أولا: ضرورة ' التجديد المنهجي' للخطاب العربي..
قد يستشعر القارئ العربي الناظر في النصوص التأسيسية العربية النهضوية الحديثة بمختلف أنواع خطاباتها وتعدد مقولاتها وأسمائها وتباين مرجعياتها...بأنه خطاب مكرور لا جديد فيه ،ولا اجتهاد. والحال أن رسائل محمد عبده واعمال الأفغاني وكتابات طه حسين وبيانات احمد لطفي السيد..لا تأخذ جدتها وفعالية منطوقها ومفهومها إلا من خلال ما سماه الكاتب التونسي محمد الحداد بـ 'التجديد المنهجي'.
ليس غرضنا هنا الوقوف عند تفاصيل هذه الرؤية المنهجية في الفكر العربي بقدر ما نشير ،إشارات طفيفة، إلى دور المنهج في رفع مآزق التكرار والاجترار في إشكالات الخطاب النهضوي العربي بجميع أطيافه والوانه ...وهذا ما سنشرع في انجازه، في مناسبة قادمة، بانتخاب بعض نماذج من الفكر العربي المعاصر لإبراز دور الرؤية والمنهج في تجديد التساؤلات وتجديد القراءة للتراث العربي النهضوي..والخروج عن النظرة النمطية لأصناف الخطاب العربي السائد.
اعلم ان 'التجديد المنهجي'،هو الطريق المضيء ،كما قلنا، لرفع معضلة التكرار في الفكر العربي القارئ لنصوص محمد عبده والأفغاني واحمد الشدياق وفرح انطون وطه حسين وعلي عبد الرازق...
وهذا ماعبر عنه د. بلقزيز: 'أمكننا ان نقول ان اشكالية الوعي العربي (الحديث: في القرن التاسع عشر) هي عينها اشكالية اليوم في لحظته المعاصرة: إنها إشكالية النهضة او التقدم'(صفحة 80) .
ان هذه الوضعية الابيستيمولوجية المتراكمة.. قد جعلت القارئ العربي اليوم يشعر، وكأن الفكر العربي، في دوائر مكرورة: لمفاهيم النهضة العربية الحديثة من
التمدن والتقدم والتنوير والليبرالية...دون التفطن إلى ان عودة د. الجابري للشيخ محمد عبده ليست مطلقا هي عودة د.عبد الله العروي ولا هي قراءة بلقزيز ولا مقاربة رضوان السيد..إذا،ما هي منطلقات التباين والاختلاف الحاصل بين هؤلاء المفكرين والباحثين!!؟.
وبهذا فان الأمر لا يعدو ان يكون الاختلاف في الرؤية والمنهج.. اذ ان عودة عبدالله العروي هي عودة التاريخاني الباحث عن لحظة تجسيد للفكر العربي ومفارقاته..أما عودة الجابري فهي عودة الناقد الابيستيملوجي لآليات المماثلة والقياس لدى الشيخ محمد عبده..
ومن ثمة، فان صدور مجموعة من النصوص والكتابات النقدية العربية..بدءا بـ 'مفهوم الحرية' لعبدالله العروي و'الخطاب العربي المعاصر' لمحمد عابد الجابري وكتاب 'الفكر العربي في عصر النهضة' لا لبر حوراني..مرورا بـ'الإصلاحية العربية والدولة الوطنية' لعلي امليل ونص ' اشكالية المرجع في الفكر العربي المعاصر' لعبد الاله بلقزيز و'محمد عبده: قراءة جديدة في خطاب الإصلاح ' لمحمد الحداد، وغيرها من مساهمات قوية لرضوان السيد وعبد الرزاق عيد وحسن حنفي وكمال عبد اللطيف ومحمد عمارة... إنما هي تعبيرات متناقضة ومتضادة من حيث الرؤية المنهجية المستحكمة في آليات تأويل وقراءة الفكر النهضوي العربي..
ولعل كتاب: 'العرب والحداثة' لعبد الاله بلقزيز(2007) من المقاربات الجادة في بناء الخطاب العربي المعاصر ومحاولة انتشاله من براثين الانتقائية والتلفيقية..بل ان تأليف هذا الكتاب ـ في اعتقادي- هو نابع من ضرورة إعادة ترتيب مكونات الخطاب العربي المعاصر وفق 'التحقيب الإشكالي'. 'والتحقيب التاريخي'. وهذه رؤية منهجية فعالة في ربط الإشكالات بأفق تفكير رواد النهضة والإصلاح..
ثانيا: مدارات الفكر العربي: في الانقطاع ..والتوتر الإشكالي..
لا شك في أن قراءة أي نص من النصوص الفكرية العربية المعاصرة... هي، في واقع الأمر، إعادة إنتاج قراءة جديدة أي كاشفة لثوابث النص ومتغيراته، فاحصة لرؤيته ومنهجه، ناقدة لعرضه وتركيبه. ومن ثم فإن نص: 'العرب والحداثة' لا تستوي قراءته إلا من خلال استحضار تناصه مع نصوص الكاتب الأخرى، على سبيل المثال لا الحصر، كتاب: 'إشكالية المرجع في الفكر العربي المعاصر '(1992) وكتاب: 'الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر' (2004) و 'تكوين المجال السياسي الإسلامي: النبوة والسياسة'(2005)... بمعني تأطير نص 'العرب والحداثة' كلحظة من لحظات تفكير الكاتب في مشروع إعادة بناء الفكر العربي المعاصر.
ولما كان الأمر بالنسبة لنا في هذه الورقة هو عرض ومناقشة أهم مفاصل كتاب 'العرب والحداثة'، فإننا نظل واعين بهذا الخيط الناظم الثاوي وراء نص.
لقد كانت خطاطة الكتاب على مستوى الشكل والصورة كما يلي:
أما المستوى الأول: فهو ذو منحى تركيبي نظري ،تتخلله لحظات نقدية قوية بلغة جدلية تزاوج ما بين تفكيك الخطاب وبنيته المفاهيمية وما بين وصله بتحولات التاريخ والمجتمع..
أما المستوى الثاني من الكتاب فهو المنحى التشخيصي للنماذج ،اعني الدفع بالمزاوجة ما بين النظري و'التطبيقي' والتي تطرح مآزق الانطلاق من النصي إلى التنظير،أم من الاشتغال التجريبي إلى النصي .
شرع د.بلقزيز بتفكيك الخطاب العربي..بآليات الانقطاع والتوتر والانفصال والتناقض والجدل...فضلا عن استثمار مقولات ذات حمولة تاريخية وإيديولوجية وفكرية قوية: النكسة والنهضة والآخر والذات والايديولوجيا والحداثة والحرية والدستور والتربية...وهذه رؤية تستند على خلفيات فلسفية وإيديولوجية رفيعة ومنها نسبية المعرفة وعدم خطية التاريخ (التواريخ) والهوية القومية..
أما مسألة المنهج فيتسم بالملاءمة وفق طبيعة الموضوعات التي يشتغل عليها د.بلقزيز، ويؤسسها في سياق انجازه للكتاب. وتارة تكون الفعالية لاستقراء الظواهر(نكسة ثقافية أولى بسماتها الأربع) وربط كل مفهوم أو ظاهرة بالسياق السوسيولوجي أو بعبارة أدق سوسيولوجي المعرفة.
وتارة يستثمر الكاتب منطق الجدلية، وقد يرعى انتباهنا وجود قانون التطور أو ما سماه بلقزيز التفاوت أي من 'الكم إلى الكيف'. وذلك ما نقف عنده من مشاهد تحول خطاب محمد رشيد رضا من التنوير الى الارتداد وهذا تحول نوعي لافت للانتباه.
أو الجدلية المركبة ما بين الذات والآخر،وما بين الأنا ذاتها في تمثلاتها للغرب..أو بين الغرب الاستعماري والغرب التنويري العقلاني.. وهذا ما سماه بلقزيز بـ 'جدلية من الخارج' و'جدلية من الداخل'..
إن مفهوم الأصالة عند الكاتب هو أداة للتميز ما بين دائرة الفكر وهي أصالة النهضويين في التأقلم مع 'فكرة التغيير الثقافي والاجتماعي وخاض غمارها من دون تردد مدافعا عن العقل والعلم والحرية والعدل والدستور في مواجهة الانحطاط المستمر!' (صفحة15)،وما بين دائرة الايديولوجيا التي هي التعبير، عن مفهوم الانقطاع ـ لا الصيرورة - ويظهر ذلك مع محمد رشيد رضا الذي هو إيديولوجيا 'إدبار وممانعة '(صفحة18). ومن هنا عرف الفكر الإصلاحي العربي بتحولات كيفية من خطاب إلى آخر مفضية الى مفارقات لا تاريخية ومذهبية..(صفحة24).
أما مفهوم الحداثة فيكاد يكون عند بلقزيز كأداة كاشفة للمفارقة التاريخية ما بين الذات والآخر وما بين اعتبار الحداثة - ذات طبعة عربية- المعيار لقياس قوة هذا الخطاب أو ذاك..أو توصيف لحقبة زمنية / تاريخية معينة.
وعلى هذا فلا تنبغي مواكبة الحداثة الأوروبية مواكبة المقلد التابع وإنما مواكبة الناقد المبدع. وهذا يعني أن نقرأ الحداثة وفق المنظور العربي وتطوره التاريخي (صفحة 26 )، إذ أن 'مقدمات النهضة الثقافية الإسلامية ما أمكن أمرها إلا في سياق
انفتاح المسلمين على الثقافات الخارجية: الفارسية واليونانية والهيلينستية عموما'
(صفحة 36). وبالتالي،فان المنطلق الحقيقي لهذه الرؤية هو الدفاع عن الوجود العربي وثقافته وخصوصيته ولغته بدلا من دعوى الانقطاع الى الحداثة وكونيتها
..التي لا يجوز جحد كينونته وكيانه الفكري والتاريخي والنهضوي بجرة قلم باهت أو تحت شعار زائف: وحدة الفكر الكوني والانسانوي...
وهكذا فسياق الحداثة العربية هو سياق محنة وعنف..فمرحلة دخول الحداثة في الفكر العربي هي مرحلة التوسع الاستعماري..لذلك كانت لهذه الضغوطات الخارجية عوامل أساسية في حصول التوتر الإشكالي في خطابات الإصلاحية والتنويرية..التوتر بين الممانعات الثقافية المختلفة الشرعية..بين منكفئ على الذات لحمايتها والحفاظ عليها من متغيرات جذرية خطرة، وبين متزعم للحداثة ودعوة رد 'مصر' الى مرجعها الأصيل أي أوروبا المدنية.. فحصل 'التراجع الدراماتيكي لفكرة النهضة' (صفحة 38). وذيوع القمع الفكري لكل من انتصر للفكر الحداثي(طه حسين..وعلي عبد الرازق..).وهذه المرحلة هي: 'النكسة الثقافية الأولى'.
في حين أن النكسة الثانية، حسب كلام بلقزيز، هي مرحلة تحول' الوعي العربي من طرح اشكالية النهضة الى اشكالية الثورة '(صفحة 38 و 39). أما الحداثة من حيث هي المعيار للتوصيف الحدث التاريخي، هزيمة حزيران ( يونيو ) 1967، وقيام الثورة الايرانيةالاسلامية1979 ..
ومن المعلوم أن بناء خطاب تنويري عربي ليس محكوما فحسب، بالشرط النظري المعرفي من قبل د.بلقزيز بقدرما يكون للحدث التاريخي الداخلي او العامل الخارجي من الأدوار الحاسمة في خرم بنية الفكر وإحداث رجة عنيفة في المجتمع.
وحيث ان هذه المعطيات التاريخية والفكرية في اطار العلاقة المركبة بين الذات والآخر فان مصائر الخطاب العربي هي علامات التناقض والتوترالاشكالي، بين انسجام الفكر وتحولات المجتمع. لذلك فان هذه التناقضات لا تنسحب من المنظومة الاصلاحية والنهضوية بصورة تامة، بل ان مفهوم الأيديولوجي هو الحامل لتناقضات المجتمع وصدى الصراعات الطاحنة ما بين دعاة الاصالة والتغريب. وهذا ماعبر عنه د.بلقزيز بالقمع الفكري (علي عبد الرازق..) وان الليبرالية ليست لها صلة بالتاريخ' العربي... والجدير بنا ان نحيل الى د.العروي
الذي شغلته هذه المسألة ، أعني ان عدم انسجام فكر محمد عبده مع ذاته،أدى به الى مفارقة.(راجع مفهوم العقل (1996)/القسم الأول: الفصل الأول والفصل الثاني).
والمتأتي من ذلك، 'التناقض التكويني' بين الذات والآخر.انها، كما يقول بلقزيز 'علاقة مركبة تقوم الجدلية بين حديها عن جدلية تأسيسية داخل كل حد منهما
الى حيث لا يكون ثمة من سبيل الى فهم الجدلية الخارجية الا من خلال تلك الجدلية الداخلية التأسيسية أو المؤسسة ذلك أن في كل أنا آخر، وفي كل آخر (أنا) او صدى
للأنا'(صفحة 51 و 52).
فلما كان خطاب الأصالة هو خطاب التبجيل النرجسي للذات، وان خطاب العلمنة والليبرالية خطاب المدنية والتنوير والتحرر..فإنهما معا يقعان في مطب الحذف والإضمار...وللامفكر فيه..من حيث حركية اللغة وتشكلات الخطاب ( وغلبة معنى على آخر...) في الفكر النهضوي كما يقول محمد الحداد.
والحال أن 'الآخر هو هذا وذاك في الوقت نفسه ولا يقبل التجزئة ..' (صفحة 49 و 50).
وقد عبر العروي عن تلك المفارقة بأن 'الحداثة لم تظهر دفعة واحدة، فهي لم تكن واعية دائما بتلازم مكوناتها في نفس العصر وفي نفس المكان ونفس الطبيعة
وفي نفس الشخص لدى المناصر المناوئ لها' ( كتاب:' عوائق التحديث' منشورات
اتحاد كتاب المغرب، صفحة15).