عرجت في المقالة السابقة حول الثقوب السوداء التي تلتهم عافية الأمة العربية وتأخذها إلى فشل بعد فشل على ثقوب سوداء ثلاثة هي الفساد، وحكم الفرد، وغياب العدالة والمساواة من منظومتنا الفكرية ومواقفنا العملية كسلطة وكمواطنين. واستكمل الحديث اليوم عن ثقبين أسودين يلعبان دورا خطيرا في حياتنا العامة والخاصة هما: الاستعصاء الوحدوي الناجم عن سياسات ومصالح قوى تدعم التجزئة العربية وتتعيش عليها وغياب الفكر والسلوك المدنيين من حياتنا العامة والشخصية.
ـ عندما انفك عرب المشرق عن تركيا كانوا يعتقدون أن دولة العرب الواحدة الموحدة هي البديل الحتمي لسلطنة آل عثمان وأنهم سيقيمونها بمجرد أن يتحرروا من حكمها فلا خوف من تقسيم المشرق العربي أو لقيام دول مجزأة فيه بل ذهاب مباشر إلى وحدة العرب التي يعمل لها الشريف حسين وقامت الثورة العربية من أجلها.
صحيح أن مصير الدولة العربية العتيدة لم يكن واضحا وأن مسائل مهمة تتصل بحدودها وولاياتها وحكامها لم تكن قد حسمت بعد إلا أن الإصرار على إقامتها كان كبيرا لذلك آمن القوم أنه سيتكفل بتحقيقها ضمن الحدود والمناطق التي لا مفر من أن تقوم فيها لتحافظ على وحدة المشرق العربي وتضمن استقلاله.
بعد الحرب وطرد العثمانيين اتضح أن هذه التوقعات لم تكن صحيحة وأن هناك اتفاقا بريطانيا / فرنسيا سريا على تقاسم ممتلكات الدولة العثمانية المشرقية اسمه اتفاق سايكس / بيكو قبل القادة السياسيون الأمر يومئذ بعد احتجاج متذمر وقالوا بجواز قيام دول وطنية جزئية تمهد الأرض لقيام الدولة الموحدة مباشرة بعد حصولها على استقلالها الذي لن يتأخرما دام الوجود البريطاني / الفرنسي في المشرق يأخذ صورة انتداب مؤقت يمارس تحت إشراف هيئة دولية هي عصبة الأمم وليس استعمارا تمارسه دولة واحدة خارج أي إطار قانوني ويمكن أن يستمر لفترة طويلة.
لم تذب الدولة التي ظهرت في الأقاليم المشرقية ونالت استقلالها بعد فترة قصيرة حقا. ولم يقم كيان عربي موحد لأن الدولة لم تكن وطنية بل كانت دولة قطرية لم تعتبر نفسها كيانا انتقاليا إلى الوحدة وعملت كقوة احتجاز لها فسهرت نخبتها الحاكمة على توطيد أركانها وتعزيز طابعها التجزيئي وإضعاف نوازع الوحدة فيها. وكان الشعب خلال مرحلة الانتداب، قد قاتل من أجل الحصول على دولة مستقلة فألف الدولة الجديدة واعتبرتها أغلبيته دولة شرعية ووطنية ما لبثت أن خافت عليها وزادت من تمسكها بها بعد كارثة فلسطين وسقوطها في يد الصهاينة مع أنها أبدت ضعفا فاضحا خلال الصراع كان يجب أن يقنع نخبها السياسية بعجزها عن حماية نفسها وبأنها ليست الأداة المطلوبة لنهضة وتقدم العرب إلا أن ما حدث كان عكس هذا وسارعت النخب إلى التمسك بأهمية الحفاظ على الدولة: الأداة الوحيدة القادرة على الدفاع عن أمة العرب المهددة بأفدح الأخطار.
ميزت في ما سبق من قول بين الدولة الوطنية والدولة القطرية فالأولى دولة شعبية منفتحة على الديمقراطية والوحدة والعدالة الاجتماعية رغم أنها تقوم أول الأمر في قطر واحد. بكلام آخر: إن الطابع الوطني لهذه الدولة يحد من طابعها القطري ويكبحه ويضعفه.
أما الدولة القطرية فهي عكس الدولة الوطنية: دولة غير شعبية أسماها ميشيل عفلق ذات يوم 'دولة التخت (السرير) والمزرعة '، تزداد بمرور الوقت وتوطد أركانها انغلاقا في وجه النزوع الوحدوي وتزمتا حياله وتتحول إلى دولة فئوية. ولعله من غير الضروري القول إن دولة ما بعد الاستقلال السورية التي عرفت حركة شعبية واسعة ومسيسة كانت أكثر دول العرب ميلا إلى الوحدة فليس من قبيل المصادفة أن الحركة الشعبية التي عينت طابع الدولة الوطني تمكنت من تحقيق أول وحدة سياسية خلال ألف عام من التاريخ العربي وأن الدولة الوطنية استجابت للحراك الشعبي واندمجت مع مصر في الجمهورية العربية المتحدة بعد أن كانت قد أقرت مجموعة كبيرة من القوانين الخاصة بتنمية الحريات العامة والخاصة وبالعدالة الاجتماعية.
مع إسقاط الوحدة تراجع حتى الزوال طابع الدولة العربية الوطني وبرز عوضا عنه طابعها القطري الذي تضخم واتخذ أبعادا خطيرة لعبت دورا كبيرا في فشل نهضة العرب الحديثة الذي كان شاملا طال كل مجال من مجالات وجودهم السياسي والاجتماعي والثقافي والعسكري... الخ. ولعله من أعظم التطورات خطورة أن هذه الدولة ما لبثت أن انقلبت إلى دولة سلطوية أو 'سلطانية' حسب مصطلح الياس مرقص فالسلطوية هي هنا ذروة القطرية وعلامة انحطاطها الفارقة وهي نفي الشعب ونوازعه الديمقراطية والعدالية والوحدوية فلا عجب أن دفعت بنا إلى هاوية سحيقة لاعتقادها أن وجود الأمة في الهاوية هو سبيل نجاة السلطوية الوحيد.
هل يجوز أن نتعايش مع ثقب القطرية / السلطوية الأسود الذي التهم عافية الأمة وقوض قدرتها وأضعف استقلالها ودولها؟. أعتقد أن مسألة الوحدة العربية النظرية التي لم تعد للاسف الشديد - مطروحة في أيامنا هي مسألة هيكلية لن تقوم لنا قائمة دون إيجاد معادل موضوعي واقعي لها هو وحدة العرب التي قد لا تقوم على أنقاض دولهم خاصة إن كانت دولا وطنية بل تعني تحويل دولهم القطرية والسلطوية إلى دول وطنية تقربهم من الوحدة بقدر ما يتعاظم طابعها الشعبي وواقعها العدالي. فهل هذا مستحيل في الظرف العربي الراهن؟. وهل يجوز أن نيأس من إمكانية تحقيقه، ولو بالتدريج ضد دولة تسلطية / قطرية هي دولة تجزئة متفاقمة وخراب شامل؟.
ـ ثمة ثقب أسود آخر يلتهم عافيتنا هو افتقارنا مؤسسات وأفرادا إلى فكر وسلوك مدني وغرقنا في متاهات الأيديولوجيا والتعصب والشك المتبادل ووضع مصالحنا الخاصة والشخصية فوق مصالح المجتمع والدولة ومواطنينا وجعلها معيار سلوكنا وفكرنا، وميلنا إلى الكذب على أنفسنا وعلى غيرنا ونفاقنا وتأرجحنا بين النقيض والنقيض ونزوعنا إلى حجب الحقيقة عن أعيننا وأعين غيرنا وجبننا وخوفنا وقبول كل واحد منا الانقسام إلى شخصين متناقضين: واحد له وآخر للسلطة والمجتمع يتعايشان فيه رغم ما بينهما من تناقض. نحن لا نؤمن بقواعد ثابتة تنظم فكرنا وسلوكنا وتحدد مواقفنا تنطبق علينا وعلى غيرنا ونريد قواعد تحابينا وأخرى تظلم أو تتجاهل الآخرين ثم لا نتوقف عن الشكوى من ازدواجية معايير الآخرين والدول الكبرى في التعامل معنا. ونحن لا نعتقد أن لغيرنا الحقوق ذاتها التي لنا ولا نتردد عن خداع أي شخص قد يحتاج إلينا أو يكون على تماس معنا ولو كان صديقا أو شقيقا ولا نراعي في سلوكنا ميزان العدالة الذي يلزمنا بالنظر إلى مصالح الآخرين نظرتنا إلى مصالحنا وباحترام أشخاصهم لاقتناعنا أنها معادلة لأشخاصنا.
إن فكرنا وسلوكنا غير المدنيين هما ثقب أسود قاتل يتجلى ضرره أكثر ما يتجلى في علاقات الناس بعضهم مع بعض وعلاقات السلطة مع الشعب التي تقوم على انتهاك القانون والدستور واحتقار الإنسان مع أنه رأس المال الوحيد الذي لا يمكن تعويضه إن ضاع أو تبدد واعتمادها العنف وسيلة رئيسة للتعامل مع رعاياها حتى في أبسط الأشياء وأتفه القضايا.
الثلاثاء أكتوبر 27, 2009 10:26 am من طرف free men