المتمرد الذي لا يحسب حساباً إلا لهيجانه الكتابي، فقد كان دائم الإصرار
على أن الأخطاء اللغوية التي يصطادها البعض في نصوصه ويحاولون التباهي
بمعارفهم من خلالها ليست سوى باروكات حتى وإن اعتقد المتضلعون والمتعلمون
انها ليست هينة في مسيرة هذا الشاعر حسب ما يذهب إليه عباس بيضون.
هيجان فتقه أول مرة السجن حينما رأى أن الواقع يتشكل على هيئة ايقاع نعل
«حذاء» شرطي يضرب على الصدر فكتب نصه المعنون بالقتل، وكان يعتقد ان ما
خطته يده المرتعشة لا يتعدى تسجيل يوم من يوميات سجن المزة أواسط خمسينيات
القرن الماضي، ولم يكن يعرف ان هذا النص مع بضع نصوص أخرى ستفعل فعلها
المؤثر في سنين قليلة في الشعرية العربية الجديدة:
ضع قدمك الحجرية
على قلبي يا سيدي
الجريمة تضرب باب القفص
والخوف يصحح كالكروانوفي نص ثان عنوانه «مقهى في بيروت، كتب:
لا شيء يربطني بهذه الدنيا
سوى الحذاءوبحث تالياً في مجموعته الثانية «غرفة بملايين الجدران» عن وجهه بين
حذائين.
أما بعد أربعين سنة فكان قد توصل إلى تشخيص مشكلتين مزمنتين سممتا حياته
ونغصتا عليه عمره منذ الطفولة.. مشكلتان تتعانقان فوق رأسه وسريره ودفاتره
كشعار الصيدليات العالمي «فلسطين والأحذية» هذا ما أخبرنا به سياف الزهور
نقلاً عن «النعل الأزرق».
لهذا حين تقترب القراءات من ثيمة الطائر والمصيدة أو العصفور والقفص سنعرف
ان الماغوط ظل يحمل السجن على ظهره مثل أحجار الأساطير العملاقة.
السجن الذي سيتحول إلى مرتع أرض شاسع للخوف
تعالي وخبئيي في جيبك الريفي العميق
مع الأبر والخيطان والأرار
فالموت يحيط بي من كل جانبوبدوره سيتحول الخوف إلى منارة شاهقة للحزن المختلف والذي سيتلبسه مثل جلده
المدبوغ الأحمر، وسيفرض نفسه لصاحب حق فيما تنتجه أصابع الكاتب من العنونة
الى المتن «حزن في ضوء القمر / الفرح ليس مهنتي» وصولاً إلى النصوص
البارقة
اترك الدمعة
تبرق كامرأة عارية
فأنا على علاقة قديمة بالحزن والعبودية
أيها الحزن ياسيفي
الطويل المجعّدحتى الأغنية لا تسلم من هذا الظل الثقيل الملتحف بأصابع الكاتب وهو يكتب
لباب توما الدمشقي
حلوة عيون النساء في باب توما
حلوة .. حلوة
وهي ترنو حزينة إلى الليل والخبز والسكارىفحتى من علاقته بالأشياء الخاصة لابد أن يتظهر هذا الحزن الفاره
سأودع أشيائي الحزينة ليلة ما
بقع الحبر
وآثار الخمرة الباردة على المشمع اللزج
وصمت الشهور الطويلة
والناموس الذي يمص دميالمسافة بين الخوف والحزن كان السجن والمسافة التي اختطها الثلاثة صغت
الوطن والذي لا يعني لك شيئاً إن ظللت تبحث عنه طيلة خمسين سنة وفي النهاية
لا تجده سوى خارطة ترى من نافذة الطائرة على هيئة حذاء .. خارطة تستطيع أن
تملء رقعها الملونة بحكام .. طغاة /قساة/بغاة/جهلة/انتهازيون وشعوب
لمامة/قمامة/ صراصير/ حشرات/ مهانون/ مذلون..
وطن قد نصل إليه عبر طريق الحرير لنكتشف
مجداً جديداً وعاراً جديداً
أخباراً ترفع الرأس
وأخرى ترفع الضغطوقد نوصله في «عيد الشكر» ومع ذلك لن نحلق به على
علو مرتفع حتى لا يصيبه الدوار
ولا علو منخفض حتى لا يصطدم باحدى الأغنيات الهابطة فيهبط معها إلى الدرك
الأسفلالوطن الذي سيهديه صورة «فوتوغرافية» وهو في حالة من حالات الذئب المتلوي
مثل شجرة إلى الوراء ولن يتوارى عن انتزاع علمه عن السارية ليخيط له
أكماماً وأزراراً ليرتديه كقميص إذا لم يعرف متى ستسقط أسماله.
الوطن الذي لم تستطع سنية صالح أن تأخذ من ترابه أكثر مما يأخذه القدم من
الحذاء ولم يأخذ منه الماغوط سوى منارة الحزن الشاهقة.
السبت يونيو 27, 2015 7:33 pm من طرف سميح القاسم