوير إسلامي مثلما حصل تنوير مسيحي
في الدول الأوروبية أو الغربية المتطورة؟ هذا السؤال ما عدنا بقادرين على
تحاشيه بعد كل ما حصل ويحصل. وبناء على الإجابة عليه يتوقف مصيرنا وتحسم
مسألة الطائفية والمذهبية في المشرق العربي على وجه الخصوص.(التناقض
الأساسي في المغرب الكبير هو عرقي لغوي أي عربي/أمازيغي دون أن يعني انعدام
التناقض المذهبي بين الأقلية الإباضية والأكثرية السنية المالكية. انظر ما
حدث في الجزائر مؤخرا من اضطرابات حيث تعاني الأقلية الإباضية من التمييز
مرتين لأنها أقلية على المستوى العرقي بسبب أمازيغيتها وأقلية على المستوى
المذهبي بسبب إباضيتها. أما في المشرق فالأمور تبدو أكثر تعقيدا في الواقع.
فبالإضافة إلى الانقسام العرقي اللغوي الكبير بين العرب/ والأكراد هناك
الانقسام الطائفي الكبير بين المسلمين/ والمسيحيين ثم المذهبي الكبير بين
السنة/ والشيعة. هذا دون أن ننسى الأرمن والآشوريين الخ..).
لكن لنعد إلى مسألة الإصلاح الديني التي يتوقف على نجاحها انبثاق
المفهوم الجديد للمواطنة: أي المفهوم القادر على استيعاب الجميع والمساواة
فيما بينهم أمام مؤسسات الدولة بعد قرون وقرون من التمييز والإجحاف. أولا
لا ينبغي على مفهوم الإسلام الوسطي المعتدل أن يغيب عن أذهاننا الحقيقة
التالية: وهي أن العالم الإسلامي مريض بالجمود التاريخي كما يقول عبد
الوهاب المؤدب وان هذا المرض أصبح حقيقة واقعة بل وهما لنا وشغلا شاغلا
للعالم أجمع. وكما قلت في نظريتي عن الانسداد التاريخي: إما أن يتطور الفقه
الإسلامي لكي يصبح متطابقا مع حقوق الإنسان والقوانين الحديثة وإما أن
يعلن الحرب التكفيرية على العالم أجمع كما هو حاصل اليوم. إما أن يتخلى
العالم العربي عما يتوهم انه ثوابت "فوق بشرية" ويعتنق الحداثة الفكرية
والسياسية وإما أن يكفرّ هذه الحداثة ويعلن عليها الحرب الشعواء كما فعلت
الخمينية والبنلادنية وقبلهما الوهابية. ولكن التجربة التركية تفتح لنا خطا
ثالثا وتعطينا بصيص الأمل. فإخوان تركيا انفتحوا على الحداثة بجدية وما
عادوا يطالبون بتطبيق الشريعة والحدود المرعبة. نقول ذلك على الرغم من
تخوفنا وتخوف التيار العلماني التركي من تزمت بعض عناصرهم وأجنحتهم. ولكن
على الرغم من ذلك فإنهم يبذلون الجهود للسير في طريق التطور والتخلي عن
الشريعة وتحديث القوانين حتى ولو كان ذلك ضد رغبتهم العميقة وبإلحاح وضغط
من الاتحاد الأوروبي. ولعل إخوان سوريا وغير سوريا يقلدونهم ويمشون في خط
التنور والاجتهاد والاستنارة الفكرية. نأمل ذلك. وبالتالي فهناك إسلام واحد
ولكن تفسيران مختلفان له: الأول ارتكاسي ماضوي سلفي رجعي يكفّر شرائح
واسعة من المجتمعات العربية ويسبب الحروب الأهلية. إضافة إلى ذلك فانه لم
يعد يليق بهذا العصر بل أصبح عالة علينا أمام بقية الأمم والشعوب المتحضرة
ليس فقط في الغرب وإنما في الشرق أيضا. أقول ذلك وأنا أقصد أمما كبرى صاعدة
سوف يكون لها وزنها قريبا كالصين والهند واليابان. فهؤلاء أيضا أصبحوا
يشمئزون من كلمة إسلام ويعتبرونها مرادفة للعنف والإرهاب. والثاني عقلاني
مستنير يحاول الابتعاد بقدر الإمكان عن المذهبية والطائفية الضيقة والنزعات
التكفيرية المسبقة وله المستقبل في رأيي. وهو يعتبر امتدادا لإسلام العصر
الذهبي، إسلام المعتزلة والفلاسفة وكبار المتصوفة الروحانيين كابن عربي
وسواه. ولكن المشكلة هي انه لا يزال أقلية بالقياس إلى التيار الآخر الطاغي
الذي يكتسح الشارع. مهما يكن من أمر فإننا نعلم أن هذه العملية، أقصد
عملية الإصلاح الديني والتنوير، لا يمكن ان تتم بين عشية وضحاها. وتجربة
فرنسا وبقية الشعوب الأوروبية المتقدمة اكبر دليل على ذلك. هذه صيرورة
عسيرة تحصل تدريجيا وعلى مراحل. ونعتقد أنها ستتحقق خلال الأربعين أو
الخمسين سنة القادمة. وربما تأخرت حتى نهاية الألفية الثالثة. وعلى أي حال
فان هذا القرن هو قرن الإسلام: بمعنى انه القرن الذي ستُحل فيه مشكلة
الإسلام. فالإسلام إما انه سيصبح روحانيا متصالحا مع الحداثة ويتخلى عن
نزعته الاستبدادية الشمولية التوتاليتارية على طريقة الإخوان المسلمين وإما
انه سيُهمش كليا من قبل الحضارة العالمية. أيا يكن من أمر فإنّ الأصولية
الحالية سواء أكانت خمينية أم إخوانية هي علامة على المرض الذي ينخر في
أحشائنا منذ قرون وقرون. حاكمية المودودي وسيد قطب كما ولاية الفقيه
للخميني ما هما إلا العدو اللدود للحداثة الفكرية والسياسية: أي لفلسفة
التنوير وسيادة الشعب والديمقراطية الحقيقية والتسامح الديني أو حتى الحرية
الدينية الكاملة وحقوق الإنسان. بمعنى آخر فان الحاكمية السنية كما ولاية
الفقيه الشيعية ما هما إلا معادل حرفي لنظرية الحق الإلهي المطلق لملوك
فرنسا المستبدين الممثلين لظل الله على الأرض والتي أطاح بها فلاسفة
التنوير والثورة الفرنسية الكبرى. وبالتالي فلا يوجد هنا فرق بين أكثرية
وأقلية: الجميع مصابون بالجمود التاريخي والمرض الطائفي. جميع الفرق
الإسلامية من سنية وشيعية وإباضية تعاني من الانغلاق أو الانسداد التاريخي.
كلنا في الهوى سوا.. وهنا أصل إلى النقطة الثانية والمزعجة فعلا من
النقاش.
معطيات وذكريات شخصيةلكن قبل أن أدخل فيها أحب أن أقول شيئا هاما منعا لكل التباس. فالبعض
أصبح يعتقد باني ضد الدين في المطلق أو أني أريد "القضاء على الإسلام" من
كثرة نقدي للأصولية والأصوليين ومحاكم التفتيش!(انظر أحد المواقع السلفية
على الانترنيت باسم: الألوكة المجلس العلمي). لكأني قادر على ذلك أو لكأني
أريده! أو لكأني نزلت من المريخ ولست ابن هذا التراث! ينبغي أن يعلم الجميع
باني أنا أيضا أنتمي إلى تراث الإسلام قلبا وقالبا وبخاصة في جانبه الروحي
والأخلاقي والميتافيزيقي. وأنا أيضا أعتبره جزءا لا يتجزأ من الهوية
الوطنية للسوريين والعرب أجمعين. ولكن أضيف إليه أيضا المسيحية العربية
والمحبة الإنجيلية. فهي أيضا جزء لا يتجزأ من تراثنا الروحي وهويتنا
التاريخية. ولا أعتقد أن التنويريين السوريين أو العرب يخالفونني الرأي في
ذلك.
أيا يكن من أمر فإنه يحصل لي أحيانا أن افتح التلفزيون واستمع إلى
الدروس الدينية لهذا الشيخ أو ذاك وأستمتع بها. من يصدق ذلك؟ مثلا بالأمس
القريب وقبل أن يخرب جهاز التلفزيون عندي غير مأسوف عليه، فتحت صدفة على
الفضائية السورية فوقعت فجأة على درس ديني للشيخ محمد سعيد رمضان البوطي في
الجامع الأموي الكبير بدمشق. واعتقدت في البداية أني لن أصبر عليه أكثر من
خمس دقائق فإذا بي استمع إليه حتى النهاية وبإعجاب. وفي بعض اللحظات خيل
إليّ وكأني استمع إلى والدي وهو يلقي علينا مواعظه الدينية. أقول ذلك خاصة
أن هناك شبها شكليا بين الرجلين أو هكذا خيل لي. كل شيوخ الإسلام على
اختلاف مذاهبهم يرددون نفس الشيء في نهاية المطاف: آيات قرآنية، أحاديث
نبوية، مواعظ أخلاقية. ومن هذه الناحية أحب أن أقول للجميع بأنّي لا أعتبر
نفسي أقلية وإنما مندمجا شعوريا وروحانيا في الأكثرية. بحياتي لم أشعر بأني
غريب عن هذا التراث أو أنه غريب عني. فمثلا عندما أزور بلدان المغرب
العربي وأستيقظ على صوت المؤذن صباحا أستمتع به وأشعر وكأني قد عدت إلى
أصلي وجذوري بعد طول غياب. وعندما أشتغل على التراث العربي الإسلامي ترجمة
أو كتابة، أشعر وكأني لم أبارح طفولتي وتربيتي القرآنية المبكرة. وفي ذات
الوقت أشعر وكأني مسؤول عنه كله بما فيه الجانب السني، بل خاصة الجانب
السني لأنه الأضخم والأهم. وبالتالي فانا عندما أترجم أركون مثلا أو أشتغل
على التنوير، فإني أعتبر نفسي مسؤولا عن التراث الإسلامي كله وليس فقط
الشيعي أو العلوي كما قد يتوهم بعضهم. لا ريب في أني أنطلق من جذوري الأولى
بشكل واع أو لا واع كجميع الناس ولكني وسعت الإشكالية لكي تشمل الجميع
بسبب اشتغالي على فكر أركون طيلة ثلاثين سنة متواصلة. وهو فكر علمي، قوي،
معقد، مرن إلى أقصى الحدود. وقد دفعني ذلك لأن أعاني تلك التجربة الشهيرة
والصعبة التي يدعوها العلماء: باشتغال الذات على ذاتها أو حتى قهر الذات
لذاتها أو انتصار الذات على ذاتها. وكل معرفة لا تؤدي إلى ذلك لا تساوي نصف
ساعة عناء. المعرفة إذا لم تغيرك من الداخل، إذا لم تصهرك صهرا، وتحولك
تحويلا، حتى لكأنّك أصبحت شخصا آخر ليست معرفة ولا قيمة لها.
وبالتالي فأنا أعتبر نفسي سنيا وشيعيا وإباضيا ومعتزليا وصوفيا وعلويا
واسماعيليا ودرزيا فاطميا، وكل شيء. كل تراث الإسلام تراثي لا أستثني منه
شيئا. وهذا ما يدعوه أركون بالتراث الإسلامي الكلّي. ومعلوم أن أركون يدعو
إلى توحيد الوعي الإسلامي كله فيما وراء الفتنة الكبرى والانقسامات
التاريخية التي لا تزال تمزقنا حتى الآن، بل وتهدد وحدتنا الوطنية. ولذلك
فإنه يدعونا للخروج- أخيرا!- من منظور القرون الوسطى والدخول في منظور
العصور الحديثة. ومعلوم أن كتب الملل والنحل التكفيرية قديما وحديثا رسخت
آنذاك ولمدة ألف سنة، أي حتى اليوم، مفهوم الفرقة الناجية الذي يكفر جميع
الفرق الإسلامية ما عدا أهل السنة والجماعة الموعودة وحدها بالنجاة في
الدار الآخرة. أما بالنسبة للعالم الإيراني الشيعي فإنّ الفرقة الناجية في
الإسلام هي وحدها المذهب الشيعي الاثني عشري. أركون يدعو إلى تفكيك هذا
المنظور القروسطي القديم، وتبني منظور آخر يضع جميع الفرق الإسلامية على
قدم المساواة دون أي تمييز مسبق. بمعنى آخر فانه يدعو إلى عكس المنظور
السابق او قلبه. من هنا الطابع الراديكالي والتحريري لفكر أركون(انظر
كتابه: "نقد العقل الإسلامي" الذي سيصدر خلال هذا الشهر عن دار الطليعة في
بيروت). ينبغي العلم بأنه حصل في المسيحية نفس الشيء. فالانقسامات المذهبية
مزقتها أيضا. وظلت الكنيسة الكاثوليكية التي هي الأكثر عددا مصرة حتى أمد
قريب على أن المذهب الكاثوليكي هو وحده الذي يمثل الفرقة الناجية في
المسيحية بعكس المذهبين الآخرين الارثوذكسي والبروتستانتي. ظلت تردد على
مدار القرون هذه العبارة الشهيرة: خارج المذهب الكاثوليكي البابوي الروماني
المقدس لا نجاة في الدار الآخرة ولا مرضاة عند الله. وهو نفس موقف كتب
الملل والنحل والبدع الموروثة عن الشهرستاني والبغدادي وعشرات غيرهم في
الإسلام. لهذا السبب دعوت سابقا إلى تأسيس علم الأصوليات المقارنة للكشف عن
كل هذه الآليات التي تتحكم بالعقلية الأصولية الانغلاقية القائمة على رفض
الاختلاف رفضا قاطعا ثم على نبذ الآخر واستبعاده من رحمة الله. فكل واحد
منغلق داخل دينه أو مذهبه أو طائفته ويعتقد اعتقادا جازما بأنه يمتلك
الحقيقة الإلهية المطلقة! وبالتالي فظاهرة الإقصاء والتكفير واللعنات
اللاهوتية موجودة في كل الأديان.
لكن لأعد إلى الوراء قليلا من اجل توضيح مواقفي أو منطلقاتي الأولى.
أتذكر انه عندما كنت في ثانوية جبلة كنت أحب درس الديانة كثيرا وبخاصة لدى
الشيخ محمد أديب قسام. ولا أبالغ إذا قلت بأنه كان يحبني مثل طلبة المدينة
وربما أكثر على الرغم من أنهم سنّة مثله وذلك لأني كنت فصيحا في العربية
وحافظا لآي القرآن. وكان، وهو الأزهري العريق، حساسا جدا لهذه الناحية.
أقول ذلك وكأني أراه أمام عيني الآن، رحمه الله، وهو يتمشى على المنصة
ويشرح لنا بكل براعة الحديث التالي: دخلت النار امرأة في هرة حبستها فلا هي
أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض..
حديث جميل ،عظيم، مليء بالمعاني الإنسانية. حديث يدل على أن الإسلام
يرفق حتى بالحيوان فما بالك بالإنسان؟ ما كنا نمل من درس الدين آنذاك..كنا
نشعر باننا نعيش لحظة استثنائية حقيقية، أو هكذا كان شعوري على الأقل، أنا
الذي لا ينفك يتحدث عن التنوير والفلسفة التنويرية. ولكن لا يوجد تناقض في
العمق إذا ما أخذنا الدين بجوهره لا بقشوره. جان جاك روسو كان مؤمنا
حقيقيا، وكذلك كانط:
التنوير ليس كله إلحاديا.
وأخيرا أنا لست ضد رجال الدين في المطلق بشرط أن يتركونا نشرب عرقا
وويسكي ونسمع الجاز والموسيقى الكلاسيكية ونغازل السيدات وبقية الحريات..
ولكن المشكلة تكمن في التزمت المخيف والنزعة الطقوسية الشكلانية المرهقة
والردع والزجر والمحظورات والممنوعات التي لا نهاية لها..التدين السائد في
عصور الانحطاط يخنقك خنقا. وهذه أشياء كنت أعاني منها في بيتي مع والدي قبل
أن أعاني منها في المجتمع بسبب الأصوليين ورقابتهم القمعية عليه. ومن هذه
الناحية لا يوجد أي فرق بين الأصولية العلوية الشيعية التي تربيت عليها في
طفولتي والأصولية السنية او أية أصولية أخرى. يضاف إلى كل ذلك شيء مخيف
انتشر كثيرا في الآونة الأخيرة بعد انتصار الخميني وحرب أفغانستان ضد
السوفييت وصعود الحركات الإخوانية والسلفية هو: تسييس الدين بشكل زائد عن
الحد وتفريغه من معانيه الروحية واستخدامه كأداة فعالة وفتاكة للتفرقة
المذهبية والطائفية بين المواطنين. معظم الاغتيالات والمجازر جرت على أساس
الفتاوى اللاهوتية لشيوخ القرون الوسطى الظلامية. ولذا أقول بان التنظيمات
الأصولية سواء أكانت سنية أم شيعية تتحمل مسؤولية رهيبة بهذا الخصوص. ولكن
هذا لا ينفي بالطبع مسؤولية السلطات والأنظمة القائمة على الإطلاق.
فالطائفية استخدمت كأداة فعالة وهدامة للوحدة الوطنية من قبل كلا الطرفين:
أو قل من قبل المتطرفين من كلا الطرفين لكي نكون أكثر دقة. والجميع غرق في
المستنقع بكل تهور وقصر نظر دون أن يدرك أن البلاد قد تدفع الثمن غاليا وان
الخارج الذي يتربص بها قد يستغل ذلك في اللحظة المناسبة. فمن يلعب بالنار
تحترق بها أصابعه وربما ما هو أكثر من أصابعه..