الجابري والنقد الإبستيمولوجي للنظم المعرفية التقليدية
القراءة التي أقترحها هنا لتوصيف عدد من القراءات التي أنتجها الفكر العربي المعاصر هي ما يمكن أن أسميها: القراءة العقلانقدية، وهي قراءة فلسفية، محبوكة نظرياً، غايتها: التنظير لنمط من القراءة، التي تمارس نقداً إبستيمولوجياً لأدوات التفكير ووسائل الرؤية في نظم المعرفة العربية الإسلامية على وجه الخصوص. تلك النظم، التي أنتجت: قراءة لا تاريخية، للتراث والواقع، على ما يذهب إلى هذا محمد عابد الجابري في مشروع قراءته للمجالات المعرفية الآتية: التراث الفلسفي- العقل العربي- الخطاب العربي المعاصر.
يتوقف الجابري، منذ 1980، عند مفهوم: القراءة، بدلالتيه: باعتباره وسيلة إدراك لمنظومة القيم والمعاني التي يريد النص عادة أن يفصح عنها، وباعتباره معرفة منجزة ضمن خطاب فكري سابق. وهو يريد أن ينتج نقداً تفكيكياً لمفهوم القراءة في الفكر العربي. وقد تزامن مشروعه في تفكيك مفهوم القراءة، مع مشروع نقل: القراءة البنيوية، إلى الفكر العربي المعاصر. لكنه مع ذلك، استطاع أن ينجو من السقوط في فخّ التنميط البنيوي داخل الأطر التي تتفرّع من نقطة واحدة، لتلتقي في النقطة نفسها. من افتراض وجود البنية، إلى وسائل إثباتها. ومن افتراض نواة للبنية (اللغة)، إلى توزيع العلاقات أفقياً وعمودياً لتصل إلى نهاية المطاف وهو: إنتاج المعنى باللغة حسب.
لقد ذكرت أن الجابري، استطاع أن ينجو من التنميط والقولبة البنيوية، على الرغم من أنها تركت آثاراً واضحة في سعيه إلى: فصل المقروء عن القارئ. وأحسبه، أفاد من القراءات المتجاورة مع البنيوية، كالأركيولوجيا، والتفكيك، والتأويل، تلك القراءات التي انتقدت مركزية البنية (كما في تفكيكية دريدا)، ومركزية النص (اركيولوجيا ميشيل فوكو التي ذهبت إلى قراءة الخطاب)، ومركزية المعنى (هرمنيوطيقا غادامير وبول ريكور).
وهكذا اتجهت قراءة الجابري إلى دراسة الخطاب الفكري الإسلامي لا إلى دراسة النص، وكانت تهدف قراءته- كما لدى ميشيل فوكو- لا إلى تأويله، بل إلى البحث في العناصر التي تشكل: خصوصيته. والبحث في القواعد المتحكمة فيه. وتحليل الفوارق والاختلافات الموجودة بين صيغ الخطاب ووجوهه.
ولذلك، فإن الجابري الذي حلّل النظم المعرفية الثلاثة: البيان والعرفان والبرهان، قد تعامل مع كلّ منها: بوصفه نظاماً يؤسس حقلاً معرفياً مستقلاً بنفسه، داخل الثقافة العربية الإسلامية.
وكما درس فوكو النحوَ، لا بوصفه حقلاً لغوياً، وإنما باعتباره تفكيراً في اللغة بشكل عام، فإن الجابري قام بدراسة تلك النظم المعرفية باعتبارها تفكيراً، أو دالّة على خصوصية التفكير العربي الإسلامي.
وهكذا، منذ البداية، يصف الجابري قراءته، فيقول في كتابه نحن والتراث:
هي " قراءة" وليست مجرد بحث أو دراسة لأنها تتجاوز البحث الوثائقي والدراسة التحليلية – بله " الأعمال" التجميعية – وتقترح صراحة، وبوعي، تأويلاً للمقروء " معنى" يجعله في آن واحد، ذا معنى بالنسبة لمحيطه، الفكري- الاجتماعي – السياسي، وأيضاً بالنسبة لنا نحن القارئين.
ينتقد الجابري، ثلاث آليات للقراءة في الفكر العربي، تلك التي شاعت منذ ما سمي: عصر النهضة إلى مطلع الثمانينيات، ومن ثم يقترح ثلاث آليات بدلاً منها. هو ينتقد ما يسميه: القراءة السلفية، وواضح أنه يستعمل لفظة: السلفية، باعتبارها تسمية توصيفية، لا باعتبارها نزعة فكرية في الخطاب الإسلامي، وإن كان مفهوم الجابري يستوعب هذه النزعة. وهو يعتقد بأن هذا الضرب من القراءة، إنما هو كما يرى: الفهم التراثي للتراث [...] لأنها التراث يكرر نفسه. ويعزو ذلك، إلى ما يشبه: عُصاب جماعي، أصاب المثقفين العرب بعد نكسة 1967 فارتدوا ناكصين إلى الوراء، إلى " التراث".
قراءة السقوط في دائرة ردّ الفعل، هي القراءة التي يعارضها الجابري، ويمكن تصويرها وتصنيفها في النقاط الآتية:
القراءة المتجهة إلى الوراء، ويسميها: القراءة السلفية. وهي قراءة احتوائية، لا تنـي من احتواء الزَّمَكان بجانبيه: الحاضر، والمستقبل، وتلقي بهما في: أفق الماضي. وهذه القراءة، هي التي تنتج ما يسميه ويكرره في أكثر من موضع من كتبه: الفهم التراثي للتراث.
القراءة الاستعارية؛ أي تلك التي تستعير: المنهج، والرؤية، من الغرب، وتتعامل معهما تعاملاً خارجياً، ويسميها: القراءة الأوروباوية. ويحصرها بالتيار الليبرالي العربي، الذي ينظر إلى التراث العربي بـ: منظومة مرجعية أوروبية، ولذلك فهو لا يرى فيه إلا ما يراه الأوروبي.
القراءة الاستشراقية، ذات التضمينات والتوجهات الاستعمارية في بعض الأحيان. كانتزاع أصالة الفكر الإسلامي، والادّعاء بأنه يصدر عن: ما سمّوه بـ " العقلية السامية" التي حكموا عليها بالعقم في مجال العلم والفلسفة. وهي بمنظور الجابري قراءة: فيلولوجية؛ لأنها تجتهد في: ردّ "كل" شيء إلى "أصله". وعندما يكون المقروء هو التراث العربي الإسلامي فإن مهمة القراءة تنحصر حينئذ في ردّه إلى "أصوله" اليهودية والمسيحية والفارسية واليونانية والهندية.
القراءة اللاتاريخية. وهي القراءة التي يتبناها التيار اليساري العربي، لأن هذا التيار كما يزعم الجابري لا يتبنى:
المنهج الجدلي كمنهج لـ " التطبيق" بل يتبناه كـ " منهج مطبّق". وهكذا فالتراث العربي الإسلامي " يجب" أن يكون: انعكاساً للصراع الطبقي من جهة، وميداناً للصراع بين " المادية و " المثالية" من جهة أخرى. ومن ثمة تصبح القراءة اليسارية للتراث هي تعيين الأطراف وتحديد الموقع في هذا الصراع " المضاعف".
لذلك فإن الجابري لا يجد فرقاً بين: السلفي، الليبرالي، الماركسي، في قراءتهم للواقع والتراث، لأنهم يتطابقون ليس في: ما يُفكَّر فيه، بل الطريقة التي يجري بها التفكير.
القراءة التي يمكن أن نسميها القراءة: اللاعقلانية؛ لأنها كما يرى الجابري، قراءة استنتاجية، تنخرط في: إشكاليات المقروء والاستسلام لها [ وتمتاز بـ] غياب الروح النقدية وفقدان النظرة التاريخية. ويقترح في مقابلها مستوى آخر للقراءة يجده ضرورياً للخروج من مأزق اللاتاريخية في الفكر العربي المعاصر، الذي وجد فيه امتداداً لمنهج ورؤية: قياس الغائب على الشاهد، الذي يوقف إمكانية عنصري: (الزمان) على الاختلاف، وإمكانية (التطور) على تغيير القيم والأشكال والمعاني. ويكرر الجابري الحديث عن قياس الغائب على الشاهد، في كتاب: نحن والتراث، وفي: ابن رشد، سيرة وفكر. وفي كتاب: بنية العقل العربي وفي كتاب: تكوين العقل العربي.
هذا المستوى الذي يقترحه، يتمثل بهذه النقاط:
1- القراءة بموجب منهج ورؤية جديدتين، يتمثلان عنده بـ: ضرورة القطيعة مع الفهم التراثي للتراث. وهو هنا يوظف مفهوم ميشيل فوكو في إحداث قطيعة في حقل معرفي معين بإيقاف عمل المفاهيم التقليدية، وتحرير القراءة من الرؤية المنهجية الواقعة في قبضة الأيديولوجيا والتاريخانية والميتافيزيقيا.
2- القراءة بموجب شرط: فصل المقروء عن القارئ. ولا شكّ في أن هذا الشرط، يتضمن دعوة بنيوية غير معلنة هنا، لتفادي السقوط في شرك الأيديولوجيا. وقارئ مشروع الجابري، سيجد أنه يريد أن يحرر مفهوم: القراءة، من هيمنة الايديولوجيا، ومكرها، إذ تتسلل خلسة إلى أدوات إنتاج الفكر، وإلى وسائل إدراكه وقراءته.
3- القراءة بموجب شرط: وصل القارئ بالمقروء. ولاشكّ في أن الدعوة إلى: الفصل مرة، والوصل مرة أخرى، إنما هو مثير للإرباك، ويقتضي أن نحدّد ما يرمي إليه الجابري.
إنّ هذه القراءة التي أسميناها: عقلانقدية؛ بمعنى توجيه النقد الإبستيمولوجي للنظم المعرفية التقليدية، واستكشاف الاتجاهات أو الفرضيات أو الأفكار التي لم تكن جزءاً من تلك النظم، تتمثل كذلك في الكيفية التي اكتشف فيها أدونيس، في: الثابت والمتحول، تلك الخطابات غير الخاضعة لهيمنة التفكير المؤسسي أو الخاضع لأعراف واعتبارات أيديولوجية أحياناً، أو الخاضع للسلطة الصلدة للنظام المعرفي، والنسق الثقافي، والعرف الاجتماعي.
إن القراءة لدى الجابري تحمل: دلالة تأويلية؛ بمعنى أن مفهوم: القراءة، يلغي تماماً مفهوم: المنهج، المسوّر بنطاق الثبات المنطقي المتماسك، وبنطاق المعرفة القبلية التي تدثر الظاهرة النصية أو غير النصية، بدثار من المعاني الدائمة، المتنقلة من جيل إلى آخر؛ معرفة الوحي، أو السلف الصالح، إنها باصطلاح المفسرين: المعرفة النقلية.
وفي الوقت الذي تلغي (القراءة)، مفهوم (المنهج) بتلك الخصائص التقليدية، فإنها تلغي الفهم التقليدي للمعنى، والنص، وتربطهما برابط النشاط الذاتي لقراءة النص أو الظاهرة.
وهكذا، يصبح المعنى آنياً أو قصدياً بتعبير هوسرل، وتزامنياً بتعبير البنيويين، بيد أن تزامنيته لم تكن تزامنية لسانية، بل تزامنية الفهم والشعور الفردي الآتي.
-2-
أدونيس والنقد الجذري لقراءة النص القرآنيترتكز مراجعتي المتواضعة هذه، على التوقف عند النقد العقلاني الذي زاوله الجابري وأدونيس وأركون لمفهوم (القراءة) في الفكر الإسلامي. فالمراجعة تركز إذن على مقاربة هؤلاء الثلاثة لمفهوم القراءة فقط، ولا تتعدى ذلك إلى تقديم مراجعة شاملة لمشاريعهم الفكرية، فتلك مهمة لا يمكن تحقيقها إلا في كتاب كامل. يختلف الثلاثة في عدة أشياء لكنهم يتفقون في أن نمط (القراءة) التي مورست في الفكر الإسلامي لا ترقى إلى مستوى التحرر من الهيمنة المطلقة والمقدسة التي يمارسها النص المقروء على المفكر الإسلامي. الفطنة إلى تحرير القراءة من تأثير المقروء المقدس، هي اتجاه في الفكر العربي المعاصر الذي بات ينظر بعين المقارنة بين مستويين تفكيريين مختلفين كل الاختلاف في عالمين متجاورين الفكر العربي وممارسة العقلانقدية (1/3)
ومتصارعين في آن هما: الغرب، والعالم العربي. وتحت التأثر بطرائق التفكير في الحضارة الغربية التي تقدّم نفسها بافتخار بأنها الحضارة الوحيدة القادرة على نقد ذاتها بذاتها كما يقول كارل بوبر، فإن أدونيس يمارس في كتابه: النص القرآني وآفاق الكتابة، طريقة إلغاء (المنهج) الذي يسميه: النفق، ويقوم بالقراءة التي يسميها: الأفق، يقول:
إذا كان، بمعنى ما، قراءتَه – أي كيفية قراءته، وكان مستواه تابعاً لمستوى هذه القراءة، دقةً وفهماً وغنىً، فإن للنص مستويات متعددة، تَعدُّد قراءته. انطلاقاً من ذلك، يمكن أن نطرح هذا السؤال:
ما مستوى القراءة السائدة للنص القرآني؟ والجواب كما يبدو لي، هو أن في هذه القراءة ما يشوش الأفق المعرفي الإسلامي، وفيها كذلك ما يقلص الرؤية إلى العالم والإنسان والأشياء. إنها بالأحرى قراءة لا تجعل من هذا النص أفقاً، بقَدْر ما تجعل منه نفقاً. والسبب في ذلك عائد إلى أمور كثيرة بينها، على اخص، تغليب المنظور الشرعي، بحيث تبدو الشريعة أساساً وحيداً للفكر والعمل، للكون والأشياء. وهي في هذا قراءة تغلّب، بالضرورة، المنظور الأيديولوجي – السياسي.
ويلح أدونيس دائماً، على نمط من القراءة، لا تسقط في: أفق التثبيت التقديسي، بل في أفق المراجعة والنقد والتجاوز – على أساس الاحترام الكامل لحرية الرأي. ونضيف إليها، أفقاً آخر هو: تعددية الرؤية الاجتماعية والثقافية إلى العالم، في التراث والتاريخ العربيين، وتعددية التفكير، ومصادره، والطريقة التي ينظر فيها إلى الواقع والفكر.
هذه (التعددية)، لم تكن غائبة عن مشروع أدونيس الفكري، وتنطوي كتبه على إشارات كثيرة لهذه التعددية، وهو يتطلع عبر تلك الإشارات إلى تحرير (القراءة) من الطريق (النفقية) إلى الطريق (الأفقية). ولا شك في أنه يتحدث هنا عن قراءة النص القرآني الذي كان عرضة لقراءات المفسرين والفقهاء والفلاسفة والبلاغيين والمؤرخين وسواهم. هذه القرءات التي أنتجتها الثقافة العربية الإسلامية، إنما تلتقي في نقطة واحدة، هي أنها تصادق على معنى وتكرسه، ولا تملك الأداة المعرفية القادرة على خلق قراءة نقدية للنص المقدس. وأدونيس يعدّ ذلك جرحاً معرفياً في الثقافة العربية.
لذا يطرح باستمرار سؤالاً ابستيمولوجياً، على التراث العربي الإسلامي، بخصوص حيازة (المعرفة)، وتأسيس المعنى بارتباطه بتلك الحيازة. هذا السؤال، أو الأسئلة حقيقةً، هي ليست بنت الواقع الثقافي التقليدي في العالم العربي، واقع المصدر الواحد أو تعدد المصادر وواحدية الخطاب المعرفي، إنها بنت الواقع النظري والمعرفي الذي أخذ يتسلل إلى الثقافة العربية منذ سبعينيات القرن الماضي، يوم أصبحت (اللغة) لازماً معرفياً لكل العلوم، ويوم أصبحت العلوم كلها تنهل من مصادر المعرفة اللاتاريخية، التي أوجدت (النقد الجذري)، وأوجدت العمل على استكشاف (القانون)؛ أعني المعيار المتحكم بمصادر المعرفة. وتحولت الظواهر والنصوص، إلى (قوانين) لكن ليست تلك القوانين المتشكلة بوسائل المعرفة التقليدية، إنما القوانين المكتشفة بوسائل المعرفة الجديدة وهكذا، وجد أدونيس الجوّ مناسباً لكي يتساءل:
أفلا يعني ذلك أن التزامي بالمعنى المسبَّق يفرض أن يكون فكري استعادة " دائمة" له؟ لكن حين لا يكون فكري إلا استعادة لا أكون إلا إله، ولا يكون لي حضور بوصفي ذاتاً تفكّر وتفصح عن فكرها الخاص بكلامها الخاص، بل لا يكون لي حضور في اللغة نفسها – بوصفي مفصحاً عن ذاتي. وقد يتساءل العربي – المسلم مواصلاً اعترافه: هل أُسِّس المعنى المسبَّق على تغييب المعاني كلها – ماضياً وحاضراً ومسقبلاً؟.
أفلن يضعني إذن هذا المعنى في حالة دائمة من الهرب: الهرب من نفسي، والهرب من الواقع، والهرب من التاريخ؟ ألن أكون كمثل ضحية تذبح في فراغ بلا حدّ تقدمه لفراغ بلا حدّ؟ وقد قول: حسناً في النصوص – الأصول، كل معرفة هي صالحة للحاضر والمستقبل، كما كانت صالحة للماضي. لكن السؤال هنا هو: لماذا تحصر معرفة هذه المعرفة في السلف ونصوصهم؟ ألا تعني صلاحية النصوص – الأصول للحاضر تحريرها من إطار معرفتها الماضية، وصلاحيتها للمستقبل تحريرها من معرفتها الحاضرة؟.
وهكذا تبدو الأسئلة التي يطرحها أدونيس، أقرب إلى أسئلة الثوري منها إلى أسئلة المفكر، فهو يريد أن يجعل من الماضي والحاضر والتاريخ والواقع والذات مفهومات متغيرة باستمرار، وقيمة المعنى تنبع من الرؤية والتجربة الذاتية الفردية لا من طريقة تغييبهما بافتراض المعنى المسبّق. ومشكلة المعنى تتجاوز في مشروع أدونيس طريقة حصره بين قُطْبَي: النص، والذات، وهو دائماً، منذ الثابت والمتحول، يبحث في هياكل النظم المعرفية، التي تطالب بحقوق ملكية المعنى المطلق، سواء أكانت من داخل التفكير المؤسسي للفكر العربي، أو من داخل مؤسسية السلطة والقوة. ولذلك، هو يبحث في المصادر الخارجية التي تتحكم في توجيه (المعنى)، مصادر السلطة بمعناها الشمولي، في السياسة، والدين، والمجتمع، والثقافة.
والمعنى عنده، يتشكل من خلال التحرّر من مصادر (التحكّم) الخارجية، ولذلك يعتقد بأن: التراث أفق معرفي. والأفق، كما ذكرنا، هو مفهوم على النقيض من مفهوم: النفق. فالأفق هو انفتاح القراءة على الفردانية، ونبذ المؤسسية، واستبدال المصادر التقليدية للمعنى، تلك التي تزودنا دائماً بمعرفة مسبّقة. ومن هنا، فإن هذا الأفق، بالنسبة لأدونيس:
ينبغي استقصاؤه باستمرار، لكن مفهوماته وطرائق تعبيره غير ملزمة أبداً. والشاعر الخلاق هو الذي يبدو، في نتاجه كأنه طالع من كل نبضة حية في الماضي، وكأنه، في الوقت نفسه، شيء يغاير كل ما عرفه هذا الشاعر.
إنّ مصادر أدونيس، في الحديث عن مشكلتي: المعنى، والمعرفة، لا يغلب الفكر المنتمي إلى نظرية تعود إلى العلوم الإنسانية المعاصرة، التي انتهت فيما يتعلق بالنص والمعنى، إلى فرضية: التفاعل بين النص والقارئ، أو الظاهرة والمفسِّر. بل تغلب عليها (المعرفة الحدسية)؛ المعرفة الصوفية، والشعرية معاً. ولذلك نراه يقول: المعرفة هي [...] علاقة اتحاد بين الذات العارفة والشيء المعروف.
قراءة أدونيس هذه، التي تريد أن تتمرد على خطوط نقل (المعنى)، وتكرار تشكيله بصورة مستمرة في نظام الثقافة العربية، هي إحدى القراءات المؤثرة في ثقافة السبعينيات والثمانينيات، إذ فتحت طريق: التأويل، والتفكيك، والنقد الإبستيمولوجي لطرائق التفكير العربي الإسلامي.
ولذلك، يصف إدوارد سعيد قراءة أدونيس بأنها دراسة نقدية لتيارين كبيرين في الثقافة العربية الإسلامية:
يسمى التيار الأول ثقافة الخليفة: إنها الثقافة الرسمية، والتي لا ترتبط بالقوة فحسب، بل بالسلطة أيضاً، وبقراءة مقيدة جداً للماضي والتراث، تغذيها وتدعمها المؤسسات الاقتصادية، والسياسية، والدينية. وترتبط، قبل أي شيء آخر بمجموعة من المعاني الثابتة التي تُستعاد وتكرر باستمرار يطلق عليها اسم الثابت كما في العنوان الذي استخدمه. ما يعارض دلياً هذا التيار هو ثقافة الإبداع، والتمرد، وإعادة التأويل، والخلق، والمقاومة، والتنوع. ومنها جاءت ثقافة الطبقات الأدنى غير الرسمية وغير التراتبية، ثقافة الخوارج، والصوفيين والشيعة؛ وكانت تجسد حيوية الثقافة العربية الإسلامية، رغم أنها، كما يظهر أدونيس، هرطوقية، هدامة، فوضوية على نحو عميق
-3-
محمد أركون ونقد القراءة الدينية
تتمتع (قراءة) محمد أركون، بخاصية إبستيمولوجية أحسب أنه اكتسبها وهو يعدّ في السوربون سنة 1966 أطروحة الدكتوراه. هذا التاريخ الفاصل في الفكر الغربي، ولاسيما الفرنسي الذي نشأ في أجوائه أركون ثقافةً ولغةً، هو ذروة الفكر الشاك بالمسلمات المعرفية. إنه الفكر النقدي، التفكيكي، الأركيولوجي، التأويلي، المتطلع دوماً إلى إعادة التفكير في النظم المعرفية جميعاً.
نشأ أركون في وسط هذا النمط من التفكير الجديد، الذي صاغ أصوله الفلسفية، كلود ليفي شتراوس، وميشيل فوكو، ورولان بارت، وجاك دريدا، وجاك لاكان، ولوي ألتوسير، وجمهرة من المفكرين والفلاسفة الجدد الذين ما عادوا يطمئنون إلى المادة الدلالية للمفهوم الموروث، والمتداول في نطاق الفكر الإنساني.
هذه الفرضية، أو هذا المبدأ المعرفي الجديد، سيضع بيد أركون مفاتيح قراءة مفاهيم: التراث الإسلامي، وعلى وجه الخصوص: التراث الفلسفي.
وهكذا، فإنه لم يستعمل مفاهيم من قبيل: الإسلام، والتراث، كما كانت تتداول في الفكر العربي الإسلامي التقليدي. إنه بخلاف أدونيس، لا يقف طويلاً عند المصادر التي تتحكم بمنابع المعرفة، وتقننها وتوجهها، إنه يسائل (المفهوم)، ويختبر إمكانيته على الاتساع الدلالي، ذلك أن زعزعة مبدأ اليقين في المفهوم، هو الخطوة الأولى التي يسلكها أركون باتجاه تفكيك ثوابت التفكير الإسلامي الكلاسيكي. يتساءل في كتابه الفكر الإسلامي قراءة علمية:
هل ينبغي عندئذ والحالة هذه مقاربة مفهوم التراث أو دراسته (بالمعنى المثالي والمتعالي) استناداً [إلى] مفهوم الإسلام بالمعنى المتعالي أيضاً لأنه (أي هذا الإسلام) يمثل التعبير " المستقيم" (الأرثوذكسي) الوحيد عن التراث المثالي الوحيد الذي تلقته الأمة المثالية؟ أم أنه ينبغي علينا إعادة تحديد الإسلام بصفته عملية (أو سيرورة) اجتماعية وتاريخية من جملة عمليات وسيرورات أخرى؟ صحيح أن هذه العملية بالذات قد أدت في نهاية المطاف إلى تشكيل تراث موصوف بأنه إسلامي، ولكن ينبغي ألاّ ننسى أنها كانت واقعة في تنافس دائم مع عمليات أخرى وخطوط أخرى، وأنها قد عُدّلت وغُيِّرت عن طريق " البِدَع" المستجدَّة وأشكال الحداثة المتتالية.
واضح أن أركون لا يعتبر الإسلام مفهوماً متجانساً، وكذلك التراث، إنه يسعى إلى الكشف عن التعميات التي ترافق القراءة بسبب الافتراض المسبق لتجانس هذا المفهوم. وهكذا يريد أن يخلص إلى أن إدراك التراث والإسلام إنما يتمّ من وراء حجاب مقدس هو الذي يعطل إمكانية الرؤية النقدية لهذين المفهومين. إن مشروع محمد أركون الفلسفي، ينتقد: القراءة الدينية، التي تحصر وظيفة: التراث في: تقديم المرجعية اللازمة لتثبيت الإجماع حول بعض قراءات النصوص المقدسة. ومفهوم الإجماع، إنما هو طريقة للإلغاء ومصادرة التفكير النقدي وقولبة المقروء أياً كان جنسه بقالب الحتميات أو اليقين الذي يتعضد باستمرار بما يسمى: الإجماع، باعتباره منهجاً للرؤية. وتمارس هذه القراءة، من ناحية ثانية، إلغاءً لـ:
أهمية القوى السياسية والاجتماعية الموجودة في الساحة آنذاك وتهملها وتحولها إلى مجرد دعامات ثانوية للتركيبات والحكايات الأسطورية التي تغني التراث. ولكن نجد على عكس ذلك أن قراءة المستشرقين التاريخانية قد أخذت منذ القرن التاسع عشر تفتت الأساطير والرموز وترميها في دائرة الخرافات والتهويلات التي لا معنى لها، ولا تهتم إلا بالوقائع المبرهن عليها داخل زَمَكان محسوس ومحدد تماماً (أي الوقائع الثابتة تاريخياً.
وإذا ما كانت مصادر أدونيس في إعادة التفكير بثنائية: المعنى/ المعرفة، تستند إلى معرفة حدسية: صوفية، سوريالية، شعرية، فإن مصادر محمد أركون ذات جذور لسانية وسيميائية وتفكيكية، بالإضافة إلى استلهام أركيولوجيا ميشيل فوكو في النظر إلى ما هو أبعد من النص، إلى الخطاب الذي يقوم بإكراهات عديدة لتعديل النصوص بطريقة لا واعية أحياناً.
ومع ذلك، فإن أركون يشكو من سوء فهم بعض محاولاته في استكشاف فضاء دلالي غُفْل، لم تكتشفه طرائق التفسير الإسلامي التقليدية. يقول:
حاولت في السابق تقديم دراسة ألسنية وسيميائية دلالية لسورة الفاتحة لكي أبين بالضبط مدى القطيعة الأبستيمية الحاصلة بين الفكر الضمني الذي يستند [إليه] كل التفسير الإسلامي الكلاسيكي وبين القارات الجديدة للدلالة والمعنى التي يتيح لنا استكشافها علم الألسنيات والسيميائيات الحديثة. وقد اكتفى العديد من الزملاء المسلمين الذين قرأوا نصي قائلين بأنهم لم يروا فيه أي شيء جديد بالقياس إلى التفاسير الكلاسيكية.
إن هذه القراءات، تعاملت مع (القراءة) باعتبارها حقلاً معرفياً يقتضي مراجعة صارمة في ظل العلوم والنظريات والمناهج الحديثة. فقد وجدت أن جزءاً جوهرياً في مشكلة العلاقة بين التراث والحداثة، يتعلق بنظام القراءة ذاته. وكان التوجه إلى تفكيك نظام القراءة العربية واقتراح طرائق جديدة، قد ساهم في خلق نمط من الاهتمام بوسائل وأدوات قراءة النص الأدبي، مستفيدين بذلك من فتح باب المراجعة النقدية الابستيمولوجية لـ: النص والقراءة.