فيما يخص المسألة الطائفية التي
تمزق المشرق العربي كالسرطان أودّ بداية أن أطرح الأسئلة التالية:
هل كانت هذه الحركات الأصوليّة المتخلفة ستسيطر على الشارع لو انه كان
يوجد في الساحة العربية فكر جديد وقوي ومسؤول عن الإسلام وتراثه الطويل
العريض؟ ماذا يفعل مثقفو الحداثة العربية؟ ولماذا لم يقوموا بواجبهم مثلما
فعل فلاسفة التنوير في أوروبا عندما تصدوا بكل حزم للأصوليّة المسيحية
والنزعات الطائفية والمذهبية؟ هناك فراغ كبير في الساحة وقد عرف مثقفو
الأصوليّة كيف يملئونه. لا توجد أي قراءة تنويرية ذات مصداقية للتراث
الإسلامي في اللغة العربية: أقصد قراءة قادرة على أن تتصدى لقراءة السلفيين
والتقليديين عموما. والتغيير يبتدئ من هنا: قراءة مقابل قراءة، فكر مقابل
فكر، حجة مقابل حجة، الخ. هذا ما فهمته من خلال ترجمة أركون والتعليق عليه
لمدة ثلاثين سنة متواصلة. هو يعاني التراث من الداخل لا من الخارج. هو لا
يقول لك: أنا ملحد، ماركسي، لينيني، متحرر من التراث سلفا! أصلا الذين
يقولون ذلك معظمهم سقط في حبائل الأصوليّة ما أن تحولت إلى موجة طاغية.
وهذا اكبر دليل على أن التحرر لا يكون إلا من الداخل ومن خلال المعاناة
ودفع الثمن. هذه العملية الهائلة المتمثلة بمجابهة التراث حرفا حرفا ونصا
نصا وعقيدة عقيدة هي التي تؤدي إلى التحرير الحقيقي. ولكن المثقفين العرب
أو بعضهم يزعمون أن ذلك غير ضروري وان التراث لا يمثل مشكلة وأننا نخلق
مشكلة مفتعلة هنا وان الإسلام غير المسيحية ولا يعرف التعصب ومحاكم التفتيش
الخ. كيف يمكن أن يحصل التغيير في مثل هذا الجو؟ هل هذا موقف مسؤول بعد كل
ما شهدناه من حروب أهلية ومجازر طائفية؟ كيف يمكن أن ينبثق مفهوم المواطنة
بالمعنى الحديث للكلمة إذا كان قسم من المجتمع يكفّر قسمه الآخر ويشكل عنه
صورة مرعبة مليئة بالأحكام السلبية المسبقة؟ اذهب إلى الأوساط الإسلامية
لكي ترى الصورة التي يشكلونها عن المسيحيين العرب. واذهب إلى أوساط
المسيحيين العرب لكي ترى الصورة التي يشكلونها عن المسلمين العرب؟ واذهب
إلى أوساط الشيعة لكي ترى صورة السنة لديهم أو العكس. الخ. هناك مخيال مرعب
لدى كل طائفة عن الطائفة الأخرى. هناك قصص وتهاويل وأساطير..وبالطبع دائما
نحن على حق والآخرون على ضلال! هذا المخيال الموروث عن العصور الوسطى هو
الذي ينبغي تفكيكه ودراسته تمهيدا لتشكيل الوحدة الوطنية على أسس جديدة
راسخة. كيف يمكن بناء الحداثة على تراكمات الماضي مع تركها كما هي ورفض
معاركتها أو مساءلتها أو تفكيكها؟ هيغل يقول لنا بأنه لا يمكن تجاوز أي شيء
إلا بعد مناطحته ومعاناته والمرور فيه وأكاد أقول الاحتراق فيه! لا يمكن
أن تتجاوز التراث إلا من خلال التراث. لا يمكن أن تتجاوز الطائفية إلا من
خلال تفكيك الفكر الديني الذي يخلع عليها المشروعية الإلهية. هذه المعركة
يرفض المثقفون العرب المحافظون الانخراط فيها، وفي ذات الوقت يغطون أنفسهم
بقشرة رقيقة من الحداثة السطحية الوهمية الخادعة. بل ويملؤون الجو زعيقا
ونعيقا عن الديمقراطية وحقوق الإنسان! ولكن أي إنسان وأية ديمقراطية؟ وهل
يمكن لمن يتحالف مع التنظيمات الأصوليّة أن يتحدث باسم الديمقراطية وحقوق
الإنسان؟!
متى ندرك، نحن المثقفين العرب، إن ما كان سائدا على مدار القرون الوسطى
الإقطاعية الطائفية لا يمكن أن يستمر إلى الأبد؟ متى ندرك أن العالم من
حولنا يتغير وان البشر سواسية سواء أكانوا متدينين أم غير متدينين، أقلية
أم أكثرية؟ متى ندرك أن الإنسان قيمة مقدسة بحد ذاته بغض النظر عن أصله
وفصله أو دينه وطائفته ومذهبه؟ متى ندرك انه لا يوجد مواطن درجة أولى
ومواطن درجة ثانية وربما ثالثة في ظل الحداثة والديمقراطية والتصور الحديث
للإنسان؟ و باختصار شديد: متى نفهم المغزى الحقيقي والعميق لثورة الأنوار
الفلسفية؟ متى نعي أن النظام اللاهوتي القروسطي المسيطر تاريخيا على العالم
العربي سوف يهتز في العمق ويتفكك وينهار حتى ولو كان عمره ألف سنة أو لان
عمره ألف سنة؟ متى ندرك أن الحداثة الكونية أصبحت تحاصرنا من كل الجهات؟
متى ندرك أن التغيير لن يشمل هذه المرة فقط السطح: أي الأنظمة السياسية
السائدة، وإنما أيضا المعارضات الأصوليّة والثوابت التاريخية "المقدسة"
ذاتها؟
هل صحيح أن مثقفي الأقليات هم وحدهم القلقون الذين يريدون تغيير الأمور
في العمق وتفكيك الدين والمقدسات؟ لا أعرف، لا أعتقد. باستثناء سبينوزا
الذي خرج على طائفته وكل الطوائف الأخرى دفعة واحدة وفكك العقيدة اليهودية-
المسيحية في العمق لا أجد أمثلة كثيرة. في فرنسا كانوا معظمهم من
الأكثرية: ديكارت، فولتير، ديدرو، مونتسكيو، كوندورسيه، رينان، اوغست كونت،
فيكتور هيغو، جول فيري، وعشرات غيرهم..كلهم كانوا ينتمون إلى الأكثرية
الكاثوليكية التي تمثل تسعين بالمائة من الشعب الفرنسي على الأقل. وكلهم
انخرطوا في معركة راديكالية ضد الأصوليّة المسيحية والبابوات ورجال الدين.
وكلهم فككوا الطائفية والمذهبية واشتبكوا معها في حرب ضروس، في مواجهة
مفتوحة. ولم يقولوا كما يفعل الكثير من المثقفين العرب اليوم: حذار انتبه!
هذا تراث الآباء والأجداد، هذه ثوابت الأمة ومقدساتها وينبغي عدم المس بها!
لو فعلوا ذلك لما حصلت أصلا أي حداثة أو نهضة في أوروبا. على العكس لقد
تحملوا مسؤوليتهم التاريخية بخلاف المثقفين العرب وانخرطوا في المعركة
التفكيكية- التحريرية للتراث حتى النخاع. وهي المعركة التي أدت إلى
العلمانية لاحقا وفصل الكنيسة عن الدولة وتأسيس المواطنة بالمعنى الحديث
للكلمة. وعندئذ لم يعد هناك أي فرق بين الأقلوي البروتستانتي الذي يمثل
خمسة بالمائة من الشعب الفرنسي والكاثوليكي الذي يمثل تسعين بالمائة من
الشعب. بل وحتى اليهودي الخارج كليا على التراث المسيحي أصبح مواطنا بعد
الثورة الفرنسية مثله في ذلك مثل الآخرين: له نفس الحقوق وعليه نفس
الواجبات. والآن المسلم الفرنسي أصبح يتمتع بذات الحقوق في ظل النظام
العلماني. هذا هو النظام الذي نحلم به بالنسبة لمجتمعاتنا التي تمزقها
الانقسامات الدينية والمذهبية وتكاد تدخلها في حروب أهلية مدمرة. ولكن
ينبغي أن نكون واقعيين وإلا نطلب المستحيل: هذا النظام لا يمكن أن يتحقق
الآن ولا غدا، وإنما بعد غد. لماذا؟ لان تفكيك تراكمات الماضي أو عملية
الإطاحة بمشروعيته ومعصوميته لم تحصل بعد. وبالتالي فهناك عملية تدمير
سلبية ينبغي أن تسبق عملية البناء الايجابية. ولا بد دون الشهد من ابر
النحل. رحنا في داهية! القصة طويلة يا شباب!
في ألمانيا أيضا كانوا من الأكثرية الطائفية أولئك الذين زلزلوا الثوابت
المسيحية والمعتقدات المقدسة وغيروا وجه العصور الحديثة: كانط، فيخته،
هيغل، شيلنغ، فويرباخ، نيتشه..وحتى ماركس يمكن اعتباره إذا شئنا من
الأكثرية لان عائلته كانت قد تخلت عن اليهودية واعتنقت دين الأغلبية: أي
المسيحية في مذهبها البروتستانتي. وهو المذهب الغالب في ألمانيا، بلد لوثر،
على عكس فرنسا الكاثوليكية. ينبغي العلم انه في ألمانيا وشمال أوروبا فان
المسيحي الحقيقي هو المسيحي البروتستانتي. انه الفرقة الناجية! وعندما تذكر
اسم البابا الكاثوليكي أمامهم كانوا يبصقون عليه حتى أمد قريب..
في إحدى زياراتي لهولندا قال لي أحدهم: حتى إلى ما قبل ثلاثين سنة كانت
المذهبية لا تزال موجودة نسبيا في البلاد. وكان الكاثوليكي يذهب أحيانا إلى
مسافة بعيدة لكي يشتري حوائجه من عند تاجر كاثوليكي مثله في حين أن جاره
البروتستانتي يملك نفس المتجر. وقد فوجئت بهذا الخبر لان هولندا من أكثر
بلدان أوروبا تسامحا وانفتاحا وذلك منذ أيام سبينوزا في القرن السابع عشر.
ومعلوم أن ديكارت هرب من فرنسا الأصوليّة المتعصبة إلى هناك لكي يفكر ويكتب
بحرية. وفيها عاش معظم حياته. وكذلك فعل المفكر البروتستانتي بيير بايل
وعشرات المفكرين الآخرين. علام يدل ذلك؟ على أن الحزازيات المذهبية رازحة،
راسخة، مشرشة في النفوس ويصعب اقتلاعها. ولكنها اقتلعت أخيرا في أوروبا
المستنيرة الحرة الديمقراطية التي تمثل جنة الله على وجه الأرض.
هذا عن الغرب المنفتح المتحرر الذي حل عقده ومشاكله الطائفية.
وأسس المواطنة على قاعدة مشروعية جديدة غير المشروعية اللاهوتية التي
كانت سائدة سابقا: أقصد مشروعية حقوق الإنسان ودولة القانون والمؤسسات وكل
الفلسفة السياسية الحديثة المضادة للقانون المقدس أو الشريعة المسيحية.
أما عنا نحن فيا ويل الويل!
أحيانا يخيل إلي أن كل شيء مسدود في هذا الشرق العربي: انسداد في
السياسة، انسداد في اللاهوت والفقه القديم، انسداد في الطوائف والمذاهب،
انسداد في الفكر العربي، انسداد في الآفاق. والأخطر من كل ذلك انسداداتي
الشخصية المتفاقمة! ليس غريبا إذن أن أكون قد أتحفتكم بنظرية "الانسداد
التاريخي". الوعاء ينضح بما فيه. سامحونا! كما تقول إحداهن..
أعتقد أن الحداثة السياسية العربية المقبلة سوف تكون محصلة لشيئين:
أولهما تفكيك الثوابت الموروثة التي لا تزال تتخذ طابع القداسة والمعصومية
والرهبة الإرهابية. لقد آن الأوان لتفكيكها من خلال القيام بالنقد
الراديكالي للعقل الإسلامي التقليدي. وهذا ما أفعله من خلال ترجمات أركون.
وثانيهما الاطلاع على نفس الشيء الذي حصل سابقا في أوروبا وذلك من خلال
القراءة المعمقة لفلاسفة التنوير الذين فككوا مقولات ومعصوميات العقل
اللاهوتي المسيحي. الحداثة العربية لا يمكن أن تنهض إلا على أنقاض هذا
التفكيك وتلك الأطلال الدارسة والخرائب. الحداثة ليست لصقا ميكانيكيا لبنية
جديدة على بنية قديمة نتركها كما هي على حالها دون أي تغيير ودون أن نشتبك
معها. هذا تصور ساذج ولا تاريخي عن الحداثة. لماذا؟ لأنها عندئذ، أي
البنية القديمة، سوف ترتد هي علينا وتشتبك معنا وتكون انتكاسة الحداثة كما
حصل سابقا أكثر من مرة بسبب عدم جرأة المفكرين العرب على الذهاب إلى نهاية
الشوط، أو بسبب توقفهم في منتصف الطريق، أو بسبب عدم قدرتهم الفلسفية على
تفكيك الماضي الموروث. هناك ثمن باهظ ينبغي دفعه أثناء عملية الانتقال من
القدامة إلى الحداثة. هناك نزيف داخلي سوف يحصل وتضحية بالكثير من
اليقينيات المطلقة والمعصوميات. هناك عملية تكنيس وتعزيل هائلة لا مثيل لها
تنتظرنا. ينبغي أن نعاني "آلام الانفصال" كما يقول هيغل: أقصد الانفصال عن
الذات التراثية المتغلغلة في عروقنا ودمائنا. وينبغي أن نقيم عليها
الحداد.