سيف دعنا
وظيفة سياسية لا اقتصادية
اقتصاد عسكري وبنية عدوانية
كولونيالية اقتصادية
استتباعا لنقاش "الصهيونية الثقافية" سابقا, هذه مقدمة للصهيونية الاقتصادية أحد محاور المشروع الصهيوني على أرض فلسطين. حسب السيناريو المقترح, هناك علاقة وثيقة ومستمرة بين موقع ووظيفة "إسرائيل" في النظام الرأسمالي العالمي والبنية الاقتصادية للمشروع الصهيوني من جهة والعدوانية الصهيونية المتمثلة بالحروب المستمرة على العرب من جهة أخرى.
وظيفة سياسية لا اقتصادية
تحتل "إسرائيل" موقعا وسطيا في النظام الرأسمالي العالمي (بين دول ما يسمى المركز الرأسمالي ودول المحيط) أو موقعا نصف محيطي بحسب تسمية نظرية "النظام العالمي". احتلال أي موقع في هذه التراتبية يفترض أساسا دورا اقتصاديا في النظام العالمي يقاس عادة بمدى مساهمة الدولة في الإنتاج العالمي, أو يتحدد بطبيعة النشاط الاقتصادي السائد فيها (نشاط صناعي لدول المركز, زراعي لدول المحيط, وإما مختلط أو صناعي له مردود أقل لدول نصف المحيط).
حسب هذا التصنيف تبدو إسرائيل غير مهمة على الإطلاق, ولو اختفت ومعها كل اقتصادها من المشهد لن تتأثر عملية تراكم رأس المال العالمي على الإطلاق. اللاأهمية الاقتصادية لإسرائيل في سياق المشهد الاقتصادي العالمي وفي ذات الوقت احتلالها موقعا وسطيا في النظام الرأسمالي العالمي, والذي يعكس نفسه في معدل الدخل المرتفع نسبيا ودعم دول المركز الرأسمالي السياسي والعسكري شبه المطلق لها, يتطلب تفسيرا.
قلة من الدول التي تحتل الموقع الوسطي في النظام الرأسمالي العالمي مثل جنوب أفريقيا في فترة نظام التمييز العنصري وإسرائيل لا تمتلك الشروط الاقتصادية التي تؤهلها لاحتلال هذا الموقع, رغم أن بعض المؤشرات الاقتصادية مثل ارتفاع معدل الدخل الفردي, الذي يمكن أن تكون قراءته مخادعة, تشير لعكس ذلك.
احتلال الموقع الوسطي في النظام العالمي قد يكون أحيانا, كما هي حالة "إسرائيل" بسبب دور سياسي أو عسكري إقليمي تلعبه هذه الدول لمصلحة دول المركز الإمبريالي, أو نيابة عنها، بمعنى أن أهمية هذه الدول هي في لعب دور الشرطي في منطقة أو إقليم ما لضمان وتسهيل استمرار عملية تراكم رأس المال العالمي, وليس مساهمتها الاقتصادية المباشرة, وطبعا تحصل بالمقابل على أجرها بشكل مساعدات اقتصادية وعسكرية, وحماية سياسية.
المعطيات الاقتصادية التي يوفرها البنك الدولي لا تعطي إسرائيل موقعا متميزا أو حتى متقدما في منطقة الشرق الأوسط, حتى لا نقول في العالم. تأتي إسرائيل في الموقع الرابع في الإقليم بناتج قومي محلي 199 مليار دولار (أقل من 0.3 من الإنتاج العالمي المقدر بأكثر من 60 تريليون دولار عام 2008), مسبوقة بتركيا في الموقع الأول (794 مليار), والسعودية في الموقع الثاني (467 مليار), وإيران في الموقع الثالث (385 مليار), وقريبة جدا من المركزين الخامس والسادس للجزائر (174 مليار) ومصر (163 مليار).
وفي نفس الوقت تتمتع كل من هذه الدول (باستثناء إسرائيل) بقاعدة بشرية لا يمكن "لإسرائيل" أن تمتلكها حتى لو هاجر إليها كل يهود العالم (يقدر عددهم مع يهود إسرائيل بحوالي 13 مليونا).
مقارنة الإمكانيات الإسرائيلية بالإمكانيات العربية تتوجب أن تزيل أي وهم بقوة الكيان الصهيوني الاقتصادية, فالناتج القومي المحلي لخمس عشرة دولة عربية في عام 2008 وصل إلى 1650 مليار دولار تقريبا, أي أكثر من ثماني أضعاف الناتج المحلي الإسرائيلي (وهذا يستثني دولا عربية كبيرة وغنية مثل العراق لعدم توفر معلومات دقيقة) أو 1.8 تريليون دولار لكل الدول العربية حسب التقرير الاقتصادي العربي الموحد, أي أكثر من تسعة أضعاف إسرائيل. ولو أضفنا العامل البشري, الذي لا يمكن لأي دعم عالمي أن يوفره لإسرائيل, لتلك المعادلة, يتوجب رفض الأفكار السائدة في المنطقة وعن المنطقة التي دأبت على بث الرهبة من إسرائيل وإمكاناتها.
ومن يعترض على منطق هذه المقارنة التي تفترض أن دور إسرائيل سياسي وعسكري إقليمي يستهدف ويعادي كل العرب, وبالتالي ضرورة وحتمية عربية, لا فلسطينية, الصراع مع إسرائيل, يمكنه مقارنة الناتج المحلي الإسرائيلي بالناتج القومي المحلي لدولة عربية واحدة كالسعودية ليكتشف أن ناتجها المحلي (وكذلك إمكانياتها البشرية) أقل من نصف الناتج المحلي السعودي (تقريبا 42%) وإمكاناتها البشرية أيضا أقل بكثير (25% للسكان اليهود).
اقتصاد عسكري وبنية عدوانية
تميز الاقتصاد "الإسرائيلي" ومنذ البداية بانحياز شديد للعسكرة, ليس فقط بسبب الارتفاع النسبي لمعدل الربح في هذا الحقل حتى بداية الثمانينيات من القرن الماضي, بل كذلك بسبب الطبيعة السياسية والعسكرية, لا الاقتصادية, لدور الكيان الصهيوني في النظام الرأسمالي العالمي.
هذا طبعا يفسر جزءا من الطبيعة العدوانية الأصيلة للصهيونية ومشروعها (البنى الأخرى كالثقافة تفسر الباقي) ويفسر استمرار الصراع العربي الإسرائيلي وفشل كل محاولات التسوية برغم التنازلات العربية الهائلة, وبرغم استعداد أغلب العرب للاعتراف بإسرائيل منذ العام 1949 كما يوثق المؤرخون الجدد.
طبيعة الاقتصاد الإسرائيلي, والتي تعكس طبيعة وبنية ودور الكيان الصهيوني العدواني, شكلت ومنذ البداية أحد حوامل الصراع وأسباب استمراره, وبعكس ذلك ستفقد الصهيونية مبرر وجودها. بمعنى, لا يمكن للصهيونية ومشروعها المتمثل "بدولة يهودية" إلا أن يكون عدائيا, ومن يرى عكس ذلك لا يمكنه تفسير بنية الاقتصاد الصهيوني المنحازة عسكريا والتبعات السياسية لذلك, التي تترجم على شكل حروب وعدائية مستمرة.
الحقائق والأرقام تتحدث عن نفسها, فنسبة الإنفاق العسكري الإسرائيلي من مجمل الناتج المحلي كانت تفوق أي أمة أخرى, فلقد كانت 13% في منتصف الخمسينيات, و22% في نهاية الستينيات, 32% في السبعينيات, و24% في الثمانينيات برغم معاهدة "السلام" مع أكبر الدول العربية وتبني العرب ومنظمة التحرير لنهج التسوية منذ منتصف السبعينيات.
ومنذ نهاية الثمانينيات وحتى 2008 كانت نسبة الإنفاق العسكري الإسرائيلي من مجمل الناتج المحلي (ما بين 15.4%-8.12% بين عامي 1988-2008) متجاوزة معدل الإنفاق العالمي (تقريبا 3.65% عام 1990، و2.43% عام 2008) بعدة أضعاف, حسب معطيات البنك الدولي, برغم الاتفاقيات مع بعض الدول العربية ومنظمة التحرير.
بمنطق مقارن, الإنفاق العسكري للفرد في "إسرائيل" كان ضعفي الإنفاق الأميركي وأربعة إضعاف الإنفاق البريطاني, والفرنسي, والألماني في أوج الحرب الباردة. كذلك عدد العاملين في الجيش من (كل ألف مواطن) كان خمسين في "إسرائيل" وهذا خمسة أضعاف الولايات المتحدة وفرنسا, وعشرة أضعاف بريطانيا في أوج الحرب الباردة (انظر: فضل النقيب, الاقتصاد-السياسي للمشروع الصهيوني). هناك ارتباط وثيق إذن, بين بنية هذا الكيان وطبيعته العدائية, لأن الحرب والعدوان كانت ولا تزال, صناعة مربحة.
في المرحلة الأولى من التاريخ الاقتصادي الإسرائيلي التي استمرت منذ تأسيس "الدولة" وحتى نهاية الستينيات وبداية السبعينيات لم تشكل الاستثمارات العسكرية -حيث تركزت استثمارات الشركات والبنوك الإسرائيلية الكبرى- أكثر النشاطات الاقتصادية ربحا فقط (لأن كل ما عدا ذلك كان فاشلا بالمنطق الاقتصادي) بل ترافقت كذلك مع التوسع الاقتصادي "الإسرائيلي" العام, وبالتالي كان لها دور ماكرو-اقتصادي, بمعنى أنها ساهمت في توزيع العائدات وإنعاش النشاطات الاقتصادية الأخرى. كل "المجتمع الإسرائيلي" استفاد من صناعة الحرب والعدوان على العرب.
في المرحلة الثانية, منذ بداية السبعينيات, استمر تركيز استثمارات الشركات والبنوك الكبرى في الصناعات العسكرية, برغم انعدام أي دور ماكرو-اقتصادي في هذه المرحلة, وبالتالي نهاية أي تأثير لها على التوسع الاقتصادي العام بسبب التغيرات الاقتصادية العالمية. هذا الوضع الجديد هو الوصفة الكلاسيكية لصعود الفاشية.
في هذه المرحلة بدأ يتشكل ما سماه غرشون شافير ويوئاف بيليد "إسرائيل الجديدة" وهي باختصار "إسرائيل النيوليبرالية" وهو نظام يتميز بالتوسع الخارجي اقتصاديا (أي أن ما يسمى بعملية السلام هدف لإخراج إسرائيل من أزماتها عبر تشكيل تحالف وسوق إقليمي مع النخب الاقتصادية العربية, لا صنع السلام) والمحافظة والعنصرية المفرطة اجتماعيا وسياسيا (وهذا يفسر التركيبة الحزبية في الكنيست منذ نهاية السبعينيات).
الأهم, هذه المرحلة شهدت صعود وهيمنة شريحة اجتماعية جديدة في "إسرائيل" لا تزال استثماراتها العسكرية كبيرة, وعبر عنها سياسيا صعود حزب الليكود للسلطة (انظر: جوناثان نيتسان وشمشون بتشلر, الاقتصاد السياسي لإسرائيل).
ليس هناك ما هو أوضح على العدوانية الإسرائيلية, كنتاج للبنية الاقتصادية وبنية المشروع الصهيوني ككل, من الحرب على لبنان في 1982. إسرائيل كانت مضطرة لغزو لبنان لأسباب إستراتيجية, يقول الخبير العسكري يانيف أفنير, بسبب حملة السلام التي شنتها منظمة التحرير وقبولها بمشروع الدولتين.
بمعنى أن الحرب لم تكن من أجل "سلامة الجليل" كما ادعى الكيان الصهيوني, بل من أجل استمرار احتلال الضفة والقطاع, كما يشير نورمان فنكلستين. فمنذ 28 يوليو/تموز 1981 وحتى 9 مايو/أيار 1982 التزمت منظمة التحرير بوقف غير معلن لإطلاق النار ولم يحدث أي هجوم على إسرائيل طوال تلك الفترة.
في المقابل, سجلت مصادر الأمم المتحدة 2125 خرقا إسرائيليا للأجواء اللبنانية و652 خرقا للأراضي والمياه اللبنانية, كما وثق تشومسكي. الرد الإسرائيلي على كل حملة سلام عربية كان دوما الرفض والعدوان, فالوثائق الإسرائيلية التي كشفها المؤرخون الجدد تشير لعروض سلام واستعداد رسمي عربي للاعتراف بإسرائيل منذ عام 1949.
هذا يعني فيما يعني أن كل زعم بخطر وجودي أمني يتهدد "إسرائيل" في ظل الظروف العربية الراهنة تحديدا, ليس أكثر من دعاية هدفها تبرير استمرار الاعتداء على العرب وتبرير استمرار البنية المنحازة عسكريا للاقتصاد الصهيوني.
طبعا لا يتوجب لهذه الأرقام أن تخيف أحدا. لو افترضنا جدلا أن الصراع مع الكيان الصهيوني هو عسكري فقط, وهذا طبعا غير صحيح, فليس على العرب, بحسب المعطيات المتوفرة والتي تعطيهم تفوقا هائلا في الناتج المحلي والإمكانات البشرية, سوى الإنفاق عسكريا بما يقارب المعدل العالمي (2.43% عام 2008) فقط حتى يتجاوز الإنفاق العسكري الإسرائيلي بحوالي الضعفين.
وهذا طبعا, لمن لا يعرف, أقل بكثير مما أنفق وينفق العرب على التسليح, فمعظم الدول العربية تتجاوز معدل الإنفاق العالمي (باستثناء مصر 2.29% , ليبيا 1.1% عام 2008) وبعضها أنفق نسبيا وكميا مؤخرا أكثر من إسرائيل (السعودية 15.2% عام 1988 إلى 8.17% عام 2008, عمان 18.3% عام 1988 إلى 11.3% عام 2006) والإنفاق العربي مجتمعا تجاوز أحيانا خمسة أضعاف الإنفاق الإسرائيلي.
ولكن لأن أسباب وأهداف الإنفاق العسكري العربي تترافق مع غياب إستراتيجية مواجهة عربية فهي غير فعالة وليست أكثر من تبذير للأموال. إيران, مثلا, التي تشكل مصدر قلق عسكري جدي للغرب ولإسرائيل لا تنفق أكثر من المعدل العالمي (2.47% من إجمالي الناتج المحلي عام 2008). بمعنى أن غياب أي مشروع عربي أو حتى قطري مدعوم عربيا لمواجهة إسرائيل هو مصدر قوة "إسرائيل" وليس العبقرية الإسرائيلية.
كولونيالية اقتصادية
بالإضافة إلى مركزية الاقتصاد الحربي في بنية الكيان الصهيوني, سأذكر باختصار شديد (لضيق المجال هنا) حالتين, تشير كلها مجتمعة, وبغض النظر عن أي إعلان للنوايا أو الدعاية, إلى وجود قوى مركزية, فاعلة, ومؤثرة في إسرائيل تتعارض مصالحها بنيويا وإستراتيجيا حتى مع مبدأ التسوية التي لا تعطي الفلسطينيين شيئا.
مؤسسة الجيش الإسرائيلي: إضافة إلى السلطة المطلقة التي تتمتع بها المؤسسة العسكرية وأقل الضباط شأنا في الجيش، كون الضفة والقطاع تتبع وزارة الحرب الإسرائيلية, فإن للجيش كمؤسسة وأفراد مصلحة كبيرة في استمرار الاحتلال بأي شكل.
للتمثيل فقط, فإن ضابطا إسرائيليا بعمر 45 عاما يتقاعد من الجيش برتبة عقيد يحصل على مبلغ يقارب المليوني دولار, إضافة إلى راتب تقاعدي لمدى الحياة, ووظيفة جديدة في مجلس إدارة إحدى شركات الأسلحة أو الأمن (أنظر: إسحاق لاؤور, كسر الصمت). ليس للجيش مؤسسة وأفرادا, أي مصلحة إذن في إنهاء الصراع, بل العكس هو الصحيح.
المستوطنات والمستوطنون: إضافة لكون المستوطنات أحد آليات السيطرة على الأرض, فهي تشكل أحد أسس وعوامل جذب الاستثمارات. فالدعم الحكومي الكبير للمستوطنات المترافق مع سرقة الأراضي العربية مسؤول عن توفير البيئة المناسبة لشركات كبيرة مثل ماتريكس التي تبحث عن أيد عاملة رخيصة في بيئة غربية (لأن إسرائيل كيان غربي) تنافس الأجور في آسيا.
كذلك تشكل العقارات والبناء أحد أهم القطاعات الاقتصادية الإسرائيلية, وتشكل المصادرة والنهب المستمر للأراضي العربية, مصدرا لمعدل ربح مرتفع نسبيا، وهذا ما يفسر استمرار إقبال البنوك ورؤوس الأموال الكبرى على الاستثمار في هذا الحقل.
ليست المستوطنات, إذن, مجرد تجمعات لمجموعات من العنصريين والمتطرفين فقط يحتاج إخلاؤها لقرار سياسي شجاع كما يقال, بل هي أحد أسس الاقتصاد الصهيوني ومصدر أرباح واستثمار قوى اقتصادية وبنوك كبيرة مؤثرة خارج المستوطنات (انظر: غادي الغازي, الصهيونية الخارجية: هشام نفاع, أخطبوط الاستيطان ورأس المال خلف الجدار).
في كل مجتمع تتربح مجموعة ما من الحرب والعدوانية والنهب (مثلا, التجمع العسكري الصناعي في أميركا), ولكن في حالة "إسرائيل", نحن أمام كيان مؤسس على العدوانية وهي جوهر بنيته ووظيفته ومبرر وجوده.