-0- لا يخرج يوسف ابو رية عن الصيرورة والسيرورة اللتين تشهدهما الرواية
العربية المتمثلة في الاتجاه نحو الذات وجعلها مكونا أساسيا في تشييد
العوالم التخييلية عبر الغوص في حميميتها فضحا وبوحا ونقدا. لكن ما يميز
يوسف أبو رية هو قدرته على جعل الذاتي الحميمي يعانق الكوني والانساني؛
انطلاقا من توظيف التاريخ والأسطورة عبر قالب روائي ينطلق من الذات
وشواغلها، ويقود القارئ على أجنحة الخيال إلى الفانطاستيك المؤسس على
المخيلة الشعبية التي تجد لها جذورا ضاربة في التاريخ المصري القديم. تعطي
لنصه عاشق الحي تميزه الأبداعي الذي ينشغل بتيمة الفقد، وينوع أساليبه
السردية التي تبدأ بالفانطاستيك وعوالمه العجيبة التي تسمح بدخول عدة روافد
حكائية، وبين أسلوب التراسل وما يتيحه من فرص للبوح وفتح السرد على الذاتي
من خلال عدة أساليب سردية متخللة كالاسترجاع والتذكر والاستشراف.
-1- معمار الروايةتتكون رواية عاشق الحي ليوسف أبو رية، الصادرة ضمن روايات الهلال
(فبراير2005) من ثلاثة فصول، متباينة من حيث عدد الصفحات وكذلك طريقة
السرد، وهي: غياب في التراب، غياب في الرمل، غياب في الغياب.
تبدأ الرواية في قسمها الأول، الذي يأخذ حصة الأسد من صفحات الرواية(أكثر
من من مائة صفحة)، بحدث مثير وهو دخول قط أسود إلي مائدة الأستاذ دسوقي
مدرس اللغة العربية ويقف أمامه وعيناه مشدودتين إلى زوجته، يغير الزوج من
القط. فيقول له: " إيه.. عاجباك؟؟ خذها. فاختفت المرأة في الحال، وتلاشى
الجسد الأسود للقط." (ص.ص.9.) فيربكه الحدث، ويكتوي بحرقة الغياب ويكلف
نفسه مشاق السفر رفقة صديقه علي إبراهيم أستاذ التاريخ لفهم ما جرى
واستعادة الزوجة، ليكون السفر سفرين؛ سفر في المكان وسفر إلى التاريخ
وامتدادته في المحيلة الشعبية.
في القسم الثاني من الرواية (حوالي سبعين صفحة) يبرز لنا أن الجزء الأول
ليس سوى جزء من رواية يكتبها كاتب ويحدث عنها زوجته الغائبة التي تعمل
بالسعودية في رسائله إليها.
أما القسم الثالث والذي لم يتعد ثمان صفحات، فقد جسد تداخل اهتمام شخصية
الكاتب بكتابة روايته التي خصصها لمشكلة الغياب وبين انشغاله بغياب زوجته.
لكن الاشتراك في التيمة لم يمنع من اختلاف طريقة السرد: فالقسم الأول يقوم
على الفانطاستييك بكل مقوماته، كما حددها تودوروف الحدث، حصول الحيرة ثم
التفسير. وكذا فكرة تناسخ الأرواح مرتكزا على الأسطورة التي تستند على
التاريخ المصري القديم. من خلال حدث مثير وهو اختفاء الزوجة مع قط، الذي
يقوده إلى سفر في التاريخ تتخله مجموعة من الأحداث الخارقة التي تحصل
لدسوقي، تقوي حضور العجائبي. التي تكون موضوع حوار بين الخرافة التي يمثلها
الأستاذ دسوقي، مدرس اللغة العربية الذي حولته الأزمة إلي شخص غيبي، وبين
العلم الذي يمثله صديقه ومرافقه في سفره وبحثه الأستاذ علي إبراهيم مدرس
التاريخ الذي يؤمن بالمنهج العلمي؛ حوار يدور بالضبط حول تصديق ما يقع
لدسوقي من أفعال خارقة. يواجهها الأستاذ علي إبراهيم بالسخرية التي تدفع
الأستاذ دسوقي إلى الدفاع عما يقع له مسنتجدا بما سمعه من حكايات مشابهة
لها أدى إلى حضور قوي للحكاية الشعبية الشفوية المحلية، حوار محكوم
بالسخرية التي تقود إلى الحجاج من خلال المواجهة بين العلم والخرافة. وهو
ما منح الرواية مشاهد شيقة تضع القارئ في قلب المشكل.
في القسم الثاني سيتغير أسلوب السرد ليستعمل الكاتب أسلوب التراسل، فيصير
السارد هنا هو كاتب يفقد زوجته التي تضطر للهجرة غلى السعودية في إطار بعثة
طبية.
تتميز الرسائل بالتقاط تفاصيل اليومي التي يعيشها السارد البطل وتعيشها
زوجته الغائبة المغتربة. عبر توجيه السرد اهتمامه بالتفاصيل الصغيرة من
حياتهما. وهو أمر يفرض ننفسه، انسجاما مع الوضع الممل الذي تعيشه الشخصيتان
وضع الوحدانية والانتظار.
يتاسس هذا السرد التراسلي على عدة مكونات سردية وهي:
- التذكر: تذكر الماضي الجميل...
- تسجيل تفاصيل اليومي على إيقاع الانتظار.
- الحنين والتطلع إلى اللقاء الذي يقويه الغياب وبعد المسافة.
- التركيز على التحولات التي تطرأ على شخصية الكاتب.
- الحديث عن مشروع الرواية التي يكتبها ويشكل الفصل الأول من الرواية
بدايتها.
كما نسجل تغييب الفواصل بين رسائل الزوج والزوجة، فيتم الانتقال من رسالة
إلى أخرى دون الإعلان عن ذلك، تمردا على الموانع والفواصل الزمنية
والفضائية التي تحرمهما من اللقاء.
أما القسم الثالث الذي جاء تحت عنوان غياب في الغياب، ويبرز من خلاله بشكل
كبير مدى التداخل بين القسمين السابقين من خلال التماهي بين شخصيات الفصل
الأول والثاني، تماهي الخرافة والواقع، ويعكس كذلك التداخل بين حياة الكاتب
الخاصة وحياة شخصياته.
-2- الغياب والتماهي
تشترك أقسام الرواية الثلاث في ثيمة واحدة وهي الغياب أو الفقدان،
خصوصا حين يفقد الإنسان شخصاً يعشقه. ففي الجزء الأول (غياب في التراب)
يركز السرد على حدث اختفاء زوجة الأستاذ دسوقي ومتاهات البحث عنها. أما في
الجزء الثاني (غياب في الرمل) يتبادل الكاتب مع زوجته الغائبة بشكل اضطراري
مجموعة من الرسائل، مبرزا آثار الغياب على الزوجين. أما الجزء الثالث
(غياب في الغياب) فتتداخل فيه الشخصيات الواقعية( الكاتب والزوجة الغائبة)
مع الشخصيات المتخيلة (دسوقي وسميرة وصلاح ...) وهو فقدان في الفقدان يفسر
تماهي عمل شخصية الكاتب الإبداعي مع حياته اليومية. والتأثير والتاثر الذي
يمكن أن يحدث بنهما. يقول:"ماذا يحدث لي في هذا المساء العجيب؟ في اي زمن
أعيش؟ أنا موزع ما بين زمن الرواية وزمن الواقع."(ص.186.)
تمنح تيمة الغياب تماهيا مرآويا بين دسوقي وشخصية الكاتب في القسم الثاني
من الرواية، كلاهما يعيش على صدمة فقد زوجته، وكلاهما يعترف بمسؤليته في
غيابها عجز دسوقي يوازيه عجز الكاتب في الفصل الثاني من الرواية(121) وبذلك
يكون دسوقي صورة فانتازية لشخصية الكاتب في القسم الثاني.:"أنا ملول جدا
مع الناس، حين أكون وحدي اتمناهم، وحين يحيطون بي أود لو أفر منهم جميعا،
هذه مشكلة لا حل لها."(123)
فصار غياب سميرة في الرواية التي ينشغل الكاتب بكتابتها معادلا تخييليا
لغياب الزوجة على مستوى الواقع. ليتداخل الغيابان في القسم الأخير وتتكسر
الحدود بين الواقعي والمتخيل بين الذاتي والأسطوري.
-3- العجائبي
نجحت الرواية في خلق حبكة روائية تستند، على العجائبي، تشد القارئ
من الصفحة الأولى من الرواية. ويستجيب حضور العجائبي في الرواية إلى تحديد
تودوروف. فنجده يتأسس على مجموعة من المقومات:
- الحدث المثير: اختفاء سميرة زوجة دسوقي بشكل فوق طبيعي. ثم تمظهرات صلاح
في أشكال مختلفة تقوم على فكرة المسخ.
- فعل الحيرة والتردد الذي يعرتي دسوقي وكل من أخبره بحكايته.
- التفسير: ويستند على عدة مقومات:
- التاريخ عبادة الفارعنة للقط الأسطورة الفرعونية...
- عودة صلاح حبيب سميرة على هيئة قط أسود للانتقام من دسوقي بعد أن تزوج من
سميرة بعد موته عى إثر حادثة سير، ويتقوى هذا التفسير بفكرة تناسخ
الأرواح...
- المعتقدات الدينية الإسلامية...
- السفر وسيلة من وسائل التفسير، إذ يطلع بدورين؛ البحث عن سميرة وإيجاد
تفسير لاختفائها. انطلاقا من زيارة احد المعابد الفرعونية. والنظر إلى
مجموعة من الشيوخ مستندا إلى الأسطورة الفرعونية.
وتقوم الرواية على بحث الزوج عن زوجته وهذه الرحلة بدأت من المعبد الفرعوني
الذي تقيم به القطط إلى الشعوذة والدجالين إلى مسجد الحسين.
-4- تركيب
ختاما نقول إن ما يميز رواية عاشق الحي هو قدرتها على التنويع من
أساليبها السردية. بتقديم فصلين يشتركان حول ثيمة الغياب، من خلال تماهي
شخصيتي دسوقي والكاتب واكتوائهما بنار الفقد، لكن يختلفان في طريقة السرد
الأول يقوم علي بنية السفر والبحث في سرد مليئ بالمفاجآت في إطار بناء
عجائبي. والثاني يقوم على أسلوب تبادل الرسائل بحميميتها وتسجيلها لليومي
بتفاصيله. وهو ما منح الرواية جاذبيتها. إضافة إلى تسليطها الضوء على تجربة
الكتابة، كيف يعايش الكاتب شخصياته وكيف تتداخل عوالمه التخييلية مع
واقعه.