في ثمانينات القرن الماضي،
كنت أعمل وأبيت في أحد مشاريع العراق الصحراوية. وكعادة العُزّاب كنّا
نتسامر ونتحدث عن هموم ذكورية وعربدة الجنس في حياتنا المكبوتة. أحد
الزملاء سبق له أن خدم في شرطة بغداد ثم استقال لسبب أجهله، أخبرنا بأنه
وزملاؤه تدخلوا في إحدى الأمسيات لفضّ عراك نشب بين عائلتين (من أقلية
إثنية) بعد حفلة زفاف، وطعن عائلة العريس بعذرية العروس، ثم تطوّر إلى
نزاع وضرب وشجّ رؤوس، وإيقاف العروس في مركز الشرطة، لعرضها صبيحة اليوم
التالي على الطبيب الشرعي.
وأثناء الليل ولج أحد الشرطة المناوبين غرفة توقيفها، وقام بفحص عذريتها
بنفسه، ثم خرج وهو يزرّر بنطلونه ويهزّ برأسه مبتسما ومؤكّدا أنها
"منقوبة!" أي فاقدة للعذرية. وهكذا تناوب الجميع على اغتصابها (عددهم حوالي
خمسة شرطيين) وكلّ خرج وهو يزرّر بنطلونه ظافرا غانما، أما الفتاة فكانت
تذرف دموعها بصمت.
الغريب ليس الاغتصاب لذاته فهذا أمر يحدث في كل العالم.. الغريب أنّ أحدا
من هؤلاء، لم يعترض أو يستقبح تلك الفعلة، أو يمتنع عن تلك الوليمة
القذرة. والأشنع أن محدّثي وسامعيه تلذّذوا بالحكاية، وكأنها من غراميات
دونجوان. هذه الحادثة أتذكرها كلعنة أبدية، لأنها تعبير فظّ عن انحطاط
الوازع الأخلاقي للسلطة، ولعلّ دموع تلك الفتاة، تختصر سفر الألم في
بلادنا. فعندما نكون فريسة لاغتصاب سلطة لا أخلاقية غاشمة. علينا أن نبحث
عن الأسباب المجتمعية التي أنتجت تلك السلطة.. من هنا رأيت أن أكتب قليلا
عن ذلك "الواجب الأخلاقي" قبل تناول تلك الهبّات الشعبية العربية وما
يصاحبها من تمرّد على السلطات والأنظمة (الأسر) الحاكمة.
في صيف عام 1788م كان عمانوئيل كانط خارجا في نزهة يومية معتادة، يعرف
موعدها أهالي كونيغسبرغ ويضبطون ساعاتهم عليها. وفي الطريق شاهد أفراخا من
السنونو ملقاة على الأرض وقد تقطعت أشلاءً.. وبعد معرفة السبب أصيب
الفيلسوف بالذعر، ففي ذلك الصيف البارد كانت الحشرات قليلة، الأمر الذي
سبّب نقصا في غذاء الطيور، ما دفع بالسنونو للتضحية بأفراخه الصغيرة وقذفها
خارج الأعشاش. إنها غريزة الطبيعة.
هكذا بدأ بكتابه الشهير: "أسس ميتافيزقيا الأخلاق" الذي ستغدو مبادؤه
الايطيقية (الأخلاقية) ثوبا للحداثة، فإلقاء قطعة نقود على فقير متسوّل
فعلٌ ليس بذي قيمة أخلاقية حسب كانط (إذ لا يمكن سبر دوافع ذلك العمل
بحواسنا، فقد يكون بدافع أناني أو نوع من المباهاة وإشباع الغرور) ولكي
يتمتع السلوك والتصرف بقيمة أخلاقية، يجب أن يُقاس بمبدأ الإرادة وليس
بمقاصده وأثره. وهذا الواجب تلخصه مقولة: تعامل (أو اسلك) وفق مبادئ
الإرادة كما لو أنك تريدها قانونا عموميا ساري المفعول" وكي نختبر أهلية
"الواجب الأخلاقي" لا بدّ من سيادة قوانين العقل على الانطباعات الحسّية
(الخادعة أحيانا) الأمر الذي يلزمه استقلال (أو حرية) الإرادة : والحرية
هنا لا تعني عمل ما يحلو، بل الانصياع لقانون، وليس لميول وأهواء.. وبما أن
الإنسان يمتلك العقل، للخروج من قسر مسارات الطبيعة وغرائزها البدائية،
فإن هذا الاستقلال عن قوانين الطبيعة هو الحرية. أي أن منابع الأخلاق تكمن
في الحرية. وبالتالي فإنها (الأخلاق) ليست بحاجة لعلّة وتبرير (إلهي) ومن
يطلب علّة أو غاية خارجة عن الواجب الأخلاقي فهو برأي كانط إنسانٌ تافه.
لا شك بأن تونس أطاحت بجدار الخوف، وبدأت مشوار الحداثة السياسية، التي
تعني حق الفرد في المشاركة وصياغة الشأن العام، وحق الشعب في أن يكون مصدرا
للسلطة والشرعية. ولا شك بأن تونس بدأت حين رفضت أن ترى أحد أبنائها
يُلفظ كأفراخ السنونو ويُطرح خارج العش، وأن يُمزق تحت أقدام الاستبداد
والفساد. ولا شك بأن تونس انطلقت بدون شعارات دينية، فمعظمها كانت استنباطا
من الواجب الأخلاقي وثقافة علمانية تجسدت في تحرر المرأة، والتعليم الجيد،
ونمو الطبقة الوسطى، وضمور مؤسسة الجيش وحيادها. وثورة الديجتال وهلمّ
جرّا .
لكن جوهر الحدث التونسي كان في زخم مفاجأته، إذ لم يكن لأحد أن يتصوّر
ويتنبأ بأن دوي حناجر الناس أقوى من ديكتاتورية بن علي، ولعمري فإن شعوب
العرب لا تدين فقط للبوعزيزي بل لهذا الديكتاتور(العلماني) الذي قرر
الرحيل، قبل أن يسيل الدم في كل شارع ودار.
والسؤال: هل يمكن تعريب هذه الحداثة السياسية التونسية؟ وهل يتاح للعرب في
العاجل القريب بلوغها. سيما وأنهم دول عديدة لكلّ طبيعته وصيرورته… وهل
يُمكن قيام ثورة مدنية سلمية عندما يتلاشى الواجب الأخلاقي ويفترش الأطفال
قارعة الرصيف، ولا يُقدّم لهم المأوى؟ هل يمكن تصوّر قيام ثورة مدنية مع
ضمور أسس التكافل بين الجماعة، وحيثما تكون الصلاة فرض عين (وإغاثة المنكوب
فرض كفاية) هل يمكن أن نتصوّر ثورة مدنية حينما يندفع الناس للتظاهر من
أجل صورة كاركاتيرية مسيئة للنبي أو من أجل بناء كنيسة، ولا يحتجّون على
مدنهم الغارقة بالأزبال والقمامة؟ وهل يمكننا تصوّر ثورة سلمية حيث تسود
أنظمة التوحش البوليسي والفساد والرشوة والذلّ والخوف، وتخترق المجتمع من
قمته لأخمص قدميه؟ وما الضمان ألا تتحول إلى حريق مدمر إذا ما تحطمت هياكل
الدولة؟ ألن تكون الثورة عرجاء عندما تغيب المرأة وتختفي في سجن الحرملك؟
وهنالك حيث تهرول الملايين حول الأضرحة والمزارات، حاملة الرايات المعفرة
بتراب الماضي، من سيحكم يا ترى؟ غير باعة الخواتم والقبيلة (ونيغروبونتي)
والغرائز البدائية لأعشاش السنونو.
ملحق:
كتبت المقاطع أعلاه قبيل التهاب الانتفاضة المصرية، ثم عدلت عن نشرها،
بسبب زخم المفاجأة (وخجلا من دماء الضحايا) ولا أنكر أني شعرت ببعض الندم؟
خصوصا وأن هاته الهبّات الشعبية العربية أزاحت كثيرا من التشاؤم والسوداوية
ورسمت أفقا وأملا، لملامح دولة المواطنة والحرية، وأثبتت حضورا للمدنية،
وتمثلا لمبادئ حقوق الإنسان وثقافة السلم.. لقد بالغت كثيرا وتناسيت أن
إرهاصات المبادئ الأيطيقية نجدها أيضا في تراث الشرق القديم وفي عديد من
المقولات والحكم الدينية. فاتني أن جيل الشباب العربي، يعيش حقبة متشربة
بثقافة العصر وقيمه العالمية.. نسيت أن مصر ذات رصيد مدني ودولة حديثة
راسخة (منذ تأسيسها على يد محمد علي) وفي أتعس عهودها احتفظت باستقلال نسبي
للقضاء، وهامش للحريات السياسية. نسيت أيضا أن الجزائر ولجت عصر الحداثة
السياسية عام 1989 وكان بوسعها أن تكون السبّاقة والرائدة، لولا ضياعها
المبكر بين لحى الإسلاميين وأحذية الجنرالات. نسيت أن المغرب قطع شوطا
كبيرا في التعددية السياسية وإطلاق الحريات العامة، نسيت أن دخان المزابل
الطائفية لا يمكنه أن يُطفئ شعلة الوطنية العراقية. ونسيت أن في ليبيا شعبا
سئم العيش في دولة العقيد الكاريكاتورية، ونسيت أن سوريا كآخر قلاع (الخوف
والصمت) لا بد تصرخ من شدة الألم.
لكن ثمة مفارقة كوميدية جديرة بالانتباه، فمدينة العريش المصرية كانت
الوحيدة بين مدن مصر التي استخدم أهلوها قاذفات الـ "آر بي جي" عوضا عن
المسيرات السلمية (الضاحكة) وهذا مؤشر دلالي، يوحي بأن بوابات مصر قد لا
تتسع تماما لمرور انتفاضات سلمية. فالبلدان المركوبة من أسر حاكمة ذات
امتدادات عصبية (قبلية أو طائفية أو إثنية) ستكون على الأرجح محطات دموية
عنيفة، لأن شعار "إرحل" سيصبح ملحميا وتراجيديا (ربما لأن عدد الراحلين
يفوق استيعاب الطائرة.