أرى المجدَ معصوبَ الجبين مُجدَّلاً * على حَسَكِ الآلام يغمرهُ الـدَّمُ
وقد كــان وضَّاحَ الأساريرَ باسماً * يـهبُّ إلى الجلَّى ولا يَتَبَـرّمُ
فيا أيــها الظلمُ المصَعِّرُ خــدَّه * رويدكَ! إن الدّهر يبني ويهدمُ
أبو القاسم الشابي : "زئير العاصفة"
عندما
يصاب معظم المثقفين والفنانين والأكاديميين التونسيين بالخيبة والإحباط
فتندّ منهم علامات تبرّم من عودة الحصار والصنصرة ومحاولة اغتيال الحرية
كما في الشهادة الآتية: "هناك مليشيات افتراضيّة حقيقيّة. وقد قال لي شهود
عيان إنّهم محترفون ويشتغلون بمقابل. مهمّتهم شتم كلّ من يعارض الحكّام
الجدد، من قريب أو بعيد". وقد يبلغ الضيق مبلغه فيما يشبه استنفاد القدرة
على مزيد من الاحتمال، ليقفز السؤال حارقا حول ما يعتري الهمّ الجماعي من
ضبابية: "هل بهذه الأساليب نتحاور في شؤون البلاد؟ هل بهذه الأساليب نصل
إلى التّوافق؟!".
وعندما يبلغ الأمر بأعرق
رابطة لحقوق الإنسان في العالم العربي عشية ذكرى ثورة 14 يناير/جانفي 2011
أن تتكلم في بيانها بأسى هو أقرب إلى النعي منه إلى التنبيه أو التذكير
حول ما يعتري أهداف الثورة في الحرية والكرامة واحترام الذات الإنسانية
والحقوق الاجتماعية والاقتصادية والفكرية من استنقاص والتفاف وتحدّد أنّ
من يقوم بذلك هو الحزب الأغلبي، بمساندة أقصى اليمين السلفي في أغلب
الأحيان، في حين يلوذ بالصمت حليفاه العلمانيان، أو يردّان الفعل ردّا
محتشما على بعض الأمور ويكون ردّ الفعل ذاك لغاية في نفس يعقوب غالبا
كاستغلال موقف أو الخوف من ردّة فعل أنصارهما أو مسايرة للشارع أو بحثا عن
مزيد من الصلاحيات!!!
وعندما تبلغ حالات
الثورة الداخلية مبلغها وتتزايد الصيحات المكتومة والعالية من انزلاقات
وانحرافات، وعندما يصل الوجع بإحدى الممثلات حول انطماس معالم الثورة
ذروته، وينتابها الإحساس بمرارة انتكاسة تلوح في الأفق إلى حد الألم
الممضّ، إلى حدّ القول ليلة ذكرى الثورة: "…إنها ليلة يحلو فيها الموت".
وعندما
يقرر ثوار وثائرات بلادي عن طريق الإيحاء القائم على التوظيف الجمالي
للسخرية السوداء " في مثل هذا اليوم… كنّا شعبا واحدا… ثمّ طلع البدر
علينا… وأجهشنا بالبكاء."
عند كلّ ذالك، وغيره
كثير، تشعر بأنّ ما قاله الشاعر الكبير محمود درويش «ما أوسع الثورة، ما
أضيق الرحلة، ما أكبر الفكرة، ما أصغر الدولة»! حقيقة مُرّة ماثلة أمامك،
خاصة عندما تدرك أن كثيرا من خصائص العقلية التي تدير الدولة، بآلياتها
وإجراءاتها، لم تستطع تجاوز العقلية العشائرية في صيغة الحزب أو الحلف في
عمقها أو الأحكام السلطانية في جوهرها؛ ولهذا يحق لك أن تتساءل بكل جدية
وتطرح الأسئلة القديمة الجديدة: ألا يبدو حزب النهضة حزبا دينيا في وجه ما
وحزبا يريد أن يكون مدنيا في وجهه الآخر؟ وكيف يكون في الوقت نفسه حزبا
سياسيا وحركة دينية وجمعية دعوية؟ وهل يمكن له بالصفة تلك أن يقود عملية
تغيير ديمقراطي ومرحلة انتقالية عسيرة؟ وهل مازال ممكنا أن يحصل فعلا
تغيير نحو الديمقراطية والتعددية في الإيديولوجيا التي يصدر عنها هذا
الحزب كما يريد قياديوه الإيحاء بذلك، الذين يحرصون كل الحرص على لبس
البدلة وربطة العنق وحتى الحديث بالفرنسية والإنجليزية في الاجتماعات
الرسمية في تونس!؟
المشروع المجتمعي النهضاوي: يبدو
أن مشروع النهضة "الثانية" (منذ حراك هيئة 18 اكتوبر2005 الذي شاركت فيه
إلى ما بعد ثورة 14 يناير2011) كما هو واضح في الممارسة العملية من بعد
14جانفي/يناير إلى حد الآن مرورا بكل المحطات التي شهدها المسار الثوري هو
نفسه مشروع النهضة الأولى (ثمانينات وتسعينات القرن العشرين)؛ فالتغيير لم
يتجاوز صعيد الخطاب والتكتيكات الانتخابية والاستقطابية، ولم يمس المضمون
والمنهجية والمقاربة والمشروع المجتمعي والتنظيم الحزبي. ويتضح يوما بعد
يوم أن فكر النهضة يبدو مشدودا إلى الفكر الإخواني تارة والفكر الوهابي
تارة أخرى (ينظر مثلا مقال راشد الغنوشي بعنوان دفاع الشيخ بن باز عن
الإسلام وأهله في تونس) بل نظرية ولاية الفقيه وحراس الثورة تارة أخرى
مثلما جاء في تعبير شهير للغنوشي عند تشنجه قبيل الانتخابات وتصريحه بأنه
سيأمر الحركة بالالتحاق بحراس الثورة في صورة التلاعب بالنتائج على حد
زعمه. وبين هذا وذاك نظرة هناك إلى تركيا وأمل في النسج على منوالها. ولكن
هذا البلد رغم ميزاته التحديثية وقربه من النموذج اللائكي الفرنسي فهو -
كما يعرف القاصي والداني- أحد مداميك حلف الناتو، ومن أعمدة نظام العولمة
الرأسمالي الأمريكي في الشرق، فهل قام الشعب التونسي بثورته من أجل
الكرامة والحرية أم من أجل الولاء للناتو والانخراط في العولمة؟ هذا ما
يجب أن تجيب النهضة عنه ولن تستطيع؛ لأن برنامجها ورؤيتها لا يسعفانها
بالبيان.
المعلن لدى النهضة - إذن- هو الدولة
المدنية، ولكن من شبه المؤكد أن الخلافة هدف استراتيجي عندها، يتوق
أنصارها إلى تحقيقه في فترة لاحقة يسمونها فترة "التمكين"؛ وهذا يذكرنا
بمرحلة "الظهور" التي تلي مرحلة "الكتمان" عند الخوارج بمن فيهم المعتدلين
كالإباضية، وكذلك مبدأ "التقية" المعروف عند الشيعة، ونستدل على ذلك بما
عبّر عنه أمينها العام مؤخّرا حول الخلافة الراشدة وما يستشفّ من
فهمه لدور المعارضة على أنه مجرّد دور استشاري كما جاء في تصريحه بأنّ
"الأغلبية ليست مطالبة بأن ترضي الأقلية" وذلك في خصوص "المشروع
الجديد" للحكم المؤقت فهو- بهذه الصفات - وثيق الصلة بما جاء في خطابه إلى
أنصار الحركة، بل هو ترجمة عملية له؛ مما يؤكد – حينئذ - أنّ ما صرّح به
"حمادي الجبّالي" حول الخلافة لم يكن زلّة لسان أو كلاما حمّالا لمقاصد
غير التي فهمناها أو خطابا موجّها لإخوانه وليس لعموم التونسيين، إنّه ليس
مجرد خطاب مزدوج أو مضطرب، ولا مجرد خطاب مسجديّ دعويّ في غير محلّه، إنّه
الخطاب الأصلي المنسجم مع فكرهم. وهو موقف له جذور في فكر الإخوان، وكان
قد ظهر أيضا في ما صرح به زعيمهم "راشد الغنّوشي" أكثر من مرة؛ ومنها
تصريحه حول الخلافة في ميدان التحرير بمصر عندما زارها في ربيع 2011
بُعيْدَ ثورتها. فهذا الفكر الذي يظنّ البعض أنّه يمثل "الفكر الإسلامي
المعتدل والوسطي لا يعدو في حقيقة الأمر أن يكون فكر الأسلمة "الناعمة"
التي لا تختلف عن الأسلمة العنيفة إلاّ في المنهج ووسائل العمل بينما
الهدف واحد.
ولئن جاء في بعض الحوارات التي
أدلى بها الغنوشي في الجرائد التونسية في ربيع 2011 ما يفيد أن حركة
النهضة، وخلافا لبعض التيارات الإسلاميّة، لا تعتبر الخلافة مصطلحا دينيا،
إذ يُمكن أن يطلق على الحكم الذي ينتسب إلى الإسلام دولة أو مملكة أو
سلطنة أو خلافة أو إمارة ذلك لا يهمّ، العبرة بالمسميات لا بالأسماء. ويرى
أنّ هناك بعض الجماعات الإسلاميّة جعلت من الخلافة لفظا مُقدّسا وعنوانا
مُلزما للحكم بالإسلام رغم أنّ هذا المصطلح ليس مصطلحا دينيا بل هو مصطلح
سياسي يُمكن الأخذ به أو الاستعاضة عنه دون حرج. لئن كان ذلك كذلك، أيعكس
عدم الاهتمام بالتسمية تجاوزًا من الغنوشي وأتباعه لنظام الخلافة؟!
لقد
حدّد الغنوشي زعيم النهضة في كتابه "الحريات العامة في الدولة الإسلامية"
(بيروت1993) سمات المشروع الإسلامي، واعتبره النقيض المباشر للمشروع
"العلماني" التونسي ودولته "الكافرة" كما يُسِرُّون بذلك، وقد يجاهرون به
أحيانا، يقول راشد الغنوشي: "النظرة الشمولية للإسلام (…) كانت قد انحسرت
خلال عصور الانحطاط (…) بما قام في حياة المسلمين وبالخصوص في ظل الاحتلال
الغربي وتحت تأثيره من ثنائيات مباينة لعقيدة التوحيد، وفرض العلمنة على
حياتهم الجمعية ذلك هو الانحطاط من وجهة النظر الإسلامية الجامعة وهو
الجذر الأساسي لتخلف المسلمين. إن الفكرة الرئيسية في الإصلاح الإسلامي
(…) منذ سقوط آخر شكل للخلافة الإسلامية (…) هي مقاومة هذه الدهرية بتعبير
الأفغاني أو الفصام النّكد بتعبير الشهيد سيد قطب: الانفصال بين العقيدة
والحياة بين العبادة والمعاملة بين المسجد والسوق بين الدين والدولة،
مقاومة هذا الفصام النكد عودا بالدين إلى أصله التوحيدي. إن التصدي لهذه
الفكرة الأساسية في المشروع العلماني من أجل استعادة الوصل بين الدين
والحياة وقيادة الدين للحياة هو جوهر المشروع الإصلاحي الإسلامي (…) وهو
ما يطلق عليه بعض الدارسين الاستثناء الإسلامي. إن الإسلام التعبدي لم يكن
قط موضع نزاع إلا لدى بعض الزعماء العلمانيين المغرورين مثل بورقيبة الذي
انتهك حرمة الصيام جهارا حاملا شعبه على ذلك وتحدّى خلفاؤه شعائر وقيما
إسلامية أخرى مثل الصلاة والحجاب" (انتهى).
إنّ
ما يمكن استخلاصه من هذا الشاهد الطويل أنّ مشكلات الدولة والمجتمع مرتبطة
عضويا – إذن- بسقوط الخلافة حسب "الغنوشي"، ولا سبيل إلى علاج تلك
المشكلات وفق هذا المنطق المغالط إلا بإحياء الخلافة. أما أسباب سقوط
الخلافة فيتم التغاضي عنها، وأما العوامل الحقيقية التي جعلت الأتراك
يتجاوزون الخلافة بالأمس زمن كمال أتاتورك ، وحالت دون سعي طيب أردوغان
الإسلامي "العلماني" اليوم إلى بعثها، باعتبار أن تركيا هي آخرُ قطر
إسلامي يحتضن مؤسسة الخلافة، فيتم إخفاؤها! ومن الأدلة على ذلك أيضا عدم
وجود أي أثر، مقال كان أو كتاب، ألفه الغنوشي من بعد ذلك يستدرك فيه ما
قاله من قبل حول الخلافة، ولا نجد لدى أيّ كاتب آخر من النهضاويين، ما
يشير من قريب أو بعيد إلى ما يدل على القطع مع نظام الخلافة، ولا حتى نقد
لتجربة الحكم القائم على الخلافة في أدبيات النهضة.
ومن
الأدلة على رسوخ هاجس إحياء الخلافة في مخيال الإسلاميين أن ما يتم غرسه
في وجدان أنصار النهضة، من خلال حلقاتهم ومناقشتهم، هو اتفاقهم مع حزب
التحرير والسلفية في نفس المبادئ لنظام الحكم، وأنّ اختلافهم معهم لا
يتجاوز الأسلوب والتوقيت وطرق الوصول إلى الهدف فقط؛ فمن التصريحات الدالة
على ذلك أنّ الأمين العام لحزب التحرير المحظور رضا بالحاج يتحدث عن
"التوبة السياسية" لحمادي الجبالي إثر خطابه حول الخلافة الراشدة السادسة،
ثمّ إنّ نظرة فاحصة على ما ينشره أولئك الأنصار توحي بأن الأغلبية الساحقة
منهم لاسيما أشباه المثقفين يساندون السلفية في أغلب تحركاتها، غير أن قلة
قليلة من الأنصار "المعتدلين" يبدون ضجرين من السلفية والتحرير وحتى
النهضاويين المتطرفين؛ لا لأنهم يحلمون بالخلافة ونظام الحكم الديني
وتنظيم المجتمع وفق الشريعة بل لأنهم يرونهم متسرعين وغير مدركين لضرورة
"التدرج" في تأهيل المجتمع إسلامويا من أجل إقامة الحكم الراشدي المنشود،
فهؤلاء النهضاويون يبدون أحيانا كما لو أنهم يعولون على التغيير الهادئ في
المجتمع مع تهيئة أسبابه من البحث عن ثغرات هنا وهناك في المنظومة
القانونية لملئها بجزئيات تشريعية مرجِّحة لكفّة الرؤية الخاصة بهم،
ولاقتناص بل افتعال ظواهر وسوابق مما يطلق عليه في القانون حقائق أو
معطيات الأمر الواقع- De facto. غير أن "التدافع" الاجتماعي الذي ينظّر له
زعيمهم، يقترب بالحركة إلى الممارسة الدكتاتورية على صعيد السيطرة على
الفضاءات الاجتماعية والثقافية وحتى فضاءات العمل والإنتاج؛ إذ أضحى صخبا
غوغائيا ودفعا دمويا يعتدي فيه النهضاويون المتطرفون والسلفيون على
الأشخاص، وتسيل بسببه دماء في الجامعات في منوبة وسوسة مثلا، وفي غيرها من
الفضاءات العامة كما في محاكمة قناة "نسمة" يوم 23/1/2012 ولمزيد من
الغموض واللبس والتلبيس قد يفاجأ بهذا التدبير حتى أطراف في النهضة نفسها
لا علم لهم على وجه الدقة بإمكانية توظيف حركتهم للمتطرفين والسلفية، من
حيث يعلمون أو لا يعلمون، كذراع شبه عسكري يرفد تشكيلاتها الميليشوية كما
سيتم بيانه لاحقا، وهذا ما يبرر عدم تصديق كثير من النهضاويين أنفسهم ما
ينسب إلى حركة النهضة من عنف يصل حد الدموية، ويفسر وقوفهم مشدوهين عند
انكشاف الحقائق… والخشية كل الخشية أن يصبح "التدافع " الممنهج غوغائيا
شبيهًا بالفوضى الخلاقة التي نظّر لها بوش وآلت إلى كوارث كبرى. وليس
الأمر غريبا؛ فكثيرا ما تلتقي أطروحات اليمينيين في كل الثقافات ولو على
سبيل وقع الحافر على الحافر إن لم تكن اقتباسا ونسجا على المنوال لا سيما
بعد أن تتطور الأمر إلى شرعنة العنف بالنصوص القرآنية كما جاء على لسان
أحد النواب في المجلس التأسيسي وسيتم التعرض له لاحقا بالتحليل في محور
"تعددية الخطاب… تعددية شبكات التنظيم".
وفضلا
على الفكر السياسي، توجد مؤشرات قوية لاختراق قوانين وأعراف استقرت
وانطبعت في النفوس وصارت مكاسب وطنية ومظاهر للتمدن والتحديث؛ كحرية
التعبير الفكري والفني مثل الرسم والنحت والأعمال السينمائية: فقد قام
بعضهم بتحطيم بعض المنحوتات بتعلّة أنها عارية أثناء إقامة معرض منحوتات
في شارع بورقيبة. وأقدم آخرون على حرق قاعة مسرح وثقافة متعددة الأغراض في
نابل. وليس بعيدا حادثة أفريكا آرت وفيلم بيرسيبوليس. ونراهم كذلك يلوحون
بالفصل بين الجنسين في المدارس ومن ثمّ الجامعات، ويخططون لمراجعة الكتب
الدراسية بما سيقلص الجانبي المدني والتحديثي في محتوياتها، المقلّص
مبدئيا منذ عهد الدكتاتور بن علي، ومحاولة إلغاء مادة التربية الفنية في
المدارس.
وعلى الرغم من فشل حركة النهضة في
ابتلاع مؤسسة البنك المركزي، نراها تعيد الكرة بحملات "ديقاج" التي ينظمها
أنصارها وأحلافها ضد محافظه مؤخرا. ولسائل أن يتساءل هل وزير الداخلية
السابق التجمعي الذي عمل مع الحكومات السابقة والذي اتخذوه مستشارا للوزير
النهضاوي الحالي أنزه من هذا الرجل الذي عمل بدوره مع الحكومات السابقة؟!
الفارق أن أغلب الوزراء فضلوا الانسحاب وأن وزير الداخلية قبل بشروط
اللعبة في حين رفض محافظ البنك المركزي فقدان استقلالية اكتسبها موظفو
البنك المركزي بفضل الثورة! وهاهم نواب النهضة يعملون في المجلس التأسيسي
جاهدين على إصدار قانون يجعل البنك المركزي مؤسسة تحت إمرة الوزير الأول
كما كان زمن بن علي، وبما أنهم أغلبية فأغلب الظن أنهم سيمررون القانون.
وعلى
الرغم كذلك من فشل النهضة في السيطرة على الاتحاد العام التونسي للشغل،
فكل المؤشرات تؤكد أن الخطط تعدّ على قدم وساق لنخره بالمشاكل الهامشية
وتوريطه في صراعات جانبية والتلبيس على الرأي العام بأنه سبب من أسباب
الاعتصامات والإضرابات، وقد حاولوا ذلك ما في وسعهم قبل مؤتمر طبرقة
الأخير في 25 ديسمبر2011 الذي أسفر عن انتخاب المكتب التنفيذي الجديد
للاتحاد؛ فباؤوا بالفشل لأن عظم اتحاد الشغل قوي عسير عليهم تحطيمه، ولكن
لو طال بهم جلوسهم على سدة الحكم فسيعملون كل وسيلة لإضعافه ومحاولة
تركيعه.
وهاهي النهضة أيضا تستأنف هجمتها على
وسائل الإعلام التي سبق أن شنتها ضد القناة "نسمة" وكانت قد وجدت الفرصة
سانحة مع فيلم برسيبوليس لتهاجمها وتستدرجها للمحاكم بغرض تدجينها، واستمر
الحشد والتجييش حتى يوم 23/1/2012 حين تم الاعتداء بالعنف اللفظي والمادي
على مجموعة من الإعلاميين والحقوقيين في أثناء وقفتهم التضامنية مع القناة
خلال الجلسة الثانية لمحاكمتها. وقد تمت مهاجمة التلفزة الوطنية بقناتيها
1 و2 في محاولة للوصاية عليها، فالنهضة تتصرف نفس تصرفات التجمع البائد
وبنفس العقلية ونفس التعليمات. إن من أخطر الأمور –إذن - حملتهم الواسعة
لكبت حرية الصحافة والإعلام التي انطلقت بالامتعاض الشديد الذي عبر عنه
حمادي الجبالي مصرا على تسميته بـ«الحكومي»، كما كان التجمعيون يفعلون
سابقا، كاشفا عن رغبته الدفينة في التوجيه والتطويق وفرض الخط الذي يرونه
مناسبا لهم؛ حيث قال إن على الإعلام "الحكومي" أن يعكس رأي الأغلبية
الفائزة في الانتخابات! وهذا يوحي باستعداد لممارسة الرقابة والإيغال في
محاصرة الرأي الحر والرغبة في التحكم في حرية التعبير، ويفسر لجوء
النهضاويين إلى التحرش السياسي بوسائل الإعلام الذي لم يخضع لضغوط الحركة.
وقد وصل بهم الضجر ذروته، خاصة مع الكلام الخطير الذي أطلقه راشد الغنوشي
عند وصفه الإعلام بالمخرب! ممّا ينبئ باستعدادهم لكتم أنفاسه بأي وسيلة
ربما حتى بقوة الإملاء إذا اقتضى الأمر ذلك.
ولئن
سارت في ركابهم قلة من الأقلام التي تعودت على مسايرة كل من علا الكرسي،
فإن أوسع شريحة من صحفيي تونس وإعلامييها، خاصة من كانوا ضمن الفئات
المشاركة بفاعلية في مسار الثورة، لم تعد تسكت وتستكين حتى لا تسرق منها
أية سلطة حريتها في العمل الصحفي تحت أية تعلة كانت؛ ولذا وصف رئيس الهيئة
التونسية لإصلاح الإعلام والاتصال خطاب حركة النهضة حول دور المؤسسات
الإعلامية العمومية بأنه "لا يدل عن وعي بدور وسائل الإعلام والاتصال في
إنجاح عملية الانتقال الديمقراطي التي "تستوجب إعلاما مستقلا يضطلع
بوظيفته بمنأى عن نزعة الوصاية. إن إصرار الجبالي على التمسك بـ "الإعلام
الحكومي" يبعث على الانشغال، ويبرهن على أن الحكومة الجديدة لم تستخلص
الدرس من تجربة نظام الحكم السابق. وهذا ما جعل الصحفيين والإعلاميين
التونسيين يعتبرون أن الأحداث تؤكد – مرة إثر مرة- الخطاب المزدوج لحركة
النهضة مما يشرع عدم الثقة في هذا الخطاب ويطالبون بوضع آليات قانونية
تكفل ممارسة مهنتهم في إطار الحرية والاستقلالية عبر المطالبة "بإصدار
القوانين التي تنظم عمل الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري
التي ستحمي القطاع وهي هيئة ستضمن استقلالية المؤسسات الإعلامية بالحد من
تدخل السلطة في العمل الإعلامي للقطع مع ما كان يحدث في الماضي من تضليل
ودعاية تحولت معه المؤسسات الإعلامية إلى أدوات في يد السلطة، ويصرون على
نبذهم التام للعمل بسياسة الكتابة بالتعليمات تلك الكتابة المعدة سلفا على
مقاس أصحاب القرار السياسي" تحت أي ظرف أو مبرر.
غير
أن الوزارة الأولى – التي تلحّ حركة النهضة على تسميتها رئاسة الحكومة –
أصرت على تجاهل رأي الصحافيين وممثليهم النقابيين وأعلنت في بلاغ لها يوم
السبت 7/1/2012 عن تعيينات جديدة على رأس المؤسسات الإعلامية. وفي سابقة
هي الأولى من نوعها في البلدان التي شهدت مرحلة انتقال ديمقراطي يتم
التدخل سافرا عن طريق التعيينات الفوقية المفروضة لا في مستوى الإدارة
العامة فحسب بل حتى في خط التحرير أيضا؛ مما يؤشر بأن مرحلة من كتم
الأنفاس وتلوين الصحافة والإعلام باللون الحزبي وبالسلوك الانتهازي
والتملقي وفرض الروح الهووية التي تحدد درجة الاختلاف والانفتاح ضيقا أو
اتساعا باسم الهويّة، قد أعطيت إشارة الانطلاق.
إن
سبعة من هؤلاء المعيّنين الثمانية تجمّعيون ممن تشوبهم شبهات فساد مالي
وإداري وهذه حقائق يعلمها الخاصة والعامة، ومنهم من كان مناشدا صريحا لبن
علي، ولكن الجبالي يعرف أيضا حق المعرفة تاريخهم السياسي الأول وقربهم من
الاتجاه الإسلامي، وهذا هو مربط الفرس؛ فالمثل التونسي يقول: (إذا كنت
خياط تبّع الغرزة)! وأما الثامن فقد اشتغل أول أمره في القناة التونسية
العمومية وهو الآن آت من القناة التي باتت اليوم لدى قطاعات واسعة من
الشعب التونسي رمزا للتدخل السياسي والإديولوجي الخطيرين في العالم العربي
بهدف الانحراف بالثورة عن أهدافها وخدمة أهداف مشبوهة إقليميا ودوليا،
علما بأن وزير الشباب والرياضة كان أحد المعلقين الرياضيين فيها وأن رئيس
مركز الإعلام فيها هو الآن وزير الخارجية في تونس. وبالعودة إلى تلك
القرارات، فيمكن الجزم بأنها أنها فوقية ومرتجلة، تمّت دون استشارة
الهيئات المعنية بل دون انعقاد حتى مجلس وزاري، فهي محض قرار "لحمادي
الجبالي" المهديّ الممهّد السبيل للخلافة السادسة!
وعلى
صعيد الحملات الفيسبوكية المساندة لحركة النهضة وللحكومة، نقرأ مثلا هذا
التهديد والوعيد والحماسة والهجاء الذي أراده صاحبه أن يكون شعرا لكنه لم
يكن كلّه كذلك بسبب اختلال الوزن، ولهذا آثرت إثباته في الكتابة كالنثر
المسجوع، وبعضه جاء شعرا منتحلا من أحد المواقع الإلكترونية وقد أثبته
كذلك في شكل الكتابة الشعرية المتعارف عليها فيما يأتي:
(لن
يهدأ لنا بال والإعلام جاثم على صدورنا: أيا إعلامنا أنت والله رمزٌ …
ولكن للسفاهة والشرورِ، أتهجو شعبنا فوا عجبًا لدنيا … بها الأشراف تُهجى
من حقيرِ، ألا يا سوءة الرعاع أبشروا… فأنتم تخوضون في عرض الأميرِ، فيا
شرّ الدواب والحمير… ويا أذلّ مـن روث البعيرِ فإنّا إن سكتنا فليس عجزًا
… فليس الحِلم إلا من قديرِ.
تعفُّ الأسْد عن جيف الصحارى … وقد يعفو الأمير عن الأسيرِ
وإنا إذا هجونا بثثنا شعـــرًا … قـوافيَ قاصماتٍ للظـهورِ
ألا
أمسك لسانك عنْ تونسنا … وإلا فارتقبْ منا السعيرِ" (انتهى). ويختتم
الهاجي المتوعد بالدعوة الآتية: "اِنضموا لمشروع جمع الإمضاءات لوقف
التمويل الشعبي على تلفزتنا". إن هذا الهجاء وهذا الوعيد، المحكومان بمنطق
الإمارة والحرب وما يشيع فيهما من ألفاظ معجمها بدوي قتالي، يعكسان عقلية
القائل المحرض والمتهجم الذي يعيش بمخياله في الماضي السحيق، ويسعى إلى
شحذ خيال الأنصار بنفس الأخيلة والتصورات التي عاش عليها قسم من الأسلاف
المتحاربين على الرأي والعقيدة، ويهدف إلى تحميسهم وتجييشهم ليكونوا كتلة
صماء تدافع وتهاجم وفق نفس الصورة الذهنية والدوغما والشعارات. إن هذا
الشاهد يذكّرنا بأشعار الحرب والحماسة والهجاء بين المتصارعين كالخوارج
والشيعة والسنة في القرون الخوالي وإذا خففنا من وقعه وازناه ببعض ما جاء
لدى الفرزدق وجرير والأخطل من نقائض. ولكن ما قاله وما ركبه فيه مما
انتحله لا يرقى – بأي حال من الأحوال - إلى تلك الأشعار في جماليات
الأسلوب ولا حتى في عمق الفكرة، وإن قاربتها في المنطلقات والدوافع
والعقلية.
ومن السوابق الخطيرة
لتطويق الحركات الاجتماعية الاحتجاجية، ولحصار المعتصمين من أجل حقوقهم
دون المساس بالممتلكات العامة والشخصية وتركيع المضربين سلميا دفاعا عن
لقمة عيشهم، أنّ محامين قريبين من الترويكا - إن لم يكن انتماء حزبيا فهو
انتماء فكري - شرعوا منذ يوم الجمعة 6 يناير / جانفي 2012 يتقدمون بمجموعة
من القضايا الجزائية ضد ما يطلقون عليه تسمية "الاعتصامات العشوائية" في
كل من قابس وقفصة ومنزل بوزيان وجندوبة. وقد بلغ عدد الشكايات المرفوعة
أربعا ضد عملة في مجالات مختلفة، وقد "أفاد الأستاذ أحمد بن حسانة أنه وإن
كانت بعض مطالب المضربين أو المعتصمين شرعية، فإن المطالبة بها بواسطة
استخدام الإضراب أو القوة في هذه المرحلة بالذات تفقدها الشرعية وتحول مثل
هذه الاعتصامات إلى جرائم يعاقب عليها القانون بالسجن أحيانا مدة 20 عاما،
وقال إنه سيواصل بمعية زملائه رفع مثل هذه القضايا ضد كل من يعتصم أو يحتج
بطريقة عشوائية. وجاء في هذه الشكايات ما يأتي: «حيث وإن كان الحق في حرية
التعبير والاحتجاج مضمونا ولا أحد يجادل في قدسيته من الناحية المبدئية،
إلا أن استعمال الاعتصام على وجه الخصوص بشكل عشوائي وفوضوي واستعمال
العنف وسياسة الأمر الواقع وفي أماكن حساسة من شأنه أن يخرج الاعتصام من
حيز الحق المضمون إلى حيز الجريمة الكبرى وخيانة الوطن والإضرار بأمن
الدولة ومصالحها العظمى". وكان المحامون المذكورون قد رفعوا منذ أسابيع
شكايات مماثلة ضد عدد من المعتصمين؛ جريدة الشروق 7/1/2012
لقد
تناسى النهضاويون وحلفاؤهم معاناة هؤلاء المضربين - حتى لو كانت إضراباتهم
عشوائية- حين احتضنوا في اجتماعاتهم حول الشأن الاقتصادي وجوها من
المتنفذين والبورجوازيين الذين ارتبطت أسماؤهم بالعائلة الحاكمة وبالفساد
في العهد البائد، ولم تتم الإشارة من قريب أو من بعيد إلى مسؤولياتهم
الشخصية في الفساد والاستبداد، بل يبدو أن الحاكمين الجدد يعملون على
إعادة إدماجهم في السياق الجديد باسم إنقاذ الاقتصاد، مانحنيهم عذرية
بمجرد أن بعضهم قال، وبتكبّر، إنه يعتذر للشعب التونسي إذا كان لديه ما
يعتذر عنه، في حين تشير بعض التقارير عن اعترافات أحدهم مؤخرا لأحد معارفه
خلال جلساته الخاصة جدا بأنه صرف في أقل من سنة أكثر من 2.5 مليار كأتعاب
محاماة وأكثر من 3 مليار كتمويلات لأحد الأحزاب وأكثر من 2 مليار كمنح
وعطايا مختلفة لإسكات بعض المبتزين، هذا دون احتساب الأموال التي دفعها
لخلاص صكوك صهره من العائلة الحاكمة، كما أضاف بأنه يملك ملفات قد تورط
عديد المسؤولين ورجال المال والأعمال والمحامين والساسة إذا حاولوا توريطه
وسحب الحصانة القضائية الخاصة عنه، خصوصا وأنه يحتفظ بتسجيلات ووثائق جد
خطرة تجعله فوق المحاسبة. ولسائل أن يتساءل: ترى من يكون هذا الحزب الذي
يتجنب اليوم محاسبة هذه الشخصية؟!
وبالإضافة
إلى ذلك، ففي حين يطلب الرئيس هدنة من الشعب الفقير- الذي أفقره النظام
البائد وزاده فقرا النظام الضريبي المجحف المسلط على العمال والموظفين هذا
النظام الذي مازال لا يحمّل المستفيدين من الأثرياء والوجهاء مسؤولية
حقيقية في خلق الثروة بل يكاد يحميهم ويفتح لهم سبل التهرب من أداء الواجب
الضريبي – يستمر هو والوزير الأول خاصة في إعادة تقريب الأثرياء الذين
شاركوا من قريب أو بعيد فيما آلت إليه الأمور في العهد البائد، صارفين
النظر عن مسؤولياتهم بل متهاونين في محاسبتهم بكل جدية في نطاق القانون كل
بمقدار فعله وانخراطه في نظام الفساد والاستبداد، وقد كانا - ما قبل
الانتخابات - يهاجمان الحكومات المتعاقبة ولا يكفان عن المطالبة بالمحاسبة
قبل المصالحة.
وفيما يخص نظام الأسرة، ظهرت
همسات للعمل على إحداث اختراق ما في مؤسسة الزواج والأحوال الشخصية؛ إذ
أعلن راشد الغنوشي نفسه بطلان التبني ونيّة تعويضه بالكفالة في أثناء
برنامج "الصراحة راحة" مع سمير الوافي على قناة حنبعل. كما صرحت سعاد عبد
الرحيم رئيسة قائمة انتخابية نهضاوية برفض الحركة لظاهرة الأمّهات
العازبات. ويبدو أن بعض النهضاويين المتشددين على الأقل يعملون على تمرير
خفي لفكرة إمكانية تعدد الزيجات عرفيا مستندين في ذلك إلى وجودها على أرض
الواقع في السنوات الأخيرة للحكم البائد؛ إذ كانت مظهرا من مظاهر التفاخر
بالورع الكاذب لدى فئة من أثرياء التجمع الذين اتخذوا زوجات عن طريق
الزواج العرفي بدل اتخاذ عشيقات كغيرهم من بقية التجمعيين كما يزعمون، وقد
نسب إليهم الأولاد نسبة مدنية "سليمة" في سجلات الحالة المدنية في
البلديات. وكأنه كتب على المجتمع العربي أن "يختار" بين أمرين أحلاهما
مرّ؛ فساد التعدد في إطار العشق أو فساد التعدد في إطار الزواج، أو كأنه
لا وجود لرجل يعيش حالة عشق مع زوجته ويكفيان بعضهما حبّا. إنّ الأمر لا
يعدو أن يكون خليطا من أخلاق بورجوازية وإقطاعية بائدة تريد أن تؤبّد
منظوراتها للعلاقات الجنسية ونظام الأسرة. ثم إنهم كثيرا ما يلجؤون إلى
العلم لينطقوه قسرا بما لا صلة له به، تماما مثلما لجأ الطغاة والمتأدلجون
والمتزمتون إليه – بلا جدوى- ليسبغوا على أفكارهم المتهافتة طابع العلمية،
وللإيحاء "بحقيقة" يكدّون العلم من أجل "القول" بها رغم أنفه: أن الرجل لا
بدّ له من علاقات جنسية متعددة، لذلك فإنّ الإسلام ينظّم تلك العلاقات في
إطار تعدد الزوجات إذا "دعت" الحاجة إليه!!! وإذا تم الإقرار بذلك، سواء
أخلاقويا أو علمويا، فمن يستطيع أن يمنع الحاجة من أن تستدعيه؟!
وقد
عادت كذلك إلى الظهور نغمة إيجاد حلول لظاهرة العنوسة وصون الشرف وستر عرض
المرأة بالزواج. كما يحاول المتفيقهون منهم إثبات كثرة عدد الإناث كدليل
لغضب الله على إبطال تشريعاته، بل يذهب البعض - في نوع من المفارقة
العجيبة- إلى القول بأن كثرة نسبة الطلاق هي بسبب الزواج الأحادي! متخذين
من الوعيد بالزواج بثانية وثالثة ورابعة حكمة بليغة في "استقرار" الأسرة
لكونه سيفا نفسيا بيد الزوج يسلطه على زوجته لردعها وجلبها إلى الطاعة بما
وُهِبَ من "قوامة" على الأسرة. ومن غرائب الأمور أن فئة من النساء والبنات
يستبطنّ هذه الدونية، وقد تجدهنّ مدافعات شرسات عنها، بل يعملن كل وسيلة
لتفكيك المكتسبات المدنية لنظام الزواج المدني الرسمي في تونس ونخرها نخرا
بتبني الزواج العرفي. ولا نستغرب إذا سمعنا لاحقا عن زواج المسيار أيضا؛
ففي صدد بداية انتشار الزواج العرفي بين الشباب، يعزى لبعض الذين أقدموا
عليه أنهم يستخدمون وثيقة لتوثيق الزواج العرفي، تتذرع في نصها باللجوء
إليه بسبب "الظروف القاسية"، وتدعو إلى تقبل هذا الزواج بالقول: "دعونا
ننقذ هذا الحبّ وتمنوا لنا زواجا سعيدا"، وقد ورد خبر منسوب لأستاذ جامعي
يؤكد أنه ظاهرة متنامية في الوسط الطلابي، وينبّه إلى ضرورة لفت أنظار
الأولياء والزملاء؛ يقول ما مفاده أنه يوم 10جانفي/ يناير 2012 "بعد أن
قدمت درسي لطلبة السنة الثالثة عربية في كلية الآداب منوبة حدثني الطلبة
عن ظاهرة غريبة مريبة وخطيرة وهي شيوع الزواج العرفي بين الطلبة. قلت لهم
أسهبوا حتى أفهم عنكم أكثر فقالوا: إن الطلبة يقيمون حفلات زواج "شرعية"
بين الطلبة والطالبات يقول الطالب للطالبة: "زوجتك نفسي "فتقول له:
الطالبة "قبلتك زوجا" ثم يتلون بعضا من القرآن ويصبحان زوجين". ويختم
الأستاذ بنداء إلى أولياء أمور الطلبة خاصة، وإلى المنظمات الحقوقية، وإلى
منظمات المجتمع المدني للتحقيق في الظاهرة ومتابعتها.
كما
ظهرت بوادر تقمص وظيفة شرطة الآداب سابقا - التي كانت تستخدم في عهد
الدكتاتور بن علي كرديف للبوليس السياسي- عن طريق جماعة النهي عن المنكر
كبوليس للعقائد وللسياسة معا، كما حصل مثلا في مهاجمة هذه الجماعة لمديرة
إذاعة الزيتونة، وكغض النظر على اقتحام السلفيين للفضاءات الجامعية وعملهم
على تغيير القوانين والأعراف الجامعية التي لا تسمح للمنقبات بحضور الدروس
والامتحانات بالنقاب، ولم ينفضّ اعتصامهم الذي دام قرابة شهر من
عمادة كلية الآداب بمنوبة يوم الخميس 6/1/ 2012 إلا بعد لأْيٍ وبعد اعتصام
مضاد قام به الأساتذة والطلبة أمام وزارة التعليم العالي. ولكن مفاعيل
المسألة مازالت قائمة والقضية ما برحت مرشحة للصراع خاصة بعد دخول طالبات
منقبات في إضراب جوع مؤخرا. وهناك أيضا أحداث أخرى خطيرة دارت رحاها في
معتمدية المكناسي من ولاية سيدي بوزيد تم التهجم فيها على فرقة "أولاد
المناجم" الفقراء والمهمشين وتم تحطيم آلاتهم الموسيقية. وظهور بوادر
إمارة سلفية تقام فيها أحكام السلفية في معتمدية سجنان من ولاية بنزرت،
وقد حاول النهضاويون بكل وسيلة إخفاء هذه الحقائق، وعندما صار من غير
الممكن تغطيتها عملوا كالعادة على التخفيف منها وكأنها مجرد أحداث جزئية
ومعزولة، واتهموا الصحافة التونسية بالتهويل واصطناع الأحداث ولكنهم لم
يستطيعوا الردّ على ديفيد تومسون من فرانس 24 الذي أوسعه سلفيو سجنان ضربا
وقد وردت كذلك تقارير عن هذه الإمارة في جريدتي ليبيراسون و ماريان 2،
وغيرهما من الصحف العالمية.
تعددية الخطاب… تعددية شبكات التنظيم: لقد
بات من قبيل المتعارف عليه من خلال علاقات حركة النهضة بالإخوان المسلمين
وتاريخها المتردد أو المتناوب بين السرية والعلنية وكذلك من خلال حاضرها
الحالي أن لهذه الحركة، التي هي في الوقت نفسه حزب وجمعية دعوية، وجها
رسميا تظهر به في الحوارات مع الأحزاب والهيئات والمنظمات في الداخل وفي
الخارج، ووجها آخر خفيا، لا يعلمه إلاّ خاصة الخاصة، يقوم على تنظيم ذي
تراتبية صارمة، ويتم بواسطته إعداد ذوي الحظوة من الكوادر، فيؤطرهم
ويهيئهم شيئا فشيئا لعدد من المهمات المختلفة كل حسب استعداداته وقدراته؛
فمنهم من يبقى في السرية حسب مقتضيات عمل الحركة ومنهم من يتم إظهاره
للعلن؛ حتى قيل إن النهضة لم تزوّد قواعدها ببطاقات انخراط بل ابتزّتهم
عقائديا بإبرام عقود استعباد بالرضا والقبول الطوعيين بفضل المفعول السحري
للإديولوجيا الخلاصية! فهم ما فتئوا يتعاملون بنظام البيعة والدفاع الأعمى
عن الأخ ظالما كان أو مظلوما كما كان يمارس في عهود سيادة النزعات
العشائرية المغلقة - إذ من المعلوم أن نصرة الأخ الظالم هي بنصحه وتوجيهه
إلى الكف عن ظلمه بل رده عن الظلم ولو بالردع، لا تشجيعه على التمادي فيه
بالمساندة أو حتى بالصمت عن أفعاله- وهذا واضح منذ ما قبل الحملة
الانتخابية وخلالها، ويظهر حتى لدى كوادرها بل نوابها في المجلس التأسيسي
وفي أداء قياداتها من خلال طريقة وآليات إدارتهم للشؤون الحكومية؛ لذلك
يمكن الجزم أن حركة النهضة مازالت هي هي في العمق والجوهر جماعة إخوانية
لم تحد عن منطلقاتها الرئيسية ولم تغير شيئا كثيرا وعميقا من مسالك عملها.
ثم
إن للحركة تنظيما شبه عسكري، يبدو كأنه ذراع ميليشوي غير معلن، وقد يضم في
أكنافه عناصر متحمسة وشديدة التزمت لا تختلف كثيرا عن السلفية. وهو يظهر
في مناسبات محددة كمناسبة المظاهرات لاسيما التي نظمت ضد قناة نسمة بعد
عرضها لفيلم برسيبوليس أو في أثناء حملتهم في الانتخابات الماضية، وكذلك
في التحرك المضاد لاعتصام باردو1، والتهجم على الاتحاد العام التونسي
للشغل قبيل مؤتمر طبرقة وذلك بغرض إرباكه وتعطيله عن أداء دوره الاجتماعي،
وتستعاد الكرة مرة إثر مرة قبيل احتفاله بالذكرى تأسيسه، وكذلك التحرك
المضاد للحركة الاحتجاجية للإعلاميين أمام قصر الحكومة بالقصبة كما سبق أن
أشرنا، وكذلك التحرك المساند لوزير الداخلية، وإحياء ذكرى الثورة في
14جانفي2011 واحتجاج نظموه مؤخرا أمام القناة التلفزيونية الوطنية. وهنا
يمكن القول إنه بالنسبة للمحيط العربي فحماس والتنظيمات الإخوانية الأخرى
بل حتى الشيعية كحزب الله هي مصدر إلهام للنهضاويين على الصعيد الحركي،
أما في السياق التونسي فليس لحزب النهضة – على ما يبدو- اختلاف جذري مع
طريقة أداء التجمع المنحلّ؛ لذلك ترى كثيرا من التجمعيين قد التحقوا بهم
قبل الانتخابات وبعدها، ويبدو أنّ أغلبهم يتحوّلون إليهم شيئا فشيئا، وهو
ما تعكسه شعارات عديدة يرفعها خصوم النهضة ومنها شعار شهير صيغَ في شكل
النكتة الآتية: "صحّة اللحية يا تجمع!" .
إن
كل هذا يوحي بأن النهضة – خاصة إذا كتب لها الاستمرار طويلا في الحكم-
ستنتهي إلى نسخة جديدة للتجمّع البائد، بحيث ستكون الخارطة الحزبية مشكلة
على النحو الآتي:
- تنزوي في الحزب ثلة من
الإطارات القلة "الأوفياء" للمنطلقات الأخلاقية والدعوية للحزب في الذين
يتحدثون عن الدين الحنيفي السمح "شريعة وعقيدة وأخلاقا"؛ إذ سيجدون أنفسهم
يتناقصون رويدا رويدا ويمكن القول إنهم سيمثلون الجناح الضامر للدعاة
السلميين المسمّين "معتدلين".
- وسينحو أغلب
النهضاويين -خاصة من كان في أقصى اليمين منذ البداية - أكثر فأكثر إلى
مزيد من التطرف. وربما يتركون الحزب إلى أحزاب سلفية أو تحريرية؛ وقد نجد
في مداخلة أحد نواب النهضة في المجلس التأسيسي يوم 23/1/2012 حول
المعتصمين والمضربين من أجل لقمة عيشهم نموذجا دقيقا على هذا التوجه الذي
سانده عدد هائل من أنصار الحركة على صفحات الفيسبوك، فقد شكلت المداخلة
الخطاب الأشد صراحة من ضمن خطابات النهضاويين إلى حد الآن، وهو خطاب جهادي
حماسي وتقليدي لا يستوعب ما يسميه العلماء المعتدلون فقه الواقع وفقه
الدعوة، كما يشير أحد المعلقين ويضيف قائلا: "ما كان لمسؤول سياسي ونائب
للشعب أن يصدر عنه هذا المضمون في سياق سياسي محتقن ومناخ اجتماعي مشحون"،
في حين يعتبره آخر "لحظة خطيرة بكلّ المقاييس؛ فاستشهاد النائب بآية كريمة
(إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا
أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا
مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي
الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) المائدة/33، خارج سياقها يدفع لدوّامة من
العنف ويبيح أرواح الناس !، ولقد انتصر لهذه المداخلة الراديكاليون
النهضاويون كما في الشاهد الآتي وغيره كثير: " أعتقد أن الإسلامي الوحيد
في حركة النهضة هو الصادق شورو، والبقية أمرهم مشكوك فيه، فحركة النهضة
أبعد ما يكون حتى عن الإسلام الذي يعتبره الجهال معتدلا [كذا!] إذ هي
منبطحة للغاية …. وإني بعد ما رأيت من تنازلات النهضة وانبطاحيتها وتجمع
الخصوم على مهاجمتها والسعي إلى إفشالها، ونظرا أيضا إلى ابتعادها عن خطها
الإسلامي حتى أصبحت تكاد تكون حركة علمانية أدعو إلى تكوين حزب إسلامي
جديد على الأقل حتى لا تفشل التجربة الإسلامية في تونس لا قدر الله، لا
يكون عدوّا للنهضة بقدر ما يكون معينا لها على أعدائها وعلى نفسها من أية
تنازلات، أخرى كما أدعو الإخوة السلفيين إلى تكوين حزب سياسي جديد يضمهم
"، فقد أثارت في الوقت نفسه موجة من الاستنكار العميق لدى الرأي العام من
مفكرين وحقوقيين وصحفيين وفنانين وأكاديميين وعامة الناس حتى إسلاميين
معتدلين في النهضة وخارجها، وستثير كثيرا من التحليلات والاستنتاجات. وقد
أدانت بسببها "الجمعية التونسية للتنمية الديمقراطية وحقوق الإنسان" صمت
رئيس المجلس التأسيسي إزاءها، واتهمته بالعجز والتقصير والتحيز، وطالبته
بإيقاف النائب وبشطب المداخلة من محضر الجلسة، منبهة إلى أنها دعوة صريحة
لسفك الدماء وبذلك فهي تشكل خرقا لقانون المجلس نفسه وسابقة خطيرة قد يفهم
منها دعوة صريحة للإخلال بالأمن العام والاحتراب، وحمّلته مسؤولية ما قد
يترتب عنها من منزلقات وخيمة العواقب.
- ولا
يغر الناظر المدقق في شيء أن النهضاويين "كثيرو" الأنصار، فإن ذلك يتم عبر
تكديس هؤلاء الأنصار لمجرد التعبير عن الانتماء للإسلام السياسي في شكله
البسيط جدا؛ إذ يكفي أن يربط الفرد بين الدين والدولة ويعتبر أن الدولة
تخضع للدين حتى ينتمي إليهم. إن شأنهم في ذلك لا يختلف كثيرا عن شأن قواعد
التجمع الزائل إلا في الشعارات والمرجعيات؛ فهم مثلهم وأحيانا كثيرة هم
هم، حطب القطار ووقود القاطرة، في حين يمسك بزمام القول الفصل أرباب
النفوذ العائلي المرتبطين بالمصاهرة والقربى مع الغنوشي، والولاءات للقوى
الإقليمية والدولية. وأما عن المتعاطفين فحدث ولا حرج؛ فالنهضاويون
يجبلونهم جلبا عشوائيا دون أدنى التزام فكري معين، وربما بوليمة من
الولائم أو بتوزيع بعض العطايا أو بوعد بوظيفة أو بتنظيم لختان أطفال أو
لعرس جماعي…إلخ مما كشفت عنه خاصة الحملة الانتخابية السالفة.
-
وفي الوقت نفسه من الواضح أنه بُعيد الثورة ومنذ أن صرح راشد الغنوشي
بتصريح موارب يقبل فيه قواعد التجمع لأنهم لا يتحملون أوزار قيادته، بدأ
يتراكم في الحزب كثير من الانتهازيين والمنافقين. وهؤلاء نشؤوا حزبيا في
بيئة متعفنة من الولاء الكاذب والمحسوبية، فهم يتقنون فنون التّملق إلى
درجة احتلال المواقع بل تسلق المناصب وسنراهم يميلون مع التوجهات المختلفة
داخله بحسب غلبة أحدها وسيادته على التوجهات الأخرى؛ وهكذا نرى أن حزب
النهضة بميكانيزماته العائلية والولائية لا يختلف في شيء واضح عن التجمع
البائد وعن الأحزاب التي تنتهي دكتاتورية عاتية تحكمها عائلات سائدة
وعلاقات مصلحية ودغمائية ضيقة ومغلقة. وقد بدأ هذا يظهر كما هو واضح من
خلال "نظرية التدافع" في المجتمع التي ينشرها زعيم الحركة من أجل الأسلمة
في حين يتعامل مع الخارج بقفازات الديمقراطية ولغة المصلحة وترتيبات
الموائد والفوائد.
هكذا يمكننا الاطمئنان إلى
القول إن تحت سطح التنظيم والتنظم في الظاهر فوضى من التوجهات المتناقضة
المتضاربة العميقة. ومن أسبابها أن حركة النهضة لا تملك نظرية سياسية أو
فكرية معلومة كالنظرية البعثية أو الناصرية أو الماركسية أو حتى ولاية
الفقيه، ولا خطا نضاليا واضح المعالم، ولا رؤية مبدئية للتحالفات والعمل
الجبهوي ذي الهدف الشعبي. إنهم يجمعون الشيء ونقيضه، ويؤلفون بين أفكار
مختلفة من مصادر قد تكون متباعدة دون إيجاد لحمة بينها بالضرورة؛ وهذا ما
يفسر ارتباكات عديدة يحتاجون بعدها للتوضيح والتأويل والتمحّل في اختلاق
الظروف وافتعال التبريرات، حتى قيل عنهم إن كل تصريح لأحد قادتهم يحتاج
إلى ما يقرب من علم "أسباب النزول" ، وحتى سمي الناطق الرسمي سمير ديلو
بأنه "المكذب الرسمي " أو -بصيغة ألطف- الشارح والمؤول الرسمي.
ومن
أمثلة التداخل والاضطراب في أداء شبكة الحركة/ الحزب/ التنظيم/ الحكومة أن
"يقرر" وزير الداخلية إقالة إطار أمني تمهيدا لمقاضاته وذلك تحت تأثير
الحزب وإطاراته وأنصاره الذين باتوا "ضجرين" من تهمة تهاون الحكومة مع
قتلة الشهداء أو هكذا يدّعون بسبب ضغط الشارع عليهم والهمسات التي صارت
ضجيجا يبلغ مسامعهم، ولكن يتفاجأ الناس بتصريح الناطق الرسمي باسم الوزارة
يكذب ما راج عن القرار، وتهربا من الوزير من التعامل مع الإعلام العمومي
-باعتبار القراءة النهضاوية القائلة بأن هذا الإعلام الذي يسميه حكوميا
-زلة من لسانه وما أكثر زلاته!- هو من صنف الإعلام المخرب كما جاء على
لسان رئيس الحزب، وأنه واقع تحت سيطرة اليسار كما يروّجون لذلك في
الفيسبوك- يلقي ذلك الوزير خطابا يوم 12 يناير/ جانفي ليلا على غير
العادة، وتحمله صفحة فايسبوك تابعة للحزب الحاكم على غير عادة البلدان
التي تنحو نحو الديمقراطية. ولكن الوزير – وهذا منتهى المفارقة- لا يقول
في ذلك الخطاب شيئا عمليا وواضحا حول مسألة الإقالة تلك، وإنما يسرد حديثا
غامضا عن الإصلاح وإعادة توزيع المسؤوليات في الوزارة. وعلى إثر ذلك
التصريح، ورغم غموضه، تحتفي الصفحات التابعة للحزب بقرار "التطهير"
المزعوم، ويشرع أنصار الحزب وأعضاؤه بل حتى بعض نوابه في التأسيسي في
المناداة عبر الأنترنت لمظاهرة أمام وزارة الداخلية مساندةً لوزير
الداخلية ضد أعوان الوزارة ونقاباتها، وفي تلك المظاهرة يتم الاعتداء على
صحافي ونائب في المجلس التأسيسي…
ثم إن الوزير
يتمادى في فعله الخارق للمألوف البروتوكولي عندما يخرج ليلقي خطبة في
جمهور حركة النّهضة الذي جاء تلبية للنداء، ولكي يكسر تجمعا كان يريد
تنظيمه بعض أعوان الوزارة مساندة لزميلهم أو رئيسهم المنتظر إقالته في ذات
الوقت، ناسيا الوزير أو متناسيا أنه وزير الدّاخليّة ورجل الدّولة، ضاربا
حيادية وظيفته في الصميم… فماذا كان من أمر تلك المعمعة ؟! الطريف فيها أن
يتمخض الجبل فيلد فأرا؛ فالإطار الأمني المعني والمتهم بقتل شهداء الثورة
يصدر فيه قرار نقل من الوزير نفسه لوظيفة أخرى ملحقة بديوان الوزير، يعني
شبه ترقية، ويخرج في اليوم الموالي على إذاعة "موزاييك أف أم" لا ليعلن
براءته فحسب بل ليعتبر نفسه ضحية مكيدة اليسار المتطرّف الذي يريد إقالته
في حين أن الصارخين بمساندة الوزير كانوا هم النهضاويون!! أفليس هذا
أغرب من العبث كما وصفه ألبير كامو!؟ وأدعى إلى الغثيان الذي عبر عنه جون
بول ساتر؟!… وعندما يحدث هذا أليس للمرء أن يتساءل عن المغزى والهدف
والخطة وعن أي أجنحة التنظيم هي التي تتحرك؛ هل هي الحركة أم الحزب أم
الميليشيا؟ وعلى أية إيقاعات يمكن أن تؤدي بالبلاد؟ لقد "نسي" نواب النهضة
في المجلس التأسيسي يوم 20/1/2012 أنهم من المفترض أن يكونوا القيمين
الساهرين على إشاعة المبادئ الديمقراطية التي يلوكونها صباح مساء، ورفضوا
التصويت على لائحة تدين الاعتداء بالعنف المادي والمعنوي على زميلهم محمد
البراهمي النائب عن حركة الشعب الذي تعرض له في أثناء مظاهرة المساندين
لوزير الداخلية من طرف الميليشيا النهضاوية : أفلا يكون هؤلاء النواب
النهضاويون بهذا الصنيع طرفا أساسيا وقدوة هامة في تنامي الاعتداء
الميليشوي على المجتمع برمته؟! ومن العبارات التي قالها الجبالي –مراوغة-
في خطاب الافتتاح يوم تنصيب الحكومة المؤقتة أن الحكومة ستعمل على تحييد
بيوت الله عن الشأن السياسي، في حين أن انتخابات النهضة دارت كلها من
المسجد إلى المسجد، وها هي يوم 20/1/2012 توزع بيانا في المساجد عقب صلاة
الجمعة يتحدث عن "الحكومة ومنجزاتها"! ويحمل الوعيد للمضربين والمعتصمين
وتهديدا للشعب بالشعب !!!
وللتعليق بصورة
إجمالية وموجزة عن كل هذه التحركات أقول: إذا تحرينا المسيرات أو
المظاهرات في جميع الدول الديمقراطيّة لن نجد واحدة تساند الحكومة،
فالمسيرة أو المظاهرة ليست أنشودة حماسية مساندة لقرار يتّخذه الحاكم
ومناشدة لمانح الرفاهة والسعادة. إن المظاهرات والمسيرات في جوهرها احتجاج
على السلطة؛ أية سلطة سياسية يمينية كانت أو يسارية، لسبب بسيط هو أنه لا
يجوز منطقيا جمع السلطة والاحتجاج على من هم تحت السلطة في يد واحدة، وإذا
رافق ذلك حرمان من هم تحت السلطة من حق الاحتجاج فانتبه، فأنت في قلب
ا