أن مستويات الغياب تتدرج في متن الرواية لتعطي أعماقا فاعلة دالة، تأتي على خلفية مكان واحد يتشرذم وينقسم إلى أشكال تعبيرية وصفية تعانق إشكالياته، وحالاته المتوزعة بين الحضور والغياب أيضا، فالمكان هنا دال وإشاري، بالرغم من تجسده في أغلب الأحيان من خلال تضاريسه الماثلة والتي يجسدها السارد ببراعة بثه لها في متن سرده، بحيث تكون خادمة للنص الروائي.
كما يلعب الربط بالزمن بمستوياته ووحداته المتوزعة بين الماضي، وحاضر السرد، والمستقبل دورا فاعلا في التلاحم بين تلك المراحل الزمنية التي يغربلها النص من خلال تيمة الرسائل لتأتي هذه الحالة السردية المشتبكة بالزمان والمكان، ومن ثم اكتمال دائرة السرد الروائي، ومن خلال تلك الشخصيات الغائبة التي تمثل المراحل الثلاث التي ينقسم إليها الزمن، وتتمحور من خلالها الأحداث التي تتأرجح بين زمني السرد الهلامي، غير محدد المعالم، وأزمنة الحكي الموغلة والمتقاطعة نفسيا مع هذا التيار السردي الرئيسي الذي كما أشرنا يعتمد تيمة الرسائل من طرف واحد غالبا، يشاركه طرف آخر في ذلك بعض الوقت، لتأصيل الإحساس بالوحشة وضيق الأفق بالرغم من قوة البحث وعزم المضي فيه.
يتوجه النص بداية نحو المستقبل أو الشخصية التي يتوجه إليها جُل الخطاب الروائي، والمتمثلة في الشاب "حنظلة" تلك الشخصية التي لا تبدو إلا من خلال توجيه الخطاب إليها، ولا يحدد النص سماتها ـ التي لا تتجلى، إلا مع نهايات النص الروائي، وبنوع من الضبابية ـ والتي يراد بها تعميم الخطاب ليشمل هذا الجيل الجديد من أبناء الوطن، والذي يغادر لمحاولة تغيير وجه الوطن بالعلم، بعدما شوهته الحروب والصراعات، وذلك بتحديد بداية الفترة الزمنية التي ينطلق منها السرد أو الاسترجاع أو التوثيق لتلك الحالة المركبة من الغياب.
فرسائل الأم أو بوحها الفياض التي تشعل وهدة المسكوت عنه والسري والفاضح على المستويين العام والخاص، وبما تمثله الساردة / الراسلة إلى المجهول/ الغائب، من رمز للأنثى التي تحتمل معنى الأرض أو الوطن، على مدار السرد الروائي، كما تشعل جذوة الحنين والترقب معا بداية من العودة إلى مشهد الوداع الذي تستهل به الساردة، في إشارة دالة على بداية سرد المعاناة التي ربما كمنت في انفصام العلاقة بين المستقبل المتمثل في الشاب " حنظلة "، والماضي / التاريخ المتمثل في شخصية "العطوي" / الجد، الذي يفجر السرد عنه كل كرات اللهب المختبئة تحت ركام المسكوت عنه والسري في دهاليز تاريخ القرية / المجتمع/ الوطن، الموغل، وهذا اللقاء الذي لم يتم: "هي المرة الأولى التي تحس فيها بالرهبة من مقابلة جدك "العطوي".. لحظات الوداع.. تستعد للإقلاع في رحلة إلى بغداد. لم نفكر يوما بأنك ستتركنا لتغادر خارج اليمن" "ص11"
هنا يأتي الجمع بين الشخصيتين على محك الفراق والانفصال بين الماضي والمستقبل، بصيغة لا تقبل النقاش، لكنها تطرح في النفس آلاما ومنغصات، تسرد وقع أثر هذا الانفصام وامتداده إلى علاقة المستقبل بالحاضر المتمثل في شخصية الأب "تبعة"، المناضل بعيدا عن أجواء قريته وأسرته، والذي يمثل الضلع الثالث الهام في مثلث العلاقات الخاصة المحيطة بشخصية الأم / الساردة، أو المتوجهة بالخطاب، لمحاولة لم الشمل والأعطاف، وهذا اللقاء الدال على أعتاب مرحلة من مراحل التشتت والاغتراب والغياب: "بادلته بأحضان فاترة.. تحدث نفسك.. أيعقل أن يكون هذا أبي؟.. تبحث في تلابيب ذاكرتك.. في حكاياتي.. جدك .. زوجة جدك.. نساء القرية حين يتحدثن عنه. أمطرك بكلمات الثناء.. تراجعت أنت إلى الخلف وابتسامة مصطنعة على ملامحك.. أنكرت أن يكون ذلك الرجل هو " تبعة" همست في أذني:" أين ما رسمته يا أمي" تتأمله من جديد ... بقايا إنسان" "ص23"
يطرح المشهد المسرود هنا دلالات التحول والتغير الذي أصاب الحاضر المتمثل في الأب الضائع في سبيل قضية شبه خاسرة، كانت تضعه في حيز الأسطورة التي تتراءى للأم، ولنساء القرية المنبهرات بنضاله المشهود، والذي يضع النص إلى جواره عددا من علامات الاستفهام والتعجب، ربما لسبر غور هذه الحالة من الضعف والخور التي مست الحاضر في كبد حقيقته الشوهاء، فيتحول الأسطوري هنا في نظر الشاب إلى عادي و"بقايا" بحسب نظرة المستقبل، المنفصم عن الحاضر المشكوك في جدارته!
كما تطرح الخطابات تفاصيل هذه العلاقة القوية الأثيرة بين الساردة وتمسكها بالجذر / الجد / العطوي، الذي ربما مثل في ضميرها وضمير النص هذا العبق الآتي من أغوار التاريخ والحكمة والعقيدة والتقاليد الراسخة، والالتصاق بأديم الوطن ، بالروح التي كان يعانق بها هذا الجد / الرمز الحياة و مفهوم الإنسانية ورحابتها المستمدة من "مصحفه الأحمر": "عدة أيام و جدك لا يخرج من بيته.. يقضي ليله ونهاره في ترتيل صلواته.. حاسر الرأس يهتز بهدوء أمام مصحفه الأحمر.. يحادث زوجته المتكورة في الزاوية القريبة." " ص44"
يمثل هنا المصحف الأحمر، الأيقونة التي يستمد منها النص الروائي عنوانه وعتبته الأولى التي تكرس لمفهوم الاتساع والرحابة والانفتاح، وربما ضرب من التسامح والتجانس بين المذاهب العقيدية التي شكلت وجدان الوطن/ التاريخ، الذي لم تنفصل فيه تلك الروح، معانقة بين المنهج الديني الواحد، والوطن الواحد، والذي يعد في نظر العامة والسلطة خطيئة وزندقة، فهو الذي يمضي به كإشكالية يطرحها النص لبيان مدى التماهي بين تلك العقائد في ضمير الجد، ومدى حرصه على الحفاظ عليها من التشرذم والاندثار:
"أدرك جدك أنه كان يحدث نفسه.. نهض ودثرها بلحافه.. تلا : " الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون". فهذا ما قاله الرب: " سأخرب الأرض كلها، لكني لا أفنيها".. فتنوح الأرض نواحا وتظلم السماوات من فوق. أنا تكلمت و لا أندم ، وعزمت و لا أرجع عنه." " ص45 "
رواية مصحف أحمرهذا التمازج بين جوهر الأديان الذي يمثل إشكالية النص والعنوان وما يرمز إليه، وما تتوجه إليه أيديولوجيته، هو ما يدفع نحو المفهوم اليوتوبي لجوهر الأديان الذي يرمي إليه النص الروائي من خلال رمزيته الدالة على تلك السمة من التماهي، إلى جوار التمسك بوحدة الوطن؛ مما يؤدي إلى الحالة العكسية أو الحالة الجديدة من الغياب أو التغييب، على خلفية الصراع مع سلطة لا تعي الحق وتمضي بالضلال بالسيف فوق رقاب العامة، من هذا المنطق الذي يصبح به الشيخ مرهوبا واجب إقصاؤه؛ فحركة الصراع بين الحاضر بسطوة سلطته والماضي بتاريخه الضارب في الأصالة والتوحد الحق الذي ينشده النص، تأخذ هذا المنحى العبثي الذي يعصف بالواقع، ليخضعه لسلطان القوة من خلال فعاليات هذا الصراع الذي لا يتوقف بين عنصري العقيدة وجوهرها المراد، وبين ما أطماع السلطة والجاه، وإن كان تحت ستارات متعددة منها مجابهة الزندقة وما شابه.
وهو ما يدفع بتعقيدات العلاقة لتصير بين محبسين للشيخ، تضطرم بينهما تداعيات التاريخ العام و الخاص على حد السواء. ومن خلال عملية البحث الشاقة التي تتجشم الشخصية الساردة عناءها في دهاليز هذه الحيرة الموغلة في الغياب، والصدام مع شخصيات أخرى على هامش واقع السلطة الذي يمثلها الرمز الديني للسلطة/ "شيخنا"، وما حوله من عناصر ذكورية مساعدة كشخصيات ظل، مساعدة أيضا، تحفها علاقات الشخوص النسائية التي تبدو منها، على المستوى الخاص زوجة الجد / الخال، التي تشارك في البحث، وتروح ضحية هذا البحث:
"بعد وصول زوجة جدك إلينا في صنعاء تغيرت أحوالي.. وجدت من تشاركني البحث.. نفكر معا.. نحرر الشكاوى إلى إدارات الدولة مطالبين السماح لنا بزيارة السجون السرية. الجميع أنكر وجود تلك السجون.. كل النتائج تعيدنا إلى باب شيخنا.. عدنا لطرق بابه من جديد.. كررنا المحاولة". "ص81"
وأم شيخنا " فطمينا" التي تلعب دورا كبيرا في تضليل عملية البحث عن هذا الجذر / الجد، وتحييد المرأة / سمبرية عن القضية التي ضاع من أجلها مثلث وجودها الذكوري " الجد/ التاريخ ـ تبعة / الحاضرـ حنظلة / المستقبل"، ووضعها في خانة جديدة تقلب موازين الشخصية الواقعة تحت أسر الحرمان العاطفي والجسدي، والغياب! ثم انخراطها في قضايا أخرى نسوية تلتهم جل اهتمامها ومداركها ومساعيها، كنوع من الإقصاء أو الإبعاد أو الإلهاء أو التهميش بالإغراق في الشهوة والمظاهر الاجتماعية كستار:
"اكتشفت أن كل ذلك الغناء والرقص ما هو إلا مقدمة لطقوس أكثر إثارة. دخلنا ما يشبه السرداب.. ممر حجري ملتو.. عرفت بعدها أن للحمام مجاهل سفلية وممرات، وحجرات واسعة.. سارت أمي فطمينا في ممر معتم على إيقاع الدفوف.. يحطن بها من كل جانب .. زفة بطيئة.. تتقدمها حاملات المباخر.. تبعتهن.......... الأحجار تحت أقدامي تزداد صلابة.. الضباب يحجب كل شيء. " "ص291"
هنا يكشف النص ستر المسكوت عنه بمطالعة العالم السفلي البديل لمجتمع يتعارك شطراه من أجل بقاء ووحدة أو لا وحدة، ويبقى لهذه السفلية النسائية خصوصيتها حيث لا رجال، بل علاقات شبقية نسائية تعانق روح المثلية الجنسية في مشاهد دالة على مدى الانحدار الذي انزلق إليه مجتمع تقهقر رجاله بالخوض في حروب دامية للبقاء والسيطرة والتحكم، وفي ذلك إسقاط من النص على جانب من الجوانب الاجتماعية الخطيرة التي تحرك الغياب لينال منها على المستوى العام من مستويات الواقع والتلقي على حد السواء، مما يشعل تلك الضبابية الموغلة في فرض تداعياتها على كل شيء: "شعور جارف بالنشوة.. أن تلتقي عيناي بعيني فطمينا.. لم تعد تهمني أعينهن.. فقط أشتهي صديقتي شخنما.. عينا فطمينا تطاردان عينيّ.. لحظات من المطاردة...... أنامل شخنما تجوس بشرتي.. همس ماجن.. فقدت السيطرة على خجلي.. انكفأت على جسدي." "ص294"
كما تشغل علاقة الساردة "سمبرية" بالمخاطب "تبعة"، حيزا مهما وركنا شديد الأهمية من أركان السرد بالرواية، كتكنيك داخلي للفصول التي تحمل شغفا وتعلقا دائما بالمستقبل المتمثل في حنظلة، تأتي خطابات تبعة المبثوثة لتجذر هذه العلاقة المبتورة على أرض الواقع، إلا من نبتتهما المشتركة، على أوراق السرد/ الرسائل التي ربما لاتصل، وهذا الأسلوب يعتمده الكاتب للالتفاف حول عملية السرد من أكثر من بعد، تساهم في تحريك السرد الروائي، وإماطة اللثام عن الكثير من المناطق المعتمة بتسليط الضوء عليها، وإعادة اكتشاف نقاطها من جديد.
هذه العلاقة التبادلية تتم على نحو من تأصيل عدة مفاهيم توغل في صميم الحاضر وتعتني به، على اعتبار وقوعهما سويا في حزام الحاضر الذي يحمل عبء المسؤولية القدرية التي وقعت على كاهله بالسلب وبالإيجاب معا، وكوعاء ومحرك ضمني للعلاقة التي تدور بينهما، وإن كان من خلال ممارسة استلاب الغياب الذي تلعبه شخصية تبعة، في مجاهل الجبال، كمناضل يدافع عن قضية وطن، على وعي الشخصية الساردة/ المحبوبة / الزوجة "بمفهومهما العرفي المتمرد على قيود المجتمع"، والتي ربما مثلت ضمير الوطن وحاضره: "ودعت قريتنا في ذلك اليوم.. تتجاذبني نوازعي للبقاء.
طرحت أمامي عدة خيارات.. العودة إلى الحصن ومواجهة قدري.. أو أن أظل أتنقل من جبل إلى آخر حتى أجد حلاً.. أو أرحل وأتعرف على ما وراء تلك الجبال.. أرحل إلى بلاد بعيدة حيث لا يعرفني أحد.. كانت تحاصرني جملة ذلك السجين: "إن هربت فإلى أين ستهرب؟" "ص72"
مع مدى التأثير على شخصية سمبرية، وواقعها المزري الممزق بين وليدها " حنظلة " ثمرة العلاقة غير الشرعية التي تكشف عنها تداعيات البوح والسرد "أو التي قد تأتي إمعانا في تغليب الجانب الفلسفي في معالجة الأمور والارتباطات بعيدا عن المفهوم العقيدي أو التنظيمي للمجتمع" مع تبعة في خضم هروبه المتكرر من واقعه المتصادم والمتناحر مع رموز السلطة المناوئة لحلم جديد من أحلام السلطة وصورة جديدة لها تتمخض عنها الأحداث والوقائع، وبين استلابها مشاعرها وإحساسها بالأمان الذي ينشده الوطن ككل، وربما كانت هذه العلاقة دالة على عدم شرعية ما يدور على أرض الواقع: "أتفرس في وجهه القمحي غير مصدقة أني سأراه مرة أخرى.. يتحدث الناس عن مقتله. وآخرون يؤكدون أنه لم يمت.. والبعض يقول: بل هرب بعد أن اخترق الرصاص جسده". " ص176 "
هنا تتجلى مشاعر الأنثى التائقة إلى حبها ودفئها المكتسب ـ لا ما يدفعها نحو التدني في علاقة محرمة أخرى، يمارس فيه القهر المجتمعي بغياب هذا الرمز الذكوري الفاعل دورا سلبيا خطيرا عليها، له تأثيراته ـ متلاحمة مع مشاعر الاحتياج للمثل والبطل والمنقذ الذي يلاقي الأهوال من أجل الوطن / القضية العادلة.
"لم يكن تبعة ذلك الإنسان العادي بالنسبة لي.. فهو من أيقظ مشاعر الإنسانة فيّ.. أعطاني المفهوم لمعاني الاحترام والمساواة.. من تشربت منه مبادئ الحرية والاشتراكية.. من نقش الحروف الأولى على نقاء قلبي.. أعطى للأشياء رائحتها.. طعمها .. ألوانها.. معانيها.. ولهذا أتوقع أن يعمل دوما لنصرة مبادئ العدالة والمساواة .. ولهذا أغفر له نسيانه لي كل هذه السنين". "ص318"
إلا أن الأمر يتحول إلى محض سلطة جديدة تفرض على كاهل هذا المجتمع / الوطن الذي يعيش أيضا بالتوازي مع الجد / العطوي، بين محبسين.
كما تنغلق الدائرة التي بدأ بها السرد عملية الغياب بالوداع، بعودة الأمل في المستقبل/ حنظلة، الفاترة المنقوصة من خلال حيثيات جديدة للشخصية التي تبلورت وبانت منها أبعاد خطيرة، لم تكن في الحسبان، لتعمق معنى التغييب النفسي والاجتماعي من خلال تداعيات جديدة تفرض وجودها على سطح الأحداث والوقائع، وهي العودة التي يستمر الخطاب في الكشف عنها بصيغة المخاطبة للغائب الذي لم يعد بعد، بما يتحمله من إشارة شديدة الأهمية إلى استحالة اكتمال دائرة تحقيق الحلم :
"إنها عيناك.. ابتسامتك.. صوتك.. كان جسمك متماسكا.. تحمل بين يديك جعبة.. أعتقد أنك لاحظت ارتباكي.. طويتني في صمت بين ذراعيك.. بكيت على صدرك.. شعرت بضآلة جسمي.. عادت بي الذاكرة إلى طفولتك الأولى........ " "ص337"
إلا أن علامات التحول التي صاحبت الشخصية تخرجها من حيزها / إطارها القديم أو المشتهى نشوؤه، أو الصورة التي تمنتها الأم / الوطن، لهذا المستقبل الذي تبلور عكسيا ليبرز في صورة هذا الابن المغاير، المخالف، الواقع تحت تأثير سلطة جديدة من سلطات القهر والتحجر بالمجتمع، وكفئة نشأت على أنقاض حراكات وتغييرات اجتماعية وسياسية وثقافية واقتصادية، وكخلفية لصراعات أدت إلى هذا التحول: "يوما بعد يوم أكتشف أني أجهلك.. كنت تخيفني بتسلطك.. تستعرض مفهومك لعلاقة الفرد بالله.. العلاقة بمن حولك.. حمدت الله أني لم أتسرع في تسليم ما كتبته من رسائل إليك.. أشعر برعب وأنا أتخيل تلك الرسائل بين يديك.. فكرت بإحراقها.. تبدو لي شخصا غريبا.. لست ابني الذي غادرني منذ سنوات" "ص342"
لتحمل نهاية النص الروائي، مع غياب ذكر كل من الجد والأب، معنى الاكتمال الأكبر للغياب المنطلق من علاقة الأم وما قد تمثله من رمز للأنثى الوطن ،وتعلقها بالابن/ المستقبل الذي تشكل من جديد في رحم الغياب والاغتراب عن أرض الوطن ليعود شائها، حاملا مكونات جديدة، طبيعية في ظل هذا التحول / الانقلاب الخطير في تأويل الأمور ومنطقتها، ولتنطق الرواية بفحوى خطورة تلك العلاقة الأزلية التي ربما نتجت عن علاقة غير شرعية، دالة، من حيث هذا الارتباط، وهذا الإصرار، وهذه الروح المقاتلة لاستعادة كل ما فات من خلال المستقبل / الابن الذي استمرأ ـ باختفائه مرة أخرى ـ لعبة الغياب: "طفلي الغالي: لم يعد لوجودي معنى إلا بوجودك.. سأظل أبحث عنك بعد مغيب كل شمس عند فراش أمي.. وسأواصل الكتابة إليك.. سأكتب كل التفاصيل الصغيرة دون تنميق.. ولا خوف.. كل مشاعري.. وسأتخيل طرقات كفك على الباب" "ص345"
لتتجلى في ختام النص، صورة من صور التمسك بالبقاء، ولو على أنقاض شبح الغياب الذي تجلى في متن هذا النص الروائي الفارق، وأفرز هذه الشخصيات والعلاقات التي رسم الغياب ملامحها، وصنعت منه الأم تاريخا للغياب، مع ما يمثله وجود أيقونة "المصحف الأحمر" التي بثها النص، كحيلة فنية، بما تحويه من رمز لتراث وطن تعانقت فيه العقائد، وأنتجت موروثا ثقافيا وميثولوجيا عميقا.
السبت يونيو 27, 2015 7:24 pm من طرف سميح القاسم