****
إنه في منزلة رفيعة لكنه ليس الأكبر
أحمد عبدالمعطي حجازي
(مصر)
لست مطمئناً لما تعودنا أن نقوله عن المكانة التي يحتلها المتنبي في
الشعر العربي، خصوصاً حين يعتقد البعض أن هذه المكانة ثابتة، وأنها لم
تتغير في هذا العصر عما كانت عليه في العصور الماضية.
وأنا لا أشك في
شاعرية المتنبي، ولا أنكر شهرته العريضة، لكني أنكر مبالغات المتحدثين عنه،
وأشك في ما يدعونه عن إعجابهم به ومعرفتهم إياه؛ لأن معرفته تتطلب علماً
وذوقاً لا يتوافران دائماً ولا يجتمعان إلا للقليل النادر من الناس، وأغلب
الظن أن أكثر من يتحدثون عن هذا الشاعر يرددون ما يسمعون، ولا يرون ضيراً
في هذا، لأنهم يشهدون للمتنبي بالفضل، ويشهدون لأنفسهم بمعرفته.
وقد
سمعوا بالطبع أن المتنبي ملأ الدنيا وشغل الناس، فهو إذن أكبر شاعر عربي
ليس في الماضي فحسب، بل في الماضي والحاضر والمستقبل أيضاً؛ لأن الماضي في
نظر هؤلاء - كما في نظر المتنبي - هو شباب الزمان، أو هو العصر الذهبي الذي
لا يفوقه ولا يساويه أي عصر لاحق، والظروف التي ساعدت على ظهور المتنبي لن
تتكرر، والأسطورة تكتمل بهذا الاسم الفريد الذي رضيّ الجميع بأن يحمله
المتنبي، كأنما هو حق له وحده أن يدَّعي النبوة!
وشكي في حقيقة المكانة
التي يحتلها المتنبي في الشعر العربي ليس مرده الشك في قدرة الكثيرين على
قراءته فحسب، بل مرده أيضاً الشك في قدرة المتنبي على أن يفوز بإعجاب
الجميع وخصوصاً المعاصرين. لأن المتنبي يقدم لنا في معظم قصائده نوعاً من
الشعر لم يعد قادراً على مخاطبتنا في هذا العصر. نوع من الشعر يقوم على حفظ
المسافة الفاصلة بينه وبين موضوعه وبينه وبين قائله، فمن الطبيعي أن يقيم
هذه المسافة بينه وبين القارئ في هذا العصر.
الموضوع في شعر المتنبي -
وفي معظم الشعر القديم - هو الآخر البعيد بوجوهه المتعددة الإيجابية
والسلبية التي يكون فيها مرة ممدوحاً، ومرة مهجواً، ومرة مرثياً. وهو
بوجوهه كلها ليس شخصاً بالذات، وليس حتى إنساناً، وإنما هو نموذج، نموذج
للخير والنبل والجمال إذا كانت القصيدة مديحاً، أو للشر والخسة والقبح إذا
كانت هجاءً.
والمتنبي لا يتورع عن أن يجعل ممدوحيه آلهة قادرين على كل
شيء. وأن يجعل مهجويه أرانب وغنماً وكلاباً. وبما أنه لا يتحدث غالباً عن
إنسان ولا يتعاطف معه وإنما يتتبع صفات النموذج المقررة سلفاً فهو قادر على
أن يهجو من مدحه من قبل وأن يمدح من هجاه.
شعر المتنبي شعر محفوظ أخذه
المتنبي عن الذين سبقوه. لأن الإبداع في زمنه لم يكن خلقاً جديداً، وإنما
كان إعادة صياغة. والشعراء والبشر عموماً في زمنه لم يكونوا أفراداً وإنما
كانوا عشائر وقبائل تنتمي لأصل أسطوري يراه أهله نموذجاً في النبالة، ويراه
أعداؤهم نموذجاً في السفالة. هذا النموذج بوجهه هو موضوع الشعر القديم،
وهو لغته أيضاً التي لا تنسب لشاعر فرد، وإنما تنسب لكل من يحفظونها
ويعيدون إنتاجها. فإذا أردنا أن نضع أيدينا على سمات فردية في الشعر القديم
فلن نجدها إلا عند الشعراء الذين انفصلوا قليلاً أو كثيراً عن جماعتهم
وتحدثوا عن عوالمهم الخاصة كأبي نواس والمعري، والصعاليك والفُتاك،
والخوارج، والمُجان، والمتصوفة.
وأجمل ما في ديوان المتنبي وأبقاه تلك
المقاطع والأبيات المتناثرة والأمثلة السائرة التي يحب فيها ويكره ويتأمل
ويتذكر، ولا شك أن هذا الجانب من شعره يضعه في منزلة رفيعة بين الشعراء
العرب، لكنه لا يجعله أكبرهم.
****
عبقرية وأغراض
أمجد ناصر
(الأردن)
تنتابي مشاعر متناقضة حيال المتنبي، إدراك عبقريته الشعرية وغموض
مقاصده، وضيقي بما يمكن أن نسميه «تسوله» بالشعر، ووضع عبقريته الشعرية في
خدمة أغراض وممدوحين لم يكن يمكن ان يذكرهم التاريخ لولا انهم وردوا في
شعره. انسوا سيف الدولة، كافور، أبا العشائر، هؤلاء كبار قياساً بـ
«مختاري» قرى ودساكر مر بها المتنبي في رحلته الغامضة وترك لنا أسماءهم في
مدونته الشعرية المبكرة.
يأخذ السؤال على المتنبي وضع طاقته الشعرية في
ما هو «غير شعري». ولكن هذا فهم يحاكم منجز الأمس بمفاهيم اليوم. وذلك لا
يجدي نفعاً في فهم ظاهرة المتنبي ولا الشعر العربي القديم. فنحن نملك اليوم
مفهوماً للشعر يبدو الشعر العربي القديم، في منظوره، متخلفاً، بعيداً من
مقاصد الشعر الكبرى، مجرد مهارات لغوية وبلاغية. لكن العرب لم يفهموا الشعر
على هذا النحو. علينا ان نتذكر ان العرب، بعد قيام امبراطوريتهم الممتدة
من الهند الى جبال البرانس اقبلوا على نقل علوم السابقين من دون شعور
بالنقص، بإحساس حقيقي الى حاجتهم لتلك العلوم والفلسفات ولكنهم، قط، لم
ينقلوا شعر غيرهم. كانوا يرون ان الشعر لعبتهم وفنهم. انه، في نظرهم، الابن
الطبيعي للغتهم. لغة الشعر. فالعربية، في ذلك الفهم، كانت هي لغة الشعر،
والعرب هم أمته. هذا يفسر لنا، ربما، لماذا نقلت فلسفة اليونان ولم ينقل
الشعر اليوناني... لذلك كتب الشعر العربي في ذلك الفضاء. انه سابح وحيد في
فضاء شاسع.
وجود المتنبي على قائمة القراءة والتداول العربيين طوال هذا
الوقت ليس بلا وجاهة، وليس بلا سبب. أحتار، شخصياً، في فهم حضور المتنبي
عربياً في كل العصور التي تلت ظهوره كالبرق الخاطف في التراث الشعري
العربي: هل هو تلك اللغة المنحوتة، قوة الصوغ، تبلور الشخصية واعتدادها،
الغموض الذي يطبع المقاصد «الحقيقية» لشعره ومسعاه، حكمته حيناً، حزنه
حيناً آخر، اختراقاته النفسية الساطعة، الفخامة المخيفة لبلاغته؟
قد
تكون كل تلك العناصر مجتمعة. قد تكون، أيضاً، وقع شعره على واقع حال لم
يتغير كثيراً. مناسبة بعض شعره لواقع متلقيه في لحظات تخلخل كيانية كبرى.
لعله، كذلك، تضارب الروايات حول شخصه. لكن المؤكد ان شاعراً عربياً غيره لم
يحظ بهذا الحضور قط. ولا يمكن ان يكون كل هذا الحضور مجرد صيت أجوف.
المؤسف ان الدراسات العربية التي تأخذ بالمناهج النقدية والمعرفية الحديثة
قليلة عن المتنبي. شخصياً لم أجد (وقد أكون مخطئاً وغافلاً) دراسة عربية
تتجاوز ما جاء به الفرنسي بلاشير. من الممكن ان تكون مثل هذه الدراسة
موجودة ولكنها لم تستطع ان تكون، في فضاء التلقي العام، صورة أخرى عن
المتنبي.
****
متناقض لأنه حقيقي
شوقي عبد الأمير
(العراق)
لا أفهم لماذا هذا التساؤل بالصيغة التعجبية الاستنكاريّة أحياناً عن
ديمومة شاعريّة أبي الطيّب قرابة عشرة قرون! وكأن العرب وحدهم يملكون ظاهرة
كهذه، أليس هناك شكسبير الذي لا يزال يُمثّلُ ويُحفظُ على الغيب لدى طلبة
المسارح والأدب في كل أوروبا والعالم أجمع؟ أليس هناك سرفانتس في اللغة
الاسبانيّة وهل أتوقف عند هذين الاسمين لكي لا أملأ الصفحة بأسماء رديفة من
كل ثقافات ولغات العالم؟ أم تراني بمثل هذا التساؤل أعود إلى شعر أبي
الطيب نفسه الذي يقول: «وتعظم في عين الصغير صغارُها وتصغرُ في عين العظيم
العظائم...».
إنها مسألة طبيعية في تعريف الشاعر العظيم، إنه الشاعر
الذي يخترق اللغات والأزمنة والأمكنة وبهذا المعنى فإن عظماءَنا الأقدمين
هم من وصلوا إلينا وما أكثر من سقطوا أمام ممحاة الزمن وعوارض التعرية
المكانية والتأريخية التي تحفل بها ثقافتنا. وإذا أردنا أن نقترب أكثر من
نص المتنبي لنعرف سببَ عظمتِه وسرَّ تَجدُّده فإنني أعتقد أن الأمر يكمن في
أن الشعر العربي بعد المتنبي لم يعد كما هو وذلك لأنه عرف كيف يتمثّل
الفكر والمنطق اليوناني التي كانت حديثة الترجمة ويمزجها بعنفوان العاطفة
والغنائية البدويّة ولا علاقة لكل هذا بالغرض الشعري مدحاً أو ذمّاً، غزلاً
أم عتاباً. إنّ أيّ موضوع مهما كان مبتذلاً أو مطروقاً يمكن أن يكون مادّة
لنص عظيم إذا كان المبدع قادراً على بعث كينونة جمالية بدمها وروحها عبر
اللغة وحسب. ألم يعشْ الفن الأوروبي منذ القرون الوسطى في أحضان الكنيسة
والملوك والأمراء ولكن هل مَنعتْ الكنيسة أو الملكيّة من بزوغ ميخائيل
إنجلو وهل اعترض بلاط فرانسوا الأول ملك فرنسا عبقرية ليوناردو دافنشي؟ ثم
القول «إن المتنبي يفخر بنفسه لدرجة تخرج عن المنطق» أجل ولكن ذلك شأن
الكبار كل الكبار، ألم يكتبْ هوغو عن ميلاده بأنه جاء مثل الزمن بكامله وأن
القرن التاسع عشر ولد قبلَهُ بـ «عامين»؟ ثم ألم يكتب هيدجر عن هولدرلين
قائلاً «إنه يتحدث عن الجبال والأنهار مثل إله»... والكوميديا الإلهيّة
لدانتي أين نُصنّفُها في فن الكتابة من حيث وصفِها الدقيق للعالم الآخر
وأين نضع دانتي «خالق» هذا العالم في اللغة الايطالية؟
وأخيراً،
المتنبّي متناقض لأنه حقيقي.. إن من لا يتناقض هو الزائف الذي يظنّ أنه
يملك الحقيقة أو يُموَّهُ لذلك لأن الحقيقة ليست في متناول إنسان قط. وعلى
أي حال ليس على الدوام. وكما قال لي بيكيت في لقاء أخير معه قبل أن يموت
«إنني صامت الآن أو أكاد، ذلك لأنني أقترب من الحقيقة.. وعندما أدركها أو
تدركني سيحل الصمت المطبق». ولهذا فإن المتنبي بالنسبة لي هو كما قال
نيتشه، «لا شيء غير شاعر» وفي هذه «اللاشيء» النيتشويّة يَكمُنُ كل شيء.
****
شاعر الحقيقة الإنسانية
سعدية مفرح
(الكويت)
لا أوافق على أن المتنبي كان شاعر المتناقضات بامتياز، بل أراه
شاعراً قرر ان يبحث عن حقيقته الإنسانية عبر شعريته المتقدة والتي أرهقت
طموحاته المستحيلة في السياسة والحياة في خضم واقع تاريخي مرير عاش تفاصيله
المتناقضة مرغما في كثير من الأحيان.
وما بيته الشهير: «أنام ملء جفوني
عن شواردها / ويسهر الخلق جراها ويختصم...» إلا تقرير لتلك الحقيقة
الخالدة إلى الأبد ليس بوصفه الشاعر الأكثر خلوداً في تاريخ الأمة التي
تباهي الأمم ببلاغتها الشعرية وكأنها لا تملك سواها مادة وحسب، بل أيضاً
بوصفه الشاعر الأكثر احتفاء بتلك الشعرية والأقدر على ترسيخها في الوجدان
العام سلوكاً وقصيداً.
قال المتنبي هذا البيت تحديداً، كما أرى، ليدفع
به مظنة الآخرين، وشكوكهم التي أرهقت إنسانيته الطموح، وعطلت الكثير من
مشاريع حلمه المستحيل والذي قاده في النهاية نحو الهلاك المنتظر والمتوقع
من قبله حتى قبل أن يتوقعه الآخرون المنتظرون بدورهم لنهاية غير نهائية.
فقد بقي المتنبي، رغماً عنها، شاهداً على ملامح الساسة الخفية وهم يتداولون
حيواتهم على كراسي الحكم متقلبين في المواقف ومنقلبين على الأعراف
والموروثات.
لقد نام المتنبي ملء جفونه عن شواردها فعلاً، ولكنها لسوء
حظه آنذاك فقط، وحسن حظه وحظنا، دائماً، كانت مجرد لغة، أو مجرد كلام، لم
يتعد حدود ذلك الحلم الجميل والنبيل، والذي لم يتحقق كما رسمته الأبيات
الشعرية الكثيرة، وكما فصله الشاعر الذي ملأ الدنيا العربية وشغل ناسها
بقصده وقصيده. وظلت تفاصيله القاتلة زاده وزواده في وحشة الطريق الذي قطعه
ماضياً نحو لذة السلطة المشتهاة منغمساً في تفاصيلها السرية وذاهباً ضحية
لمكائدها ودسائس أهلها، غير مدرك، أو لعله أدرك متأخراً أن جمر الشعر لا
يمكن أن يدفئ كهوف الساسة الجليدية.
لا انظر لمديح أناه على أنه أنانية،
ولكنني أراه جهاده الشخصي في سبيل تحقيق شخصيته وفقا لحدودها الشعرية
والإنسانية، والذي لم يكن في حاجة اليه في كثير من الأحيان، وهو يملك هذه
الشعرية الفذة والتي حققت شخصيته الشعرية والإنسانية أخيراً على رغم أنه
مات على تخوم بيت شعري، كما تقول حكاية موته، وحيداً، شريداً، مرهقاً،
متعباً، ذاهلاً عن بقايا الحلم، مندهشاً بالمآل الأخير... وربما يائساً من
هذه الأمة برعاتها ورعيتها..
المتنبي الذي «تجرأ» - وفقاً لسؤال الحياة -
على القول: أنا الذي نظر الأعمى الى أدبي، كان ينبغي له أن يتجرأ، هنا، في
حدود هذا القول تحديداً، أي أن يخالف المألوف، فهنا سره وشعره وملاذه
والطريق الى خلاصه الأبدي شاعراً ذاهباً في معاني القول من دون أن يكون
لتناقضاته الظاهرة سوى معنى واحد فقط.. المعنى الأكثر توحداً في سر
الشاعر... أنه المتنبي.
****
أنموذج أول للاعتزاز بالنفس
كريم عبدالسلام
(مصر)
سيظل المتنبي الشاعر المختلف عليه في العصور المقبلة مثلما كان مختلفاً
عليه في العصور الماضية، البعض يراه مبدعاً عظيماً جاوز كل الآفاق بدءاً من
أبي العلاء و «معجز أحمد» وانتهاء بمريدي المتنبي من الطلاب الريفيين في
أروقة الكليات. والبعض الآخر يراه شاعراً منتفخاً مريضاً بحب ذاته، مداحاً
لكل من يملك أو يحكم وانتهازياً كبيراً يأكل من كل الموائد. لكن المختلفين
عليه عادة ما يلجأون الى الطعن في شخصه وأخلاقه من دون المساس بقيمته كشاعر
عظيم. حتى الذين رأوا فيه النموذج الخالص للشاعر المتنبي المستقر ذهنياً
وجمالياً، الشاعر المنشد خلافاً لأبي تمام مثلاً، الشاعر البنّاء المفكر.
هؤلاء قدموا توصيفهم له الذي لم يهز مكانته المركزية في الشعر العربي. وفي
ظني أنه نال هذه المكانة المتميزة، ليس فقط لجمال عبارته وجزالة ألفاظه
وحسن سبكه وإنما لأنه كان النموذج الأول للمثقف المعتز بنفسه أمام الحاكم،
والذي رأى في الموهبة الإبداعية مؤهلاً للحكم وامتلاك السلطة في مقابل
المؤهلات التقليدية للحاكم من وراثة أو اغتصاب. هذا الموقف كان رهناً بنفس
المتنبي العالية ووعيه بموهبته الكبرى واعتزازه بها في مواجهة سلطة الحاكم
الغاشمة التي قد تقترن بالحماقة والسفه والطيش والغباء لتكون المفارقة أنكى
وأمرّ. حق له إذاً ما دام امتلك الوعي «بولاية الشاعر» أن يقعد لطموحه
الهائل الذي يشبه طموح المماليك في الخلافة بحسب الأعراف المستقرة، بأن
يعلنها: «أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي/ وأسمعت كلماتي من به صمم».
وهذا
ليس فخراً قبلياً من قبيل ما لحق به من بقايا البداوة وإنما هو «ميكانيزم»
دفاعي في مواجهة تيه أصحاب السلطة والحكم بما يملكون من قوة مادية، بل
إننا لا بد من أن نتوقف أمام بيته الشهير، بيته التميمة الدعاء الذي يقول
فيه مدعما نفسه ومؤكداً لها حتى وإن توجه بالخطاب الى غيره: «عش ابق اسم سد
قد جد مر انه رف اسر تل/ غظ ارم صب احم اغز اسب رع زع دل انثن نل». هذه
تميمة المتنبي التي عاش يرددها لنفسه كمن يتلو «ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم
الأعلون».
كان لا بد من أن يقدم شاعر مثل المتنبي على كسر التابو
الاجتماعي الذي يحرم على الشاعر أن يتجاوز منزلة المهرج، بأن يؤمن أولاً
بنديته للأمير وأحقيته بالإمارة، فإن لم يكن فبالمنزلة الرفيعة التي تليق
بشاعر مثل.
****
سيرة موجزة
ولد أبو
الطيب أحمد بن الحسين المتنبي في الكوفة سنة ثلاثٍ وثلاثمئة في محلةٍ يقال
لها كِندة وقدم الشام في صباه وبها نشأ وتأدب. ولقي كثيرين من أكابر علماء
الأدب منهم الزجاج وابن السراج وأبو الحسن الأخفش وأبو بكر محمد بن دريد
وأبو علي الفارسي وغيرهم وتخرج عليهم فخرج نادرة الزمان في صناعة الشعر ولم
يكن في وقته من الشعراء من يدانيه في علمه ولا يجاريه في أدبه، وانما
لُقِب بالمتنبي لأنه ادعى النبوة في بادية السماوة وهي أرضٌ بحيال الكوفة
مما يلي الشام. ولما فشا أمره خرج اليه لؤلؤ أمير حمص نائب الأخشيد فاعتقله
استتابه زماناً ثم وأطلقه، ولبث المتنبي بعد ذلك يتردد في اقطار الشام
يمدح امراءها وأشرافها حتى اتصل بالأمير سيف الدولة علي بن حمدان العدوي
صاحب حلب سنة سبع وثلاثين وثلاثمئة فحسن موقعه عنده وأحبه وقربه وأجازه
الجوائز السنية وكان يجري عليه كل سنة ثلاثة آلاف دينار خلا الاقطاعات
والخلع والهدايا المتفرقة. ثم وقعت وحشةٌ بينه وبين سيف الدولة ففارقه سنة
ست وأربعين وثلاثمئة وقدم مصر ومدح كافوراً الأخشيدي فأجزل صلته وخلع عليه
ووعده أن يبلّغه كل ما في نفسه. وكان أبو الطيب قد سمت نفسه الى تولي عمل
من أعمال مصر فلما لم يرضه هجاه وفارقه في أواخر سنة خمسين وثلاثمئة وسار
الى بغداد وفيها كانت له مع الحاتمي القصة المشهورة. ثم فارق بغداد متوجهاً
الى بلاد فارس فمر بأرجان وبها ابن العميد فمدحه وله معه مساجلات لطيفة
يشار اليها في موضعها من هذا الديوان. ثم ودّع ابن العميد وسار قاصداً عضد
الدولة بن بويه الديلمي في شيراز فمدحه وحظي عنده. ثم استأذنه وانصرف عنه
عائداً الى بغداد فالكوفة في أوائل شعبان سنة أربع وخمسين وثلاثمئة فعرض له
فاتك بن أبي جهل الأسدي في الطريق بجماعةً من أصحابه ومع المتنبي جماعةٌ
من أصحابه أيضاً فقاتلوهم فقتل المتنبي وابنه محمد وغلامه مفلح بالقرب من
دير العاقول في الجانب الغربي من سواد بغداد. وكان مقتله في أواخر رمضان من
السنة المذكورة.
----------
* من «العرف الطيب في شرح ديوان أبي
الطيب» لناصيف اليازجي.
****
تلك «الأنا» التي فتنتنا دائماً
عباس بيضون
(لبنان)
أظن أن من المبالغة في عصرنة المتنبي محاسبته على أماديحه وأهاجيه فهذه
سنة الشعر في أيامه. الشاعر آنذاك كفنان عصر النهضة يعمل لملك أو أمير أو
وال ولا يجد غضاضة في أن يرتزق من شعره. دعونا من محاكمة المتنبي على ذلك
ولنتذكر أن المتنبي وهذه أيضاً ميزة لعصره لم يقف شعره على ملك بعينه أو
أمير وانما أمضى حياته سائحاً في البلاد متنقلاً من راعٍ الى راع، كانت
الامبراطورية قد تفتتت واستقل المغامرون السياسيون والعسكريون كل بدويلة أو
قلعة أو امارة فلم يعد الشاعر تابعاً ولا مسمى على أحد، صار هو نفسه يزجي
خدماته لمن يشاء ويرحل عمن يشاء ويقبل على من يشاء. ذلك ظرف تفتحت فيه
فردية الشاعر وأناه فصارا موضوعاً مثابراً في شعره حتى ولو كان ذلك مضمراً
أو عن طريق مديح أو رثاء. علينا أيضاً أن لا نبالغ في محاكمة أخلاقية
للمتنبي فنلومه على طلبه لولاية أو ملك ففي محاكمة كهذه نعصرن الشاعر وننظر
اليه في زمننا.
لنذكر ان العصر كان عصر المغامرة وأتيح فيه لأناس بلا
أصل وفصل كالمتنبي أن يسودوا وأن يحكموا. أما ان يحلم المتنبي بإمارة أو
ولاية فهذا يعني أنه لم يكتف بأن لا يكون تابعاً، وانما تطلع الى أعلى من
ذلك، الى أن يكون سيداً، اذا تذكرنا ما تعنيه أخلاقية السيد عند نيتشه من
دون أن تستطرد في المقارنة السخيفة المعتادة بينهما، ليس طلب الملك هنا سوى
طلب السيادة والانعتاق في زمن كان الشعراء فيه اتباعاً ولا حرية فيه الا
لمن كان سيد نفسه، أي لمن كانت له سلطة وسيادة على غيره. يقول المتنبي
«وفؤادي من الملوك وان كان لساني من الشعراء»، وفؤاد الملك هذا أي نفسه
وعقله هو فؤاد سيِّد، روح حرة منعتقة مستقلة بنفسها.
من المبالغة في
اعلاء الشعر ان نفصله عن السلطة أو السياسة ونقيمه نقيضاً لهما. من سينكا
حتى ماو مروراً بلامارتين وانتهاء بسنغور وميلوسوفيتش لم يكن الشعر عدو
السلطة. واذا تذكرنا ان الديكتاتوريين اعتبروا أنفسهم دائماً خلاقين
ومبتكرين لا اجرائيين ومدبرين فهمنا أنهم يجدون أنفسهم أقرب الى الفنانين
وقد قيل أن صدام حسين قضى اخريات أيامه في سجنه ينظم الشعر.
أقول هذا
لأذكّر بأن السلطة ليست عاراً على الشعر ولا السياسة، أما الأنا المتضخمة
لدى المتنبي، فلا ننسى أنها فتنتنا دائماً وكانت بالتأكيد من جواذب شعره.
وما ذلك إلا لأن هذه «الأنا» المغالية لم تكن في يوم جوفاء ولا سخيفة. فنحن
نقرأ أبيات المتنبي في فخره فنجد منها نفساً بروميثياً متحدياً متمرداً،
بل نجد فيها معادل ذلك السيّد الذي أراد أن يكونه في طلبه للملك، بل نجد
فيها ذلك الطموح الى أن يكون المرء ندّاً لقدره ولمصيره، وذلك وحده كما
تعلمنا الأسطورة اليونانية يضع الانسان وجهاً لوجه أمام الآلهة، ولنتذكر أن
هذه الأسطورة الذاتية التي صنعها المتنبي لم تأتِ من الغيب. ولا ننسى
اسماعيلية المتنبي والدعوة الغامضة التي اتهم بها وثورة القرامطة التي لم
تحترم مقدساً آنذاك. لا ننسى نظرية الإمام الشيعية ونظرية القطب لا ننسى
الكثيرين الذين زعموا تلك الآونة أنهم تجليات إلهية ووجدوا من يسير وراءهم
ومن يصدقهم وكانوا في الغالب يصدقون أنفسهم. اذا تذكرنا ذلك فهمنا أن
أسطورة المتنبي الذاتية لم تكن في عصره عجيبة بل كانت جزءاً من رؤية ذلك
العصر ومن ثقافته، وان ترجمة المتنبي الشعرية لها كانت في صلب تلك الرؤية
وتلك الثقافة.
****
تناقض مع نفسه أكثر من عصره
عبدالعزيز المقالح
(اليمن)قبل ثلاثين عاماً
تقريباً كتب أحد الشبان دراسة مطولة يهاجم فيها المتنبي ونشرها على حلقات،
ولم يترك تهمة من التهم المحفوظة في الكتب القديمة أو الحديثة إلا وألصقها
بالشاعر الكبير، وأقلها وصفه بأنه ليس اشتراكياً وشعره لا يهتم بالفقراء
وأقساها وصفه بالمداح والعنصري والمرتزق... الخ، حاولت – يومئذ – أن أتدخل
في الأمر انطلاقاً من أن لكل عصر قيمه وتقاليده، وأن المتنبي ينبغي أن
يحاكم وفق مفاهيم عصره لا عصرنا، ولأنه لم يكن يستطيع أن يكون استثناء من
القاعدة السائدة في زمانه، وحتى أبو العلاء المعري الضرير الذي اعتزل الناس
والحياة لم يسلم من مؤثرات عصره، وديوانه لا يخلو من المدائح ولا من
مجاملة المتنفذين في شؤون زمانه. وذلك لا ينتقص ذرة من احترام الناس له
وتقديرهم لاختياراته ومواقفه.
ما آلمني في موضوع المتنبي أن تتم محاكمته
بأفكار عصرنا وبقيم هذا العصر ومفهوماته في الحرية والاعتزاز بالكلمة، كما
يؤلمني دائماً الصمت عن المداحين المعاصرين، وهم كثر، وفيهم شعراء كبار
ينثرون جواهر شعرهم – بعد أن يدنسوها بالمديح – تحت أقدام من هب ودب ولا
يجدون من النقاد من يقول لهم إن الزمن قد تغير ولو رجع المتنبي الى عصرنا
لما كتب بيتاً واحداً من الشعر في كبير أو صغير لأنه بإحساسه الوجداني
والفني وبكبريائه العالي سيكون أول من يدرك أن الزمن اختلف وأن الارتزاق
بالكلمة جريمة يجب أن يعاقب عليها القانون ويتصدى لها النقاد. وربما لن
يتردد في إدانة نفسه أكثر مما يحاول الآخرون أن يدينوه لا سيما على مدائحه
الإشكالية في كافور وقصائده في ابن العميد وغيرهم ممن لم يقدموا خدمة تذكر
للعروبة والإسلام.
لقد كان المتنبي شاعراً متناقضاً من دون شك، وكان
تناقضه مع نفسه أكثر من تناقضه مع عصره تشهد بذلك مطالع قصائده، والسبب
راجع الى تناقضات عصره والى بداية أفول الدولة العربية، وطموحه اللامحدود
الى استعادة بعض أمجاد الأمة الغاربة، وكم أوجعه أن لا يحكم العرب أنفسهم
بأنفسهم، وكأنه بهذا المفهوم شاعر معاصر بكل ما في الكلمة من معنى. لقد
حاول أن يقف في خندق المقاومة لكنه حاول وفشل، وكان الحاسدون وضحايا الغيرة
تجاه موهبته الكبيرة. وما أحرزه من شهرة واسعة كانوا وراء ذلك الفشل إضافة
الى الظروف العامة وما رافقها من انكسارات أدت الى تخبطه السياسي ومن ثم
الى نهايته التراجيدية. ومع ذلك يبقى واحداً من أهم شعراء العربية عبر
العصور.
****
عواطف بشرية ونفاق للسلطة
عز الدين المناصرة
(فلسطين)
التقيت ذات مرة في بلغراد عام 1980، بالشاعر الأميركي اليهودي ألن
غينسبرغ في مهرجان الشعر العالمي، وكنا في فندق واحد.
سألته آنذاك:
يقولون: إن شعرك (سياسي) بامتياز، وأن الدعاية لحركة الـ «بيت»، دعاية
سياسية، لا شعرية. فأجابني: لقد جاءت حركة الاحتجاج السياسي والاجتماعي،
ملائمة للزمن الشعري، خذ مثلاً: شكسبير، فهو سياسي بامتياز، لكنه عبر عن
زمنه تعبيراً شعرياً ناجحاً، ولم نعد نهتم لما هو وراء هذه القصائد من
القصص السياسية والاجتماعية.
حسناً، سآخذ من غينسبرغ، (مبدأ التلاؤم مع
العصر)، لأفكك المتنبي: على رغم أن المتنبي، وقف ذليلاً أمام كافور، ومارس
النفاق أمام سيف الدولة، إلا أن حركته السياسية كانت تحمل مبدأ (الشطب)،
بحسب دريدا، أي (النفاق، والنرجسية الداخلية)، أمام كافور، ومبدأ (المديح،
والعشق السري لخولة)، أمام سيف الدولة. وبما أنه كان يقول الشيء ونقيضه،
فقد أثارت هذه التناقضات، جدلاً واسعاً، وضعه تحت أضواء ذلك الزمان. وهكذا
لعبت (الإثارة السياسية)، دوراً في شهرته. هو أيضاً (شاعر ملخصاتي) لشعراء
آخرين، أي (شاعر سارق)، مما أثار الجدل حول أصالة شعره أو عدمها، وفي
المقابل، هو شاعر ذكي موهوب، مصقول الصيغة الشعرية. هذا التناقض، جعل
النقاد يهتمون بشعره.
أسطورة (النبوّة)، في حداثته، أثارت جدلاً في
عصره، أيضاً، كان ملتبساً بغموض، وساهمت في أسطرة صورة المتنبي مع أسطرة
قصصه مع سيف الدولة وكافور، وحتى موته قتيلاً في سن الخمسين. وبالتالي، كسب
المتنبي، شهرته في حالة التطابق مع السلطة، وفي حالة التناقض معها. لقد
كان المتنبي، شاعراً انتهازياً، عرف كيف يدير شهرته، وكانت شهوته للسلطة
واضحة، لكن مع كل ذلك، هناك نبع آخر لشهرته، هو النبع الصافي، فإذا كان
(الحدث السياسي)، بتناقضاته، منحه شهرة، لا تنكر، إلا أن سر النبع الصافي،
يكمن في جهة أخرى.
نحن عندما نقرأ شعره، نجد فيه مستويين: مستوى قشرة
الحدث السياسي، الشائع بنسبة عالية في شعره، ومستوى النبع الصافي، وهما
يتجادلان ويتصارعان، ويشطب أحدهما الآخر أحياناً، بحسب عصور الأدب، وبحسب
الأمكنة. فالبنية التقليدية في زماننا، لا تزال تعجب بالمستوى الأول. أما
المستوى الثاني، الذي أعجب به، فهو النبع الصافي، الذي أرى أنه:
- قدرته
على الصوغ القوي اللافت والمبهر.
- تعبيره عن العواطف البشرية التي لا
تتغير: الحب، الكره، الغيرة، الحسد، شكوى الزمان، التعبير النرجسي، وهي
قضايا سيكولوجية أبدية وجودية، مما يجعل بعض قصائده، أو أبياته المفردة،
تناسب حالة ما عند القارئ المعاصر. مثلاً: بقيت أسبوعاً أردد بيته: «...
وحالات الزمان عليك شتى... وحالك واحد في كل حال»، لأنه يناسب حالة ضيق
نفسية، صاحبتني في لحظة ما. ولا تعجبني أبيات الحكمة المنظومة، والمسروقة
أحياناً في شعره. أي انني كشاعر، أحب ما أسميه «شعر الحالة» في شعره.
نعم،
يمكن أن أشير الى نسبة (30 في المئة من شعره)، تحمل مثل هذه المواصفات
الشاعرية، أما شهرته السياسية، فهي نابعة من انتهازيته وتناقضاتها، بسبب
الجدل حولها، لأن هذا الجدل، تلاءم مع عصره.
****
معرفة عميقة بالانسان
فاضل العزاوي
(العراق)
تمتلك الثقافات الكبرى في العالم عادة أساطيرها الخاصة بها، كجزء من
آلية عملها الداخلية، ولكن أيضاً كانعكاس متجل إبداعياً لمنظومة القيم التي
تشكل هوية أمة ما من الأمم في فترة تاريخية معينة قد تمتد طويلاً.
فالمتنبي بهذا المعنى هو المقابل العربي لشكسبير الانكليزي ودانتي الإيطالي
وغوته الألماني وسرفانتس الإسباني وبوشكين الروسي. ولكن الفارق يظل
كبيراً. فالأسطورية الرمزية التي يمتلكها المتنبي تظل خاصة بالعرب وحدهم،
في حين تشع الأسطورية الرمزية لشكسبير وغوته ودانتي وسرفانتس داخل الثقافة
الانسانية كلها.
إن ما يعادل هؤلاء في نظر العالم ليس المتنبي وإنما
كتاب «ألف ليلة وليلة» الذي يشكل هدية العرب الى العالم. ولهذا الأمر
اشكاليته التي تدفعنا الى تأمل الظاهرة: لماذا يكون المتنبي أسطورة عند
العرب في حين أنه يكاد يكون مجهولاً عند الآخرين؟ لماذا يعتبر العرب
المتنبي القمة التي ما بعدها قمة في حين لا يجد العالم في شعره ما يمكن أن
يثير اهتمامه؟
لقد تعرض المتنبي كثيراً للنقد، غالباً من جانب حساده،
وهو نقد تقليدي شكلاني تركز دائماً تقريباً على أخطائه اللغوية أو سرقاته
الشعرية، ولكن ما من أحد تعرض لمفاهيمه الفكرية أو الأخلاقية بالنقد، لأنها
كانت مفاهيم سائدة لا يكاد يفكر أحد في احتمال ضلالها. فالمتنبي لا يدعو
الى العبودية فحسب وإنما أيضاً الى ضرب العبيد بالعصي، ولم يكن بالتأكيد من
دعاة السلام، فالسيف يشكل في نظره قيمة عالية جداً والحرب تملأ نفسه
بالهوى، وهو يرتزق بشعره من دون خجل، شاتماً من كان قد امتدحه قبل ذلك...
الخ.
وهنا ينبغي القول إن هذه القيم التقليدية ظلت قائمة حتى الآن، ولو
جزئياً داخل الثقافة العربية. فقد اعتبره بعض القومانيين العرب الممثل
الأفضل للروح العربية. كما لا يزال ثمة حتى اليوم شعراء يعتاشون على امتداح
كبار القوم، بطريقة أسوأ مما فعلها المتنبي نفسه.
ومع ذلك فإن المتنبي
يملك ما لا يملكه الشعراء الآخرون من صنفه: قدرة مدهشة على استخدام اللغة
وكشف لتفاصيل تتفجر شعراً ومعرفة عميقة بالإنسان ونقبل كل شيء بنفسه. فهو
ينقل لنا دائماً الشعور بأنه يتحدث عن نفسه حتى عندما يتعلق الأمر بالآخر.
ومديحه في واقع الحال لسيف الدولة أو لغيره هو مديح موارب لنفسه. وما يمكن
أن نعتبره اليوم تضخماً مرضياً للذات هو بالذات ما يشكل جوهر أسطورته. فقد
مثل المتنبي نموذجاً للشاعر الذي يدرك فرادته، ولكنه يعاني في الوقت ذاته
من الموقع الذي وجد نفسه فيه، وهو نموذج لا يزال قادراً على إثارة المخيلة
العربية.
****
صاحب اللغة المتجددة
جودت فخر الدين
(لبنان)
لا يرى الى المتنبي من خلال أي مشروع سياسي، وإن كان قد خاض السياسة.
ولا يرى إليه من خلال أي تصنيف عقائدي أو مذهبي، وإن كان ولا يزال محور
اجتهادات وتكهنات حول انتمائه وفكره. ولا يرى إليه من خلال أي تصنيف أدبي
يجعل الشعر في أغراض كالمديح والهجاء والفخر والغزل... وغيرها، وإن كان من
الممكن أن نوزع قصائده على تلك الأغراض. إن عبقرية المتنبي – في نظري –
تتجلى في كونه خاض السياسة وعبرها الى ما يتعداها بكثير، وخاض العقائد
والفلسفات والأفكار وعبرها الى ما يتعداها بكثير، وخاض المواضيع والأغراض
الأدبية على أنواعها وعبرها الى ما يتعداها بكثير. وبكلمة أكثر تعميماً
وتكثيفاً، يمكننا القول إن المتنبي الذي استوعب تراثه وثقافة عصره على نحو
فريد، استطاع أن يجعل في قصائده أعماقاً وتجليات لتلك الثقافة وذلك التراث،
ولكنه استطاع في الوقت نفسه أن يتعداهما الى تحقيق إنجازه الشعري الباهر،
الذي يتمثل في الدرجة الأولى بلغة شعرية صقيلة نافذة متألقة. بهذا الإنجاز
الشعري، ربح المتنبي معركته مع الزمن، الذي كان في شعره أبرز الخصوم.
أظن
أن التباس المتنبي بأسرار لغته هو أساس الموقف الذي صدر عنه في شعره كله.
إنه موقف الشعور بالتفوق، الذي يضع المشروع الشعري – اللغوي فوق أي مشروع
آخر، والذي يتراجع إزاءه كل غرض وكل موضوع وكل موقف آخر. إزاء هذا الموقف،
لا يكون المديح سوى ذريعة أو فرصة. وكذلك الهجاء أو الغزل... أو غير ذلك من
الأغراض. لا أظن أن الدارسين قد ذهبوا بعيداً في الكشف عن أسرار اللغة
الشعرية للمتنبي. وعلى رغم الدراسات الكثيرة والسجالات والمعارك النقدية
التي دارت حوله، فإن شعره لا يزال يغري بالمزيد من البحث والتعمق. لقد أهدر
الدارسون، قديماً وحديثاً، الكثير من الجهد في الكلام على جوانب سطحية أو
ثانوية لظاهرة المتبني، ولا نستثني من ذلك المعركة النقدية الكبرى التي
دارت بين أنصار وخصوم له، من النقاد والبلاغيين في النصف الثاني من القرن
الرابع الهجري. لم يتعمق الدارسون في سبرهم أغوار هذه الظاهرة، وتاهوا في
البحث عن سرقات المتنبي، أو في البحث عن أصله العائلي وظروف نشأته، أو في
البحث عن معتقده أو مذهبه أو هواه السياسي. وربما صح القول إن الدارسين
كانوا، في القديم والحديث، قاصرين عن مقاربة المتنبي مقاربة فنية حقة.
كيف
نقف على سر التجدد الدائم للغته الشعرية؟ نعيد قراءة المتنبي، فيتراءى لنا
العالم جديداً. يتجدد العالم من أمامنا، والزمن يتراءى لنا مهزوماً، أو
واقعاً في الأسر، في أسر تلك اللغة. أليس ذلك لأن هذه الأخيرة تنطوي على
أسرار تجددها المستمر؟