هذا الكتاب فريق العمـــــل *****
عدد الرسائل : 1296
الموقع : لب الكلمة تاريخ التسجيل : 16/06/2009 وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 3
| | محمد الماغوط.. منارة الحزن الشاهقة | |
| | حينما تكون حصتك من الحياة أكثر مما يأخذه حذاء من التراب إن موتي قريب كغصن فوق رأسي فكوني الزهرة الأخيرة الباسلة فأنا آخر بستان للشعر في هذا العالم ولا سياج لي.. «محمد الماغوط ـ سياف الزهور» بماذا كان يحلم هذا الفوضوي المعجون بصلافة البدوي وخوف الفلاح وزهو الصعلوك.. بالتأكيد ليس بتغيير العالم.. فهو الذي كان يحيك من المصادفات الفارقة.. سيرته الضاجة ، ليتدرب لاحقاً على كيفية تتويهها .. ثم يهرب منها إلى المكان الذي لا تستطيع أن ترصده فيه، فيفتح فمه العريض ويبدأ بقهقهته العالية!! جاء إلى الحياة ليزيد من أعداد الفقراء من فلاحي قريته فقط، وهرب من مدرسة الغوطة ـ التي كانت ستقدم لابن الفلاح الفقير الطعام والشراب والمنام وستفقهه في علم الحشرات الزراعية.. وهو الباحث أصلاً عن علم الحشرات البشرية، ودخل الحزب من أجل أن يتدفأ فقط وليشتري من أول تبرعات نقدية جمعها باسم الحزب بنطلوناً منقشاً وخرج منه لأن المنشورات السياسية والسفن الفينيقية لا تستطيع أن تعبر به زقاقاً موحلاً. وجاء إلى الشعر «الجديد» من خارج التنظير لينزله من عليائه اللغوي وتوهيماته إلى مساحات الشرك القرائي الفاتن، فهو الذي استطاع نقل موضوعات القصيدة الجديدة من التخيلي الجاف والتذهين الصارم إلى مساحات المعاش والهامشي المتغلغل في ثنايا حزنه وخوفه وارتيابه وحينما كان غريباً ووحيداً في بيروت أواخر الخمسينيات وعندما قدمه أدونيس في أحد اجتماعات مجلة «شعر» المكتظة بالوافدين ، وقرأ بعض نتاجه الجديد الغريب بصوت رخيم دون أن يعلن عن اسمه وترك المستمعين يتخبطون.. بودلير.. رامبو ؟ لكن ادونيس لم يلبث أن أشار إلى شاب مجهول غير أنيق أشعث الشعر وقال هو الشاعر. الرواية هذه ليست مجروحة لأنها صدرت عن «سنية صالح» قبل ما يقرب من نصف قرن ليظهر شبحها في واحد من نصوصه وهي: تمد راحتها نصف المضمومة خارج القبر لتشرب منها الطيور الغريبة أو تظهر في أغنية سياف الزهور يا يتيمة الدهر وكل الدهور من أين ورثتي هاتين الرئتين الواهنتين كرئتي عصفور
المتمرد الذي لا يحسب حساباً إلا لهيجانه الكتابي، فقد كان دائم الإصرار على أن الأخطاء اللغوية التي يصطادها البعض في نصوصه ويحاولون التباهي بمعارفهم من خلالها ليست سوى باروكات حتى وإن اعتقد المتضلعون والمتعلمون انها ليست هينة في مسيرة هذا الشاعر حسب ما يذهب إليه عباس بيضون. هيجان فتقه أول مرة السجن حينما رأى أن الواقع يتشكل على هيئة ايقاع نعل «حذاء» شرطي يضرب على الصدر فكتب نصه المعنون بالقتل، وكان يعتقد ان ما خطته يده المرتعشة لا يتعدى تسجيل يوم من يوميات سجن المزة أواسط خمسينيات القرن الماضي، ولم يكن يعرف ان هذا النص مع بضع نصوص أخرى ستفعل فعلها المؤثر في سنين قليلة في الشعرية العربية الجديدة: ضع قدمك الحجرية على قلبي يا سيدي الجريمة تضرب باب القفص والخوف يصحح كالكروان وفي نص ثان عنوانه «مقهى في بيروت، كتب: لا شيء يربطني بهذه الدنيا سوى الحذاء وبحث تالياً في مجموعته الثانية «غرفة بملايين الجدران» عن وجهه بين حذائين. أما بعد أربعين سنة فكان قد توصل إلى تشخيص مشكلتين مزمنتين سممتا حياته ونغصتا عليه عمره منذ الطفولة.. مشكلتان تتعانقان فوق رأسه وسريره ودفاتره كشعار الصيدليات العالمي «فلسطين والأحذية» هذا ما أخبرنا به سياف الزهور نقلاً عن «النعل الأزرق». لهذا حين تقترب القراءات من ثيمة الطائر والمصيدة أو العصفور والقفص سنعرف ان الماغوط ظل يحمل السجن على ظهره مثل أحجار الأساطير العملاقة. السجن الذي سيتحول إلى مرتع أرض شاسع للخوف تعالي وخبئيي في جيبك الريفي العميق مع الأبر والخيطان والأرار فالموت يحيط بي من كل جانب وبدوره سيتحول الخوف إلى منارة شاهقة للحزن المختلف والذي سيتلبسه مثل جلده المدبوغ الأحمر، وسيفرض نفسه لصاحب حق فيما تنتجه أصابع الكاتب من العنونة الى المتن «حزن في ضوء القمر / الفرح ليس مهنتي» وصولاً إلى النصوص البارقة اترك الدمعة تبرق كامرأة عارية فأنا على علاقة قديمة بالحزن والعبودية أيها الحزن ياسيفي الطويل المجعّد حتى الأغنية لا تسلم من هذا الظل الثقيل الملتحف بأصابع الكاتب وهو يكتب لباب توما الدمشقي حلوة عيون النساء في باب توما حلوة .. حلوة وهي ترنو حزينة إلى الليل والخبز والسكارى فحتى من علاقته بالأشياء الخاصة لابد أن يتظهر هذا الحزن الفاره سأودع أشيائي الحزينة ليلة ما بقع الحبر وآثار الخمرة الباردة على المشمع اللزج وصمت الشهور الطويلة والناموس الذي يمص دمي المسافة بين الخوف والحزن كان السجن والمسافة التي اختطها الثلاثة صغت الوطن والذي لا يعني لك شيئاً إن ظللت تبحث عنه طيلة خمسين سنة وفي النهاية لا تجده سوى خارطة ترى من نافذة الطائرة على هيئة حذاء .. خارطة تستطيع أن تملء رقعها الملونة بحكام .. طغاة /قساة/بغاة/جهلة/انتهازيون وشعوب لمامة/قمامة/ صراصير/ حشرات/ مهانون/ مذلون.. وطن قد نصل إليه عبر طريق الحرير لنكتشف مجداً جديداً وعاراً جديداً أخباراً ترفع الرأس وأخرى ترفع الضغط وقد نوصله في «عيد الشكر» ومع ذلك لن نحلق به على علو مرتفع حتى لا يصيبه الدوار ولا علو منخفض حتى لا يصطدم باحدى الأغنيات الهابطة فيهبط معها إلى الدرك الأسفل الوطن الذي سيهديه صورة «فوتوغرافية» وهو في حالة من حالات الذئب المتلوي مثل شجرة إلى الوراء ولن يتوارى عن انتزاع علمه عن السارية ليخيط له أكماماً وأزراراً ليرتديه كقميص إذا لم يعرف متى ستسقط أسماله. الوطن الذي لم تستطع سنية صالح أن تأخذ من ترابه أكثر مما يأخذه القدم من الحذاء ولم يأخذ منه الماغوط سوى منارة الحزن الشاهقة.
|
| |
|
السبت سبتمبر 18, 2010 6:19 pm من طرف سميح القاسم