إن المتتبع لدقائق الأمور
والتفاصيل الصغيرة في الثورات العربية ومنها سورية تحديدا، سيلحظ بروز تيار
واسع الطيف يعمل على رفض أي رأي مخالف أو مساءلة أو نقد لأخطاء الانتفاضة
أو التظاهرات أو حتى نكران حصول بعض الأخطاء هنا أو هناك، معتبرا أن الوقت
ليس للنقد الآن بل لإزالة هذه السلطات الغاشمة، ناكرا على الآخرين حقهم في
النقد والرأي، ويصل الأمر في بعض الأحيان إلى الاتهام بالعمالة للسلطة
وأجهزتها الأمنية أو للخارج، وبأحسن الأحوال يتهم صاحب الرأي هذا بالعمل
ودون أن يدري بإجهاض هذه الانتفاضة، ولذا عليه التوقف عن ممارسة رأيه ونقده
الآن، بانتظار انتصار الثورة التي لا نعرف كم سيطول زمنها، ولا نعرف كيف
ستنتصر إن لم تصوب أخطاءها بدلا من مراكمتها وإخفائها.
قبل الدخول في التفاصيل والدهاليز، لا بد من التأكيد بأن هذا النقد ليس
موجها لإجهاض الانتفاضة بقدر ما هو موجها لأجل نجاحها ووصولها بر الأمان
بأقل الخسائر والتكاليف الممكنة، وإن هذا النقد ينطلق أولا وأساسا من فكرة
تقول أن النقد يصب في مصلحة الانتفاضة بغية تصويبها ومنعها من الانحراف عن
أهدافها المتمثلة بالوصول إلى دولة ديمقراطية، بغض النظر عن الطريق المتبع
سواء كان إسقاط النظام راهنا والآن، أم عبر خطة انتقالية يتم الاتفاق
عليها.
وينطلق هذا النقد من فكرة ثانية مفادها أن من لا يتحمل النقد ثائرا لن
يتحمله وهو في السلطة، لأن النقد جزء من الحراك الهادم للاستبداد وأفكاره،
وإذا كانت الثورة تسعى للإطاحة بالاستبداد السياسي فإن النقد يسعى للإطاحة
باستبداد الرأي وبأجنته في لحظة التأسيس كي لا يتغول ويصبح قاعدة يؤسس
عليها لاحقا لبناء استبداد جديد.
وانطلاقا مما سبق سنناقش بعض الأفكار التي نرى أنها تهمين على تفكير
الكثيرين في سورية، وتحتوي الكثير من الأخطاء الشائعة في علم الثورات إن صح
التعبير:
أولا: ثمة اتجاه سائد، ينفي حصول أية أخطاء في
الانتفاضة، رافضا الاعتراف بها وبالتالي معالجتها، وهذا الاتجاه يبرز من
خلال رأيين أحدهما لا يرى فعلا أية أخطاء، بالتالي فهو وعي مفارق يعيش في
مطلق الأفكار، بعيدا عن واقعيتها، لأن أي عمل حقيقي وفق أبسط الأشياء ينشأ
عنه أخطاء، وهي أخطاء مشروعة، وفق مبدأ : من لا يخطئ لا يعمل. والرأي
الثاني يأتي من فكرة تقول بأن كشف أخطاء الانتفاضة يؤدي لاستغلالها
وإضعافها، ولذا لابد من عدم الحديث بها وبالتالي إخفائها وعدم معالجتها
الآن، بانتظار انتصار الانتفاضة حتى نعالجها.
وهذا رأي عقيم، لا يختلف برأيي عما سوقته الدكتاتوريات العربية عبر عقود
حكمها المديد بأن الألوية الآن لمحاربة الخارج أو العدو أو دحض المؤامرة،
وبالتالي فإن من لا يعالج أخطاءه الآن أو يخفيها لن يتمكن من معالجتها
لاحقا، حتى لو توفرت النية السليمة، لأن تراكم الأخطاء سيجعل منها عبئا
ثقيلا مع وجود ملفات كثيرة بحاجة للمعالجة أصلا بعد نجاح الثورات، وهنا قد
تجد الثورات نفسها في هذه الحال أمام استحقاقات كثيرة متراكمة، وبالتالي
تكون تكرر منذ البدء خطأ الدكتاتوريات التي أجلت كل شيء إلى أن انفجر كل
شيء، عدا عن أن إخفاء الأخطاء وعدم معالجتها يؤدي إلى عدم شفافية قد تؤسس
لاستبداد جديد، ولذا من هنا يبدو لي أنه على الانتفاضة منذ اللحظة امتلاك
شجاعة الاعتراف بأخطائها مهما كانت صغيرة ومعالجتها بروحية عالية، خاصة أن
هذه الثورات كما يبدو لي ستأخذ زمنا طويلا حتى تتمكن من حسم الأمور
لصالحها.
ثانيا: تنطلق بعض الآراء، من فكرة مفادها، بأن من لا
يمتلك رأيا حرا لا يمكن القبول برأيه، بمعنى أن قبول الرأي الآخر يتطلب
بيئة حرة، مما يعني أن رأي المؤيدين للأنظمة الاستبدادية لا يمكن الركون له
ولا يمكن اعتباره رأيا، لأنه ناتج بالأساس عن وعي مستلب، وهذا رأي صحيح
وخاطئ في آن، صحيح حين نأخذه كرأي عمومي مطلق وأخلاقي، لأنه من حيث المبدأ
لا يمكن اعتبار من يؤيد القتل أو الاستبداد رأيا فهذا الأمر يستحيل أخلاقيا
لأنه يمهد للقتل ويؤيده، وخاطئ لأن علينا أن نأخذ بعين الاعتبار السياقات
التاريخية التي تشكل فيها هذا الوعي المزيف، حيث عمدت الأنظمة الدكتاتورية
في كل العالم على غسل الوعي وتزييفه بغية إحكام قبضتها، حيث أن الشخص الذي
يؤيد مثلا في سوريا، هو شخص دخل منذ الطفولة في منظمة طلائع البعث، ثم
اتحاد شبيبة الثورة، ثم اتحاد الطلبة وحزب البعث، وفي كل مرحلة كان يتشرب
معلومات وبنى فكرية رافضة للآخر، بنى تجعل من وعيه مستلبا بالكامل، ولكن هو
حقيقة مقتنع بكل ما يقول، مقتنع بتأييده، وبل مقتنع أخلاقيا ( وهنا الطامة
الكبرى) بأحقية السلطة باستخدام العنف ضد المتظاهرين، لأنه يرى فيها
طابورا خامسا ومؤامرة( والمؤامرة تسحق!)، وهنا نحن أمام حالة تراجيدية
علينا التعامل معها بدقة، وفق نفس طويل، إذ لابد من تفكيك بنى الوعي
المزيف، وهذا لا يكون عبر الإقصاء والنبذ، بل عبر الحوار والاحتواء
والاعتراف بحق هؤلاء في التأييد سياسيا، مع محاصرتهم أخلاقيا في عدم السماح
لهم بتأييد القتل والعنف، ريثما يتم تفكيك وعيهم واحتواءهم من جديد في
المنظومات الجديدة التي ستتشكل رويدا رويدا.
ثالثا: هناك مصادرة كبيرة وتخوين يزداد يوما بعد يوم
لكل الآراء التي تقول رأيا آخر لا يتوافق مع الرأي السائد، إلى درجة تردد
الكثير ممن يملكون آراءً يمكن فعلا أن تقدم أفكارا جديدة للخروج من الأزمة
عن الإدلاء بآرائهم خوفا من هذا التخوين، حيث نلحظ هيمنة واضحة لشعار إسقاط
النظام الآن وراهنا عند الكثير من الشارع السوري، مقابل وجود تيارات وآراء
أخرى ترى بأن أسلم طريق هو مرحلة انتقالية تقوم على قاعدة تفكيك النظام
تدريجيا بغية انتقال آمن للسلطة دون مخاضات أو حرب أهلية، وهنا نجد أن هناك
اتهامات كثيرة لكل من لا يقول بالرأي الذي يماثله تحت شعار أن الثورة أو
الشارع هو الذي يقول فقط، وكل ما عداه إلى مزبلة التاريخ، وفي هذا مصادرة
للكثير من الآراء التي تحجم عن إعلان ما تعتقده صوابا خوفا من ردود الفعل،
وفعلا رأيت العديد ممن أحجموا عن المشاركة في مؤتمرات معينة، وممن رفضوا
الجهر بأفكارهم، خوفا من التخوين أو ردود الفعل القاسية التي ستطالهم من
جهات من المفترض تكون كلها في صف واحد الآن.
ولذا ينبغي هنا الاعتراف بأن تلك الأصوات النشاز التي تعتمد التخوين
باسم الانتفاضة هي مسيئة للانتفاضة قبل أي شيء، خاصة أن الثورة جاءت لكنس
الاستبداد، فلا بد لها من قبول كل الآراء واحتوائها والتعامل معها
بديمقراطية رحبة، مهما كان هذا الرأي وفق مبدأ أن حرية التعبير متاحة
للجميع، والرأي يواجه بالرأي والنقد، لا بالسباب والتخوين والعمالة أو بأنه
رأي "يخدم السلطة" أو "يميل لجانبها" أو "يغمز من قناة الثورة"، وفق ما
يسود حاليا في سوريا، من اتهامات يتم تراشقها يمنة وشمالا على ساحات
الفيسبوك خصوصا.
ولعل هذا الإقصاء الثوروي ناجم عن الثقافة الواحدية التي تشربها
المعارضون والمؤيدون، لأن الجميع أبناء ثقافات وتيارات منشقة بالأساس عن
جذر واحدي إقصائي، حيث أن كل هذه التيارات التي تنادي بالديمقراطية وتطالب
بها، لم تمارس الديمقراطية يوما، بل إن تاريخ مطالبتها بالديمقراطية قصير
جدا، مما يعني أن ممارستها للديمقراطية قاصرة وتشوبها العديد من النواقص،
وبالتالي على التيارات التي تشكل الانتفاضة أن تدرك أن الثورة لن تكتمل إذا
اكتفت بثورتها على النظم، بل لابد أن تكتمل بثورتها على ذاتها ومنظومات
وعيها التي لا تزال تحمل الكثير من أمراض الاستبداد، لأنها ولدت في حضنه
وهي تحمل بعض تشوهاته.
أخيرا، نستطيع تفهم أن تعمل الثورات كإجراء تكتيكي على إخفاء بعض
أخطائها ولكن شرط أن يكون هذا بغية إصلاحها لا الاستمرار في التعامي عنها
وتأجيلها أو تبريرها، خاصة أن الانتفاضة لا تمتلك غير تفوقها الأخلاقي على
الأنظمة المستبدة، فإن سقطت في هذا المطب ستفقد شفافيتها والكثير من
مصداقيتها بعض انكشاف هذه الأخطاء؟
ولعل أهم مجال يمكن للانتفاضة أن تمتحن فيه تفوقها الأخلاقي، هو قبولها
بالنقد وترحيبها بكل ما يسلط الضوء على أخطائها بصدر رحب، عندئذ ستكون
الانتفاضة قطعت مع ثقافة الاستبداد وبدأت الخطوة الأولى على الطريق الطويل
لإزالة الآليات المنتجة للاستبداد.