رآها..
اِختالت إليه على مهل الغنج البدويّ / بْقَدْ وِاعْتِدَالْ، كِمَا شَجَرْ
سَرْوِلْ مِلْهُبُوبْ يْمِيلْ (1)/ كشقيقة نعمان تطفر من شيب العشب وشحوب
السّنبل فتُوهم حمرتُها النّافرة الحقل الصّائف بعوْد الرّبيع على بدء
الغرام..
فغرت فيها الحواسّ حواسَّها لمّا صارت منه مرمى ذراعين واهنيْ العضل
مثقلين ضعفا، لمّا / هْلالِ الْجِبِينْ بْزَغْ مِنْ قُصِّتْها / اِلنِّيفْ
بُرْني قْتِيلْتَهْ حاصِرْها / الْبَدِرْ كامِلْ بانْ في وَجْنِتْها /
وِالْعينْ تِكْوي كَيْ بِمْحاوِرْها /..
شهق العليل من ذهول فارتبك الهواء الدّاخل إليه، وتعثّر الخارج من صدره في
كتلة من "البلغم" كادت ترديه مختنقا.. سبّح بحمد الجمال ينتفض مكانه من
سعال، ويسترق بين التّفْل والآخر فرصة مقتضبة متوتّرة للكلام ليغازل حسنها
المخضرّ على حواشي الجفاف. وحين هفّ عليه عطر الزّهر البرّيّ من بستانها
الفارع رُفع عن صدره الحرج وتنفّس صعداء الوله. وعنوة عنه اخترق صوته صدأ
الحنجرة وصدح صوته الأبحّ بالحبّ يغنّي بلا ناي يوقّع أشجانه أو طبل يرقّص
عكّازته: / أَحِّيــــــتْ صَبْري للهْ../
/ أَحِّيــــتْ صَبْري للهْ عالِمْ بِسِرْ احْوالِي / مِنِ زِينْ بَرْمِ
الخِلَّه غْدا عَقْلِي يا خَالِي / مِثْلِي مْريضْ بْعِلّة وِغْريــــبْ
مالُو تَالِي / هَكّاكَه نايَا لِلاَّ شُوفْ اُنْظُرِي لِخْيالِي /
من “ملزومة“ (2)عاشقة تأودت أبياتها على رُويْد اللّذة العطشى، وغيّ
الشّاعر إذا بشعره استغنى خرجَت عليه "الخضرا".. من رخاوة وعيه الخدِر
تشكّل خيالها العصيّ على قالب الطّين، وفساد المدنيّة، وخبث نوايا
الإصلاحيّين دعاة حريّة النّساء، وسفورهنّ وخروجهنّ لمدرسة وتجوال..
"اللّعنة عليهم أولاء".
ذكرهم بغتة ففسدت عليه جملة المتع المتخيَّلة، وقطع الغناء إلى السّبّ
يغمغم ويبصق فضلة رئتيه في منديل عكر يحشره بين التّفْل والتّفل إلى جيبه: /
جْماعَه كْعالِص يِنْدْعُو بالإصْلاحاتْ / يْحِبّوا نَبْقو عْبِيدْ لأهْلِ
الجَبَرُوتْ / تْوَلِّي تونس عِزْنَا مْنِ الْمُستعمراتْ / هذا هُوَ
قَصِدْهُمْ يَعْطيهُمْ مُوتْ / " تفو"..
نثّ جسمه المكدود ماء من فرط البهجة واضطرام الغضب الممتزجين في عرَقه..
ذلّ قلبه الجبليّ العنيد للمرض، وخرّ الجفاء في طبعه المتشدّد فصار أليفا
رائقا، يعمه الكلام ملء شدقيه الكبيرين بين سباب نابٍ وغزل شفيف.. اِستوقدت
الحمّى أحشاءه واستفحل فيه السُّعار يأكل من غيظه فيطرح الحسرة.. خلعت
نفسه الواهنة إزار الضّعف ودبّ في مفاصلها الطّرب. عادت رغبة الغناء تتوقّد
في رغبته فجرى به خيال العاشق الطّريح على شظف السّل ويباس المرقد إلى
مساكنه المتفرّقة على كفّ "الخضرا" الحبيبة.. لوّح بالعكّازة في فضاء الحلم
المتعسّر فتحلّق حوله المساجين يهرجون ويغالون في الفرح الهمجيّ.. أنشد:
/ سامُورِي حَرّاقْ مِنْ صافي لَطْراقْ / نَا لِيهَا مِشْتاقْ أكبِرْ
شُوقَهْ / مِنْ مِحْنِتْها كَبِدْتي مَسْحُوقَه / يا مَبْرومِ السّاقْ
حُبِّكْ لِيَّ انْساقْ / خَلاّني دَقْداقْ بْريحِ نْشُوقَهْ/ فَرْشي صْهَدْ
جْحِيمْ وَانَا فُوقَهْ../
اِستُنفرت الشّهوات الحبيسة للمساجين فتداعوا عليه متزاحمين، وتواصوا به
يستفزّونه بألفاظ قواذع وصور متهتّكة، ويستزيدونه الغناء فيما نظم من قصائد
بذيئة وأبيات خليعة فيستخفّه الفرح ويغنّي..
كانوا جمعا متنافرا متقاتلا صمتا وجهارا حُشروا في فضاء الحبس الضّيّق
حشرا مقيتا: فلاّحين، حرفيّين، متسوّلين، مثقّفين، مدّعي علم، ومتعلّمين،
قتلة، عمّالا أضربوا أو عَنَّ لهم خاطر الإضراب ذات تمرّد، شيوعيّين،
دستوريّين، وهمّجا منحرفين.. وجوها دواخن، أفواها دقماء، أجساد مهازيل،
طرابيش افرنجيّة وعمائم ريفيّة وسخة.. ساسة من غير محترفي الفعل السّياسيّ،
لصوصا، مهابيل، وثوّارا مهمّشين زجّوا إلى العتمة لشتيمة طالت فردا من
حاشية الباي أو معمّر، أو عين للاحتلال..
رفرفت "الخضرا" للغزل فسقط سواد النّقاب عن الخفر الوضيء.. اِستبشر الكافي
والحبيبة تسفر لشاعرها دون غيره فيبين منها وجه القمر الطّاحي.. رجف
ارتعابا لمّا العيون الزِّحام تهافتت على حبّه وخشي على نفسه فقدَها وعليها
الاغترار بوعود السّاسة الخائبين فانسلّ بها عن الجمع الهادر من حوله
ملتحفا بستارة من خيال متحفّظ. خضراؤه ساديّةُ الحسن تجتاز وجهه المجدور،
عينه الحولاء، لسانه اللاّذع، وتأتيه هاهنا لتقطفه من شظف العيش إلى حضنها
الاستبرق.. أكثر من جميلة خضراؤه / مِنْ زِينْها يْعودِ الْمْرابِطْ عايِقْ
/ يَبْدا يْهَتْري بْكَثْرِةِ مْحاسِنْها / وِيْخَمِّمْ عْلى فِعْلْ ماهُو
لاَيِقْ / يْبَطِّلْ صْلاتَهْ وْتُوبْتَهْ يِخْسِرْهَا/
اِبتلع هواء قاسيا هيّج كُلومه، فغصّ في مشاعره اللّبد، ونفث ريحا كثيفة
حرشة كأنّما حُمّلت رمالا ترحّلت عن صحرائه الدّاخليّة فاهتزّ من وجع عن
مسجاه وحطّ عنيفا حتى توجّع.. أفرغ ما اندفق إلى فمه من رئتيه ثمّ ملأه
لفظا قاذعا وشتائم. تحرّك منزعجا على صقيع المفرش متحفّزا لخطر غير متوقّع.
كان على يقين أنّ أحدا ما الآن تسوّل له نفسه أن يهتك حرمة خضرائه أو
يتخلّى عنها لمعمّر دنيء، أو يهوديّ مراب، أو خائن جشع مقابل بضع فرنكات..
أعدّ قبضة يد في هيئة لكمة متوثّبة، وأحكم بالثّانية القبض على العكّازة،
وشحذ لسانه أسِنّة الحروف.. بيد أنّ قواه عجّلت بالخوار والجهد فيه يتمزّق
ويهِن فاستدرك يقدّم لنفسه المعاذير.. مداقيع الشّعب وجياعه، المخذولون من
حملة المطارق والمناجل والأمانيّ الجُفاء، من دعاة العدالة الاجتماعيّة
وأحلام الدّستور التّونسيّ، وحقوق العمّال.. أولاء هم جميعا يتحزّبون له،
يردّدون أشعاره، يتغنّون بالمقذع من أشعاره.. ينهش القمع قلوبهم المغلولة
إلى سلطة الاحتلال البطيش، ويحييهم "الأديب" بسلطة الأمل المضادّة. يهدأ.
ترتخي قبضتاه. يربو الفرح بين جنبيه، يتضخّم شعوره بالفخر، يعتزّ بنفسه،
يسمو على العلّة، يتهيّأ له الوقوف ولا يقف، يكسر القيد فيجري في الأصقاع
ولا يبرح مكانه.. يفلّ ظلمة الحبس الحديد فيرسل عليها كُببا من نار القصيد
ذات اللّهيب تنحرف بالنّفوس عن جرف اليأس إلى روض الحبّ، وتلحد بالسّكون
الخانع إلى ثورة وحماس: / يا تايْها بِدْلاَلْ / يِزِّيّكْ مِنْ هَا
التِّيهْ وِالتَّدْلِيلْ / حُبِّكْ نِزِلْ بِمْحَالْ / حَبِّسْ المِحْنَه
نَاقِلِ مْعَاوِيلْ / عِزِّ الْخِلِيلَه خَالْ / وْعِزِّ الرْجَالْ عَلَى
ظُهُورِ الْخِيلْ../ لكنّ الهياج من حوله أثار فيه نقاع الذّاكرة فقامت
كالعواصف الهُوج تدوّر الآلام والمواجع الخاملة.. ادلهمّت نفسه فجأة، وصار
يلوب مختنقا كأنّما الحبل المتين يضغط على عنقه.. أخذ يتهزهز مكانه في
استجداء الهواء ويشهق بشدّة والرّوح بين أحنائه تستغيث ثمّ لا أحد يدري كيف
تحوّل الشّهيق الوجيع إلى صياح ولعنات هطلت وابلا من وعيد: / هَانِي..
نْــ عَزِّرْ فِيكُمْ يا صْرُبِّةِ الْفُجَّارْ/ إذا كانْ ما تْـ ..
وَلُّوشِي نَاتِي بِمَا أَمَرْ/ عَبْـ..دِ الرَّ ..حْمانْ لْسَانِي يِكْوِي
كِمَا الْمِحْحْـ.. وارْ / ضَنْوِةِ الشِّيخْ الْـ.. اِلْكَافِي زْنَادِي
عْلَى الشِّفَرْ../
تضرّم "الأديب" من فرط الحلم حمّى جمحت به على فرس الوهم الهلوع تركض في
قوافر الجسد الوحيد أكثر من عقدين من السّنين وهموم تزيد، ثمّ همد على
مفرشه مثقلا صريع السّلّ والرّهق المكين.. نَشَر الجوع أمعاءه، لفح العطش
جوفه، والحبس غطّ جنبيه فاعتصرهما.. اِستجدى ماء فلم يعره أحد قطرة. اِنكفأ
كلٌّ على خضرائه يناجيها في سرّه المُحبط، وجنح عبد الرّحمان للحلم من
جديد.. تهيّأ له المطر ينزل رحيما. فتح شفتيه المشقّقتين يستجدي قطرا ينقر
على السّقوف النّخرة، والأرصفة المقشّرة ويسيل الخيلاء في الأزقّة والأنهج
المتربة ولا يبلّل جوانحه المشتعلة.. تناساه الظّمأ وتفسّح فرح ذاوٍ على
وجهه لمّا المشاهد انبسطت أساريرها مرمى بصره الكليل.. الأرض الرّبيعيّة
تمطّت متحرّشة بالصّيف الواقف على حدّ القيظ وغِمار التّراب المنفعل..
البلاد رفلت في حلّة الأمن وأكبادها ينعمون بالعدل والرّفاه.. أعشبت الحقول
الجدباء. تمايلت سوق السّنابل في مهبّ النّسائم المنعشات. بسطت شقائق
النّعمان حريرها القاني على جسد العشب الغضيض. سمنت الشّياه المهزولة،
واستبشر العامل بحقوقه، والفلاح بحقوله، والمرأة بالضّروع المترعة.. أشرق
أمل الشّفاء في قلبه المجدب، واسترجعت آمالُه آمالَها. هلّل الشّاعر
للنّصر، وأمن أكثر لحلم الارتواء ماء هو الآن أعذب عنده من زلال.. ماذا..
!؟ قد سبق له أن قال شعرا ما يجب أن يقال.. ألا أحد يذكر..؟ أليس هو من جاب
أطراف الخريطة مقسما بالعدل والميزان: / واللهْ ثمّ والله العْظيمِ
المِتْعالْ / وحقْ طَه الأمْجَدْ وخَاتِمِ الرُّسُلْ /ما تْريضِ الدِّنْيا
وْتَسْتْقِيمْ لَحْوالْ / إِلاّ مَا العامِلْ بِحْقوقَهْ يَتَّصِلْ /
وِالْحُكومَه تْكَيِّلْ للنّاسْ فَرْدْ مِكيالْ / كيفِ إلِّي في شْكارَه
كِي لابِسْ الِحْلِلْ /..؟
بلى.. التّاريخ يذكر، الشّعب يذكر، وتذكره تقارير الأمن الفرنسيّ، فيما
ينساه أغلب مؤرّخي الحركة الوطنيّة، أو يعبره التّذكّر بأوْهن من مرور
الكرام فتنطبق على التّفاصيل الحرجة دفاتر النّسيان.. اِطمأن الكافي. فعل
ما يجب، وقال ما لم يقله أحد. حسبه أنّه جرؤ دونهم فسبّ من يتقدّس اسمه،
ويتنزّه مقامه عن القذف.. اِستقرّ عليه الهدوء. اِستحمّ السّعار في برك
العرق المترقرق عند المنخفضات الكثيرة على جسده. أزهر السّرور يضيء سحنة
غطشاء تفسّحت حول عينيه.. عاد العطش يخاتله فطلب الماء ملحاحا فلم ينل
جرعة. مدّ لسانه يلحس الشّقوق على شفتيه علّ قطرة عالقة بشقّ ترطّب جرحا
جفيفا بحلقه.. لا رواء، فانحرف بحسناء الخيال إلى قصيّ التّخفّي يتوارى عن
عيون خائنات ما انفككن يرصدنه أنّى ترحّل.. طعِمَها في الخفاء غير منهيّ من
عقله الصّارم وطبعه البدويّ المتعنّت.. سبّح من جديد.. كبّر.. الحمد لله،
لهج: /شِفَّه عَكْرِي مْثيلْ حْرِيرْ/ الرِّيقْ دِقْلَه فَالْ / عْسَلْ
يِبْري مْريضْ منهُ عالْ /
شرب الوهم حتى ارتوى ضعفا. اِلتأمت صحراؤه على كثبانها وشدّت إليها
رمالها. سكن انفعاله. تراخى عضلُه وانبسطت أعصابه المشدودة. غار الوعي
مرهقا إلى متعة الغياب.. اِنسدل الجفنان. هفت بسمة ذاوية خفيفة على سواد
الشّفتين، ومسحت بكفّها شيئا من دكنة العلّة الهاجعة إلى جسمه. شحب لونه
فجَلا الشّحوب الفرحَ المسترق على قسماته.. لانت "الخضرا".. خلصت له دون
سائر الشّعب. اِقتربت منه توشك تلامسه.. تأوّه.. رفّ إليها بجناح مهيض..
حوقل، حمدل، هللّ..
يا الله.. ! / صْدَرْها فْسِيحْ بْحَالْ/كِمَا طْبَقْ حْفَلْ
بِفْنَاجِينْ../
يا الله.. ! ذوى تماما جسمه تحت عنَت النّشوة، وصاح فيه حارس السّجن يفجعه
بقرار الإفراج..
الدّنيا خارجا راكدة غبراء. الشّمس تسّاقط إلى عين حمئة، والنّهار يتبعها
زحفا على رُكَب الجراح. الغبار يحلّق في أمداء السّماء منفعلا، ونثاره
الثّقيل يترسّب فوق الهامات الخواشع، على الوجوه الدّواكن، يحسحس تحت الخطى
اليائسة، ويطقطق في الجيوب الخاوية على شقوقها بدل النّقود. على حدّ الأفق
المحايد يجلس الشّفق الحزين يقشّر برتقالة المساء ولا ينتبه للسّكين تحزّ
أصابعه، ودمِه المتقاطر على الحقول المجدبة، وظهور الدّوابّ الهزيلة، وفي
النّفوس الفقيرة حتى أعماقها الخبيئة. على مصطبة من حصير خشن تفرش الوحدة
ملاءتها الشّائكة، وتجلس في أوج زينتها بانتظاره. وحده يسير ضدّ الرّكود
العامّ، عكس الأمل المتراخي. عليه لحاف عكّر الوسخُ بياضه يعصب الجبين
المغضّن، ويثبّت حمرة "الشّاشيّة" الباهتة إلى رأسه الصّدع، بينما يُهْمَل
طرف منه على جانبه الأيمن. وجه جهم جافّ تحدّث حُفرُه الكثيرة بخطى
الجُدرِيّ على مساحته، ويحفظ حنكاه الغائران قطعتين من حزن مقيم. بدن عليل
الحركة يتحرّك غاضبا مستعجلا ما وسعته الصّحة تحت "بلوزة" رماديّة انسدلت
على قامة ناشفة وسطٍ بين الطّول والقصر، متطرّفة الكيان. على أنفه الكبير
حطّت النّظّارات سوادها تدعم العكّازة في سياسة البصر الضّعيف والخطو
الضّليل. ومثَل راع تفرّق عنه القطيع فصار يهشّ على أوهامه بالعصا ويمنّي
يأسه بخير قريب، تقعي العشريّة الثالثة من القرن المنصرم على عتبة البؤس،
فإذا مرّ بها سائل يتقصّى الوقائع لفائدة التّاريخ، تقطّب وتصمت صمت حقد،
ثمّ تردّ على غاية من البرَم والامتعاض: / يا الِّي تِسْألْني نْجاوْبِكْ
عَ الْحالَه / حَيّينْ لَكِنْ الحَيَاه مِذْبالَه / .. / حَالَه وِحْشَه /
حْياةْ مُرَّه لا قْدَرْ لا عِيشَه / مُولَى الفْلُوسْ في نَفَخْتَه
وْتِفْيِيشَه / أمّا الْبْلَيِّطْ رَاحْتَهْ شَقْلاَلَه /
بعد حين يخرّ النّهار على وجهه ذليلا عند أقدام اللّيل الطّاغية، ولا
يبقى منه سوى حقل القشرة الأرجوانيّ ملقى على رأس الأرض يوشّيها بفوح
البرتقال ولون الحبّ إذا ران عليه صمت الفراق. وبعد سير كبد، يبلغ عبد
الرّحمان مسكنه الخرِب من "رحبة الغنم". يدخل على نفسه خالي الجيب والوفاض
فتعدّ له الذّاكرة ما شاء من صنوف الحسرات فيؤاكلها وتؤاكله، حتى إذا وُلد
الغد الجديد تغادر الشّمس مخدعها، فتمرّ على شاطئ البرتقال لتغتسل من عرق
السّبات، ثمّ تصّاعد إلى قلب السّماء مشرقة وهيجة، بينما يستأنف القلب
المتمرّد انحداره اليوميّ من عنفوان العشق إلى مبتدإ الذّل مردّدا في قناعة
صفراء مهترئة الحوافّ كتميمة قديمة فقدت رموزها السّحر: / بْنادِمْ
نْصيبَهْ لا بُدَّ يْنالَهْ / وِالموتْ كُلْ حَدْ تْزُورَهْ /
-2-
- " تفو" / الصَّبْر للهْ وِالرُّجُوعِ الرّبّي/ أمَّا الدِّنْيَا
وَاهِلِهَا فِي(..)/
ألقى البصاق النّتن على حرّيّة يمنحها الاحتلال بين سجنة ظالمة وسجنة
أظلم، والسّلام المغدور على المدينة، ثمّ جدّ يقرض المسافة إلى مسكنه
أزِقّةً دمِنة، وأنهجا رثيثة، وآلاما شتّى..
على الضّدّ الشّامت من خطوه المهزول، عبر به العمر البهيج وعلى ظهره
أسفار الأيّام الجميلة والأحداث البديعة موغلا بها في تلافيف النّسيان،
مخلّفا إيّاه إلى حضن الضّياع الوسيع. ماثلت عتمة السّجن في نظره عتمة
الشّوارع اليائسة الحزينة. الاحتلال شنيع في كلّ صُقْع وشبر، والجور سيّد
يحكم بحدّ القهر. مغانم الخيبة وفيرة تتوزّع أفياؤها على قاطبة الشّعب بعدل
خرافيّ، والكساد ملِك هادئ، مكين العرش، واثق القرار كالظّلام يقبل قطعا
ضئيلة متفرّقة ثمّ لا يلبث أن يطغى.. كلٌّ يتآلف منسجما قنوعا في جبّة
الأمل الممزّقة، ويتآنس.. كلٌّ يسبّح ضحى بنعمة الشّمس، وغسقا بحمد الهجوع
ابتغاء وجه ربّ كريم يديم نعماء الصّبر تقتات منه حياة لا لون لها، لا طعم،
لا تسْمَن، ولا تغْنى عن فقر.. لا النّهار يغيّر عاداته ولا اللّيل يجددّ
أسمال البلى، ولمّا يعيل احتماله، يخبط عبد الرّحمان رأسه العنيد برأس
التّمرّد فيرديه إلى السّجن بتهمة التعدّي اللّفظي على أخلاق الاحتلال
وأعراض المعمّرين وأتباعهم ليغادره أكثر نقمة وأبعد في القنوط.
كان يائسا كالعامّة. خائرا كأحلامهم. جائعا كجميعهم. منهكا كأبدانهم،
وأكثرهم تَرَبا. ليس بالجيب "فرنك" واحد يقيم أوْدَه، أو به يبلغ "سوق
السّبت" مسقط طبعه الانشقاقيّ العنيد، وأصل طينته القلقة، ومنبت عشقه
القُلّب. قرّ الوهن في مفاصله، ورذُل به العمر في ريعان الكهولة. لم يعد
يستطيع اجتراح المسافات الطّوال رجِلا، راكبا مطيّة، أو على متن"
الشَّمَنْدَفير".. يدخل مقهى بباب سويقة أو الحلفاوين، دارَ الجلد من نهج
الدّباغين، منزلَ سياسيٍّ دستوريّ أو شيوعيّ، رملا يتفتّح على السّاحل،
خيمة تخفق بالجنوب، ساحةَ زفاف أو ختان ببطحاء من ربوع الشّمال الغربيّ..
فيحطّ هنا أوهناك مغنّيا، شاعرا هجّاء مدّاحا، مصلحا اجتماعيّا يقوّم بطرف
اللّسان الحامي ما اعوجّ من القيم ومن أسقطت اللّحاف شعرها، وشقّت عن جيدها
حجاب الحياء لتغادر الخِدْر / بْصَبّاطْ عالي تْهُقْ كِيفِ النّاقَه /
وكثيرا ما احترف خطابَة داعيةَ سياسيّ حماسيّ الانفعال..غير أنّ /أهْلِ
السِّياسَة عْقُولْهُمْ فِي (..)/ ـ قال ـ / هِيَ مْزَمْرَة وْزادُولْهَا
زَمَّارَة / لا فَايْدَه لا مَنْفْعَه لا ضْمَارَه / لَيَّامْ سُودَه
كِاللِّْيالي الدَّغْمَه / مَا يْخُصْنَا عَلْمُوتْ كَانِشْ فَغْمَه / كلّ
يناور الكلّ، يخاتله، يماطله، يخادعه، يكيد له، يوالي خصمَه أو يؤلّب
الأنصار عليه، ينشقّ عنه أو يتخلّى.. ساسة من ظهور ساسة، وحزب خارج عن حزب،
وقادة منشقّون عن قادة، وكثير إلى نفي، أو سجن أو طرد من حزبهم أو من أرض
البلاد..
جرّاء مشي منفعل هرول به على إيقاع الثّرثرة الباطنيّة، تلعثم عبد
الرّحمان وأوشك يقع لمّا صدره ضاق عليه ونفسه تقطّع به.. ضربت الأنفاس
الحبيسة بشدّة بين قضبانه، وصوّت مخنوقا ما تفلّت منها. وفي سرعة فاتكة،
انسدّ دونه ممرّ الهواء الضّيق فتقلّصت عضلاته، ونَفرت عروق رقبته كأوتار
مشدودة، وجحظت عيناه محتقنتان، وظلّ لحين عسير ينتفض مكانه شاهقا نافخا في
تنفّس سريع مرتعب انشقّ له صدر "البلوزة"، ووقع الغطاء عن رأسه، وتدهور
حاله كمن انتهى الحينَ إلى عداد القضاء يقع منه القلم مرمى اسم يتهيّأ
للتّفسّخ، بل كمن بلغت منه الرّوح الحلقوم ثمّ استدركت إلى بطنه مفجوعة
والوجوه الغابرة تتساقط على وجهه الظّامي، ومن خلفها رفرفت أخلاق الأحداث
الماضية على سواري الأسئلة الورِمة والأجوبة الكلمى..
لماذا طرده الرّفاق من "الحزب الشّيوعيّ" في جلسة سريّة..؟ كان عضوا
نشيطا، يخبّ على متن الحماسة ويقول: / مْطَرْقَه تْكَسِّرْ وْمِنْجِلْ
يْحِشْ/ نَارِ الْحَشَا/ تَطْفَى وْتِبْرِدْ مِنْ أَهْلِ الْوَشَى/
لماذا تخلّى الحزب الحرّ الدّستوريّ التّونسيّ عن الحركة العمّاليّة
و"الحامّي" في السّجن..؟ الحال كانت أكثر من زريّة فترة المنتصف من عشرينات
القرن الماضي: الرّبا ربا، العدل انتفى، العيش تدنّى، كلّ حقّ مفتقَد، و/
اصْحابْ الْفْلُوسْ ضَيْعُوا طْرِيقِ الرَّشَادْ / اِلْقِلِّيلْ يْنُوسْ
عِيشْتَهْ غْصَايِصْ وِنْكَدْ / يْقَاسِي فِي الْبِينْ وَأنْواعْ مِنِ
الاضْطِهادْ / مِنِ الْمَالِيِّينْ صَارِ الْعَامِلْ مُضْطَهَدْ /..
ولماذا لا / الدُّكْتُورْ وَاصْحَابَهْ لَجْنِةِ الْعُمَّالْ / مِنْ غِيرْ
ذَنْبْ تْسِجْنُوا وِالسِّجْنْ مْرَاحْ ذُلْ / لَأَجْلْ طُلْبُو زِيَادَه
فِي أُجْرِةِ الْعُمَّالْ / بَاشْ يْعُودْ نَاشِطْ خَالِي مِنِ الَكَسَلْ
/؟
ولمَ لا يترحّل الشّاعر المهزوم من فجّ فقير إلى فجّ معدم ينظم القبح
خرَزا في عقد اللّغة، ويقفّي البذاءة على وزن "البورجيلة" (3) شاتما /
جِمِيعِ الدُّوَلْ اِلْكُلْ دُولَه بْدُولَه / إلِّي ظْهَرْ وِلِّي بْقَى
مَتْخَبِّي/ بْرِيّاسْهَا بِمْلُوكْهَا بِالصُّولَه / بْتِيجانْهُمْ
بِعْرُوشْهُمْ فِي (..) / بِلِّي فِيهَا / بْرِيَّاسْهَا بْسُلْطانْها
بْوَالِيهَا / إِبَّيْهَا بْمُقِيمْهَا بْقاضِيهَا / إِبًّبَاصْهَا
بْإِيمَامْها بِالرِّبِّي / بْشِيخْ لِسْلاَمْ بِعْدُولْها بْمُفْتِيها../
وِلِّي تْسَمَّى وْصَارْ يَاخُذْ رَاتِبْ / وِلِّي يْهَذِّبْ فيِ لِعْقُولْ
يْرَبِّي..
أراح عبد الرّحمان الجسم اللاّغب على متكإ جدار نيفا من الوقت إلى أن
انفرج الكرب. أزاح العزمُ الحجر عن فوهة الحلق فانسابت الحياة راعشة إلى
مستقرّها من الصّدر. المرّةَ أيضا نازل الموتَ وغلبه. ما يزال هوى الوجود
متنشّبا في لحم الجسم الأربعينيّ وعظامه، وما يزال في القريحة الجريحة ما
يستحقّ الشّعر.
تفل الحنق لفظا مضمّخا بفضلة رئتيه فتشكّل كرة مائعة لزجة ضرِجة ظلّت
عائمة على صفحة الطّريق الأغبر تحدّث بمروره من هذه الدّرب إلى حبسه
الاختياريّ حيث لن يطرق بابه الخلاص حتّى يُرفع جثمانه إلى مقبرة الجلاّز،
ثم استعاد سيره العليل.
كم مضى من الأشهر لم يزر أهله هناك..؟ كم من الشّوق لديه..؟
حبّات الثّرى من "هِنْشِير الشِّهْدة" تأُوه بالنّداء وتصدى به أركان "دار
الشّرع" منحدر أهله المتديّنين: "اِرجع يا الكافي" لكنّه لا يعود أدراج
الخسارة. آثر الوحدة مجتنبا حِراب الشّفقة، وانحرف ثائرا عن كلّ الأهل
والصّحب واللّدّ، عن الأطر السّياسيّة، والعلب الفكريّة المحليّة
والمستوردة، والأحزاب المتصدّعة، وانخرط بتلقائيّة متمرّدة حانقة في حزب
الهامشيّين، يعيش على الشّظف ويحارب على جبهة عارية منزوعة السّلاح إلاّ من
لسان مسنون.. اِحتلّه السّلّ، صادر موارده الذّاتيّة، واستنزف ثرواته.
أخْلاه أجوف إلاّ من جعجعة الغيظ بين جنبيه كمثل ما أخلى الجراد البلاد..
ترجرج سيره حينا من الوجع كأمّة من الزّمن نكراء، وكاد ثانية يكبّ. طغى
بالودّ اللّحوح صوت "الكحلة" على كبرياء الحنين. كابد الشّوق معتصما
بالجَلد لكنّ المشاهد تهاطلت عليه من سماء الذّاكرة خضراء معشبة كأيّام
خوالٍ مخصبات.. صدقت نبوءتها ولم يصدقها وعده بالرّجوع إلى ضفاف مجردة
الخصيب.. كانت إذا أقبل عليهم زائرا موغلا جسمه في النّحولة، ووجهُه في
العتمة، تخفّ إليه جزوعا، تقول بين لطف العتب، وعنتِ اللّوم:
- آ الكافي/.. الدّنيا غْرُورَه ظالْمَة خَوَّانَه / كُلْ مِنْ تَبَّعْها
بْقَى خاطْرَهْ ذْلِيلْ / لاَ عَادْ رْفِيقْ يَنِفْعِكْ بِاحْسَانَهْ /
وْلاَ حْبِيبْ صَافِي تْصيبْ فِيهْ جْميلْ / وْلا بْقاشْ أَخْ يِوِدِّكْ
بْحِلْوِ لْسَانَهْ / وْلا يْعاوْنك في شِدَّهْ وْلا مْعاكْ يَرْفَعْ مِيلْ
/
يضحك هزوا. ينفرج فمه الوسيع عن أسنان بنيّة اللّون منخورة اللّب، ويبسط
أنفه الكبير منخريْه على جانبي وجهه الدّخِن. تضحك لضحكه. يحتقن لونه لنوبة
من سعال تباغته، وتصفّر الأنفاس. تسعفه بماء فلا يشرب. يسكت مرغما. يربط
الحزن راحلته إلى وتد مغروس بقلبه ثمّ يروح متفسّحا في أنحائه الباطنة..
بعد نهزة هدوء مخادع، يزفر تنهيدة وجيعة تحادثها بصوته الرّجِف:
- / ضَجِّيتْ يا وَعِدْ ربّي مِن الزَّمانْ وَامْحانَهْ / مِنِ هْمومِ
الدِّنْيا قَلْبي مْسَا عْليلْ / مِنِ الزْمانِ الْفاسِدْ وِفْعايْلَه
الشّومانَه / يِتْقَلِّّبْ يِتْشَقْلِبْ تْقولْ طِيرِ اللِّيلْ /
تسكن. لم تقتنع أو عسر عليها فهم ما يعتمل برأسه القلق. يكظم قلبُها
الألم، ويغضّ لسانها العتبَ، وتنشغل عنه عيناها بشأن غير ذي بال: تحرّك
جمرات الكانون حينا، وحينا تتذوّق الشّاي بلا موجب أو تنهر دجاجاتها. في
انشغالها الموارَب، تمشي "الخضرا" الهوينى على مسرح الخاطر فتستعر به نار
بغتة، ويغلي الغضب.. يرتدّ إلى سواد الحنق فترتدّ معه "الكحْله" إلى حدّ
العجب المسفوع خوفا. تزمّ شفتيها وتحبس دمعا يغالبها فيطفر من مقلتيها
البريق. يسحب "سبسي" الأبنوس. يعدّ ببطء متلعثم تبغه. يبتلع نهِما دخان
الهشيم المشتعل فيدفق عمودا دخان من فوْهتي منخريه الواسعين، ومن جوفه
تتهاوى الكلمات النّوابي إلى حوض الشّدقين كقطع الحجارة. يسحقها مليّا بين
أضراسه، ثمّ يحرّك بها لسانه فيُسمع للحروف صرير كالحصى يتفتّت تحت أقدام
حديد:
- أنا الكافي يا "الكحْله"/ عبيدي جندوبي متسمّي عبد الرّحمان /.. أنا
إِلِّي / حَالِفْ بِيمِينِي/ لا نَخْضَعِ لْمَخْلوقْ لَوْ يِغْنِينِي /
الْمُوتْ مَرَّه بَرْكَه يا صاغِينِي / وِالْقْسَمْ مْسُوقِرْ في كْفالِةْ
رَبِّي / إلّي ماتْ تْهَنَّى / وِالْموتْ أحْسِنْ مِنْ حِْياةِ الْمِنَّه /
العِزْ في النّارْ وْلا الذُّلْ في الْجَنَّه / موتِ الشَّرَفْ وْلا
حْياةِ الْكُبِّي / هَذا فِكْري بِيهْ صُغْتِ الْغِبَّه / صَحَّحِتْها
وِطْبَعِتْ فِيهَا بْـ(…)
بتر الحياء ذيل البيت فقام عن المجلس الحميم إلى رجعة غير مأمولة.
-3-
تمّ هُوِيّ الشّمس في حمأة العين. تمّت سياحته التّائهة بين أضلاع
المدينة. الإفلاس رائج، واللاّمبالاة مشتملة، والوطن الواحد شقّان
متطرّفان: / هُمَّ رايْقينْ في خْلاعاتْ وْكيفْ / في أبْراجْ وِقْصورْ
وِمْقاصِرْ وغْرُفْ / لَيْس يْذوقوا بَرْدْ وْلا حرِّ الصّيفْ / في راحة
وِرْياضْ وِفْجورْ وِتْرَفْ / وِالعَمَّالَه حالْهُمْ بايِسْ وِضْعيفْ /
حُفاةْ عُراةْ في شِدَّه وِشْعَفْ / دِيمَا كَدّادينْ رْبيعِ مْعَ خْريفْ /
يْقاسُوا في أتْعابْ منها الدَّمْ يْجِفْ / .
سقط اللّيل دفعة واحدة ووقع منه على مبنى الذّاكرة فتهدّمت جدرانها، وخرّ
سقفها، وبُعثرت مرأى العين خيباتُها.. لم يستطع سبيلا يتدبّر منه مالا
يقوته لهذه اللّيلة، فلا حرفة له ولا بقي من يكفله من السّاسة أو الأثرياء
بعد أن راجت ريح السّباب من "ملزومة الصّبر لله". ليس ذنبه. طبعه
الانشقاقيّ الحُوّل منَعَه أن يستقرّ إلى مهنة يدّخر من رخائها لشدّته، أو
امرأة تتدبّر بحكمة الأنثى طعامه وشايه، وتعوله في أرذل صحّته. هجر زوجه
إلى عشق البلاد والتّجوال على جسدها المترامي، وظلّ إلى حينه المهزوم هذا
وحيدا مهملا يتجرّع الحسرات..
كان، سالف أيّامه، يقتات من شعره مُلْقى في المقاهي، وحلقات السّاسة،
وبيوت الموسرين الموالين لهذا الحزب أو ذاك، وحفلات الزّفاف، أو منشورا في
جرائد "المضحك" و"جحجوح" و"النّديم"و"الزّمان" لينفق ما يفضل عن حاجته في
دعم الجماعة السّياسيّة التي أطّرته.. يختلف إلى "دار الجلد" فيلوّح
بالعكّازة في الفضاء المنفعل، ويعدّل وضع الشّاشيّة على رأسه، ولمّا يستيقن
من انشداه الأسماع عليه، يلقي، في حماس دفيق واقتناع وهيج "ملزومة" تبسط
مبادئ الشّيوعيّة للعامّة، وتطرح على طاولة الرّفاق ورقة عمليّة في استقطاب
العمّال، واستمالة الفلاّحين، وتعبئة القاعدة الشّعبيّة..
- الشّايْ للَّهْ وبِيهْ حِزْبِ الشّيوعيّينْ / يْحِبْ النَّاسِ الْكُلْ
إِخْوَه مِتْرَادْعِينْ / كِي مِسْيُو كِي سِيدي، إلْكُلْ فَرْدْ لُونْ /
يامُرْ بِالْأُخُوّه وِالتّعاضُدْ لِمْتينْ / ما لِيهْ في الدِّيانَه لا
دَخْلْ وْلا فْنونْ / ما صابْ في الْعْراضَه كانِ الْمِتْمَوْلِينْ /
يَعْني كَمْشَه هْميلْ جْماعَه مُتْرَفينْ / يُنُكْرُو وُجُودْ حِزْبِ
الْمُسْتَضْعَفِينْ / يْحِبُّو يْعِيشُوا وَحَّدْهُمْ وِيْعَمْرُوا قْرُونْ
/
تضرب كُفَّ الإعجاب كُفَّ الاندهاش، وتخفق رايات النّصر الحُمر في شوارع
الحلم اكتظّت بجموع المُعدمين، والمضطهدين، وجَمّ الكادحين والسّواعد
السُّمر الشّداد تدكّ أصنام الاضطهاد بالمطارق والمناجل والحناجر الهازمة
على وزن الوحدة الشعبيّة الثّائرة:
/ تْعيشْ الْأُخَوَّه وْيَحْيُوا الشُّيُوعِيّون / وِالْمِنْجِلْ
وِالْمِطِرْقَه تْعيشْ يا لُوزونْ /..
ولمّا باغته الرّفاق باجتماع سريّ شُطب خلاله اسمه من عضويّة الحزب على
إثر البتّ النّهائيّ في "قضيّة لوزون"، وكز الكافي على عجل الحماسة مطيّة
الشّعر، وراح يطوّف في أرجاء البلاد ينشد وعموم النّاس معه ينشدون:
أَوِّلْهُمْ الدُّسْتورْ هُوَ الْغايَه / هُوَ الأَصْلْ هو إلِّي عْليهْ
شْكِينا / هو إلّي نَّالًُوا بِيهْ حُرِّيِتْنا / بِيهْ نَنْجُو مْنِ
الدَّرَكْ وِغْبِينَه / .. وظلّ هائما في هوى الدّستور حتى بلغ حرف اليأس
من "رحبة الغنم".
هناك، وبساط الصّحة يتمزّق تحت قدميه، أدرك عبد الرّحمان الكافي أنه أردى
بنفسه إلى حضيض الواقع، وبؤس النّهايات. صار يتفجّع من اللّيل ليله ومن
النّهار كامل ساعاته ولا يوفي المرارة قدرها من التّفّجع، أو يغنيه النّدم:
/ يا نَفِسْ طاوَعْتِكْ وِهَمِّلْتيني / في بْحَرْ مِالذُّنُوبْ
غَرِّقْتِيني / صُغْرِي تْعَدَّى في هْوَاك وْفَنِّكْ / حُبِّ الْكِيُوفْ
وِاللَّهْوْ هُومَا جِنِّكْ / في كُلْ مَا هِي مَعْصِيَه رْمِيتِينِي /
جْرَالِي مِنِّكْ../
مشرط يحزّ لحمه الحيّ هي الشّفقة. سماء تخرّ بالمُهْل على رأسه العارية
وتفيض على جوفه، مظلمة كرحمة رقّ بها فؤاد السّماء على جسد الأرض المشقّق
غِبّ حوْليْ جفاف كاملين، كانا كسبع شداد متتاليات مطالعَ العشريّة
الثّالثة من القرن العشرين.. اِستجدى النّاس المطر ليروي العِطاش فجار
عليهم عارما يفجع السّفَل البائس الجفيف.. هبّت النفوس الظِّماء الذّاويات
يخضن أوحال الفيضانات غرقى ونازعات ولاجئات إلى كِنِّ الاحتلال ، وما نجا
من شجع المرابين وجور المعمّرين وانتهازيّي الوطن السّليب شوهد على مراكب
الطّين يسافر إلى الفساد.. غيض الماء متى شاء، وحلّت من بعده وفود الجراد
تؤازر قوانين الاستعمار الزّجريّة بالجدب العميم، واستفحال البطالة، وتفشّي
الأوبئة والأمراض.. نزحت ـ على إثر الرّزايا المتلاحقات ـ رقاع الخريطة عن
مساقطها الهالكة، وتجاورت في "رحبة الغنم" متنافرة الأطراف، متعارضة
الأفكار والأحزاب والانتماءات كلوحة من الفسيفساء تختصر الفئات القاعديّة
التي لهثت خلف الوعود السّياسيّة طمعا في غد أقلّ ظلما من يومهم فانتهت بهم
إلى ركن هامشيّ ظليل من متحف التّاريخ الوطنيّ.. كانوا صنوفا من العاطلين،
وطالبي الرّزق المستحيل، وفاقدي أراضيهم وأنعامهم، وصغار التّجار
المفلسين، والحرفيين المتخلّين قسرا عن حرفهم، وجيل المتسوّلين الجدد ممّن
تمخّضت عنهم الأزمة الاقتصاديّة العالميّة، والتّردّي المحلّيّ العميم.
وكانت "ملزومة الصّبر لله" متنفَّس الغيظ، وشريعة التّمرّد، ووصيّة الداني
إلى القاصي، ونكهة الأسمار التّعيسة..
ولج الكافي مسكنه منخول القوى والذّاكرة، مشدودا إلى لذّة "الحشيش"
المحبّبة. ألقى الجسد المتهدّم على الحصير الخشن. سعل ما شاءت النّوبة أن
تطول، ثمّ تحامل على الوهن، وحنى ظهره قليلا إلى منتهى المفرش يسحب
الـ"سِبْسي" من جيب البرنس. سماء مارس تكدّرت فجأة. تعالت آهاتها من فُلل
الضّلوع التي تلعجها البروق، وترجمها الرّعود، فيما دمعها عصيّ بالمحاجر لا
يجود فيريح.. أخذ من ثنيّات "المِطْوِي" ( حافظته الجلديّة) زادَ
"الكِيفْ" وهيّأه هادئا، وئيد الحركة، متقفقفا من برد. خفقت الرّوح في
بطنه. ما تزال بعْد على أهبة الانفلات من براثن الجسد المنخور. أسلم لخفقها
كأنّما فقد المرّةَ الرّغبة في مغالبة الفراق. عاد يسند ظهره المقرور إلى
جدار بارد يتجافى عن الطّمأنينة، ونهم نفسا طويلا عميقا أخذه حالما أطلقه
من الصّدر إلى الخدر..
خرج عنه الصّبيّ السّاكن إلى جنبه يعتلى صهوة حمار رماديّ يخبّ خلف بغل
القاضي والدِه يعود إلى دياره بعد أن عزلته سلطة الحماية عن منصبه لتمرّده
على فرض القوانين التي تريد.. عدا الطّفل في مرتع الزّمن المتمرّد وتربّع
في حلقة للذّكر والمديح من الشيوخ المريدين لجدّه الصّالح "سيدي عبيد"..
دقّت البنادير الضّارعة في جوفه السّاغب، وخالط عطر البخور ريح " التكروري"
فنشط دمه الخامل وجاوب صدره المسلول أهازيج السّماء بنوبة من سعال حادّ
أرّبت فرحه المسترجع وأنفاسه الرّهقة.. تبسّم في ذبول. تبسّمت العفونة
الرّاكدة بين فكّيه تشي بطول الجوع وشهوة الشّاي وشوق الصّحب الأُوَّل.
تلمّس ما حوله فأمسك بالعكازة، ورفعها في لحظة من النّشوة المستقطعة فهوت
مخذولة تضرب الأرض حسرة.. إلى شجرة الكرم، أقبل عليه ابن عمّه صالح هاشّا،
خفّ إليه وصاح في زوجه بالعتاب: "وينو التّاي يا الكحلة..؟ "/ التّايْ يا
ناسْ قتّالْ إذا كانْ مِغْلِي بْزايِدْ / مِنّو الوِجْه يِذْبالْ
وِالجِسِمْ يْعودْ بايِدْ / . ضحكت "الكحله" ملء سنّها الصّفراء وقسماتها
السّمراء وعودها المتربرب في ملاءة مخطّطة زرقاء، وارتدّت أدراج البهجة
تحثّ الفحم على اللّظى حتّى يوشك السّائل الأحمر في جوف الإبريق أن يسودّ
من فرط الغليان..
تلمّظ الكافي طعم الشّاي المحترق وقد انسرب من صدر الذّاكرة إلى أنفه
وتعتّق على ذؤابة اللّسان، وأحكم ضمّ شفتيه ليقبض على لذاذة الوهم
المتفلّتة. تنهّد عميقا. أين هم..؟ عاد عليه الصّبيّ كسيرا، جائعا، يتيما..
قطّب الكهل جبينه ممتعضا فتراكبت الغضون واشتد السّواد بين أثلامها. شاخ
الوجه سبعا من السّنين أخريات انضفن إلى العقود الأربعة من عمره القلق.
حمحم مقشّرا صدره من أدرانه. بصق على وجه الوقت الرّاكد فمسحت "الخضرا"
طشيش البصاق من على وجهها ومالت إليه. كانت قد تسلّلت إلى مسكنه في جنح
الحلم السّكيت فلم ينتبه إليها. أوصدت خلفها باب الذّاكرة. أخمدت نار
الغيظ. أوثقت فرس اللّسان الجموح إلى ضلع. ولمّا سَبَتَ الذّهن على وثارة
الغيم، وسكن اللّيل إلى ظلمته، أطفأت شمعة الوعي الأخيرة، ثمّ / رُخْفِتِ
الْمَحْزِمْ مالْ / حَدِّرْ لِلْكَعْبَه طايِحْ مْجاديلْ..
الهوامش: 1 - كلّ ما ورد بين /…/ هو مقاطع شعريّة أو أبيات من قصائد كتبها الشّاعر
الشّعبيّ عبد الرّحمان الكافي ونشرت في "ديوان عبد الرحمان الكافي" –
تحقيق: فيصل المنصوري – تونس، دار سحر للنشر.
2- الملزومة هي أحد الفروع الأصلية الأربعة للشعر الشغبي التونسي ( إضافة
إلى القسيم والمسدس والموقف) .
3- وزن "البورجيلة": إيقاع مميّز للشّعر الشّعبي والعامّي الرّائج بتونس
منذ أواسط القرن التّاسع عشر. – عبد الواحد المكني : أشهر قصيدة بذيئة في
تاريخ تونس زمن الاستعمار الفرنسي … موقع الأوان.