المتنبي،
شاعر المتناقضات و «الأنا» النرجسية
(شعراء الحداثة العربية يحاكمون المتنبي)
عبده وزان
(لبنان)
لا تحتاج
العودة الى المتنبي الى أي ذريعة أو مناسبة، فهذا الشاعر الذي وصف أبو
العلاء المعري ديوانه بـ «المعجز» ما زال حاضراً بشدة على رغم مرور أكثر من
عشرة قرون على رحيله، بل هو يزداد حضوراً شخصاً وشعراً، وكأن كل الشروح
التي تناولت ديوانه وهي تربو على الخمسين منذ القرن الرابع هجرياً أو
العاشر ميلادياً لم تتمكن من كشف معانيه كافة أو إضاءة الأسرار التي
تكتنفها صفحات هذا الديوان. أما شخصيته فلا تزال ملغزة بما أحاطها من ملامح
وخصال لا تخلو من الإبهام أو الغموض.
هكذا تبدو العودة الى المتنبي
استعادة لشاعر استطاع ان يخرق جدار الزمن وأن يتخطى القرون المتوالية،
فارضاً نفسه في المعترك الشعري الراهن، المعاصر والحداثي، ومرسّخاً شعريته
التي لم تتأثر بما تعرضت له من حملات عدائية وبما واجهت من مواقف نقدية. لا
يزال المتنبي ظاهرة حيّة، سرّاً من أسرار العبقرية الشعرية، شخصية اشكالية
حافلة بالألغاز التي يستعصي سبرها أو إدراكها كاملة.
شاعر المتناقضات
بامتياز، شاعر مجبول بالتراب والنار، حكيم لم يسقط السيف من يده إلا في
لحظة موته قتلاً، عالم لغة وبيان، رجل آلام وأطماع، شاعر ادعى التنبؤ في
ريعان الشباب فاقتيد الى السجن فاستتيب من ثم وتاب، رجل تأمل وثورة، يهيم
في الفيافي بحثاً عن المنازعات والمغامرات السافرة، يغوص على معاني الحياة،
عبقريته الشعرية لم تقنعه فراح ينشد العلياء والعظمة والسلطان والقوة
والمال... متصوفٌ ولكن من غير زهدٍ أو تديّن، رثّاء، هجّاء، مدّاح، متقلّب
مثل صروف الدهر، فؤاده من الملوك وإن كان لسانه من الشعراء كما يقول، حياته
ممزوجة بالدم والقلق، بالحلم والخيبات، شاعر قديم وحديث يتصرّف في اللغة
وكأنه مالكها...
شاعر ينظر الى نفسه نظرة متعالية تحتقر الآخرين أياً
كانوا. وقد بلغت جرأته أوجها عندما سمح لنفسه ان يقول إن الأعمى نظر الى
أدبه وإن الأصم أصغى الى كلماته وإن الدهر ليس إلا من رواة قصائده...
الأبيات التي تفرض فيها «أنا» المتنبي سطوتها العالية كثيرة وقراؤه
يحفظونها غيباً ويرددونها. مثل هذه الأبيات لم يجرؤ على قولها شاعر سواه،
وقد قالها بصراحة وصرامة ولم تكن وليدة الإرتجال في لحظة من لحظات العنجهية
والتبجّح. إنها «الأنا» النرجسية التي تجعل من صاحبها مركز الكون
والتاريخ، والنقطة التي انطلق منها العالم. إنها «الأنا» التي حلم بها
المتنبي وتخبّط في سرابها.
هل يمكن شاعراً أن يكون عنصرياً إزاء صنف من
البشر قُدّر لهم أن يكونوا عبيداً؟ قالها المتنبي جهاراً: «لا تشترِ العبد
إلا والعصا معه...». هل يمكن شاعراً أن يحتقر العالم وكأنه «شعرة» في
مفرقه؟ إنه المتنبي نفسه الذي قال «بمَ التعلّل لا أهل ولا وطن...» مثلما
قال الكثير من الأبيات المحفوفة بالأسى والألم والقلق والحيرة.
لا بدّ
من العودة الى المتنبي، الشاعر الذي أراق الكثير من حبر النقاد والشعراء
والذي ما زال عصيّاً على الحكم الفصل، وما برحت قصائده تثير حفيظة قرائه،
تفتنهم وتخضّهم. ديوانه يتوالى صدوره في العواصم العربية ولا تمضي سنة من
غير أن يصدر عنه كتاب أو تصدر له منتخبات. وأنشئ أخيراً موقع الكتروني يحمل
اسمه ويضمّ ديوانه والكثير من شروحه.
إنه المتنبي، الحاضر أبداً
بأسراره ومتناقضاته، يعيد قراءته شعراء الحداثة العربية، على اختلاف
هوياتهم وأهوائهم وأجيالهم.
****
تجذبني «أناه» المريضة
عناية جابر
(لبنان)
لن أتكلم عن شاعر المتناقضات كما يحرِّض السؤال عن المتنبي. وما دام غير
ممكن أن يُهزم شعره حتى اللحظة، فمن الأفضل غض النظر عن تناقضاته (المديح،
الهجاء) وتضخم أناه حتى المرض على ما تسألون. المتنبي شاعر عظيم خارج هذه
الذرائع، ما دمنا الآن نتساءل عن سر أسطورته، أسطورة شعره أعني، أنا شخصياً
تجذبني «أناه» المتضخمة، يجذبني مرضه في هذه «الأنا» ويجذبني انحرافه.
«أنا الذي نظر الأعمى...» وحده الذي يقولها، فيما الباقون يضمرونها.
نكتب
بالطبع بطريقة مغايرة الآن، سوى أننا نعود الى أبياته مع ذلك، بين وقت
وآخر لنتعرف من خلالها على الشرط العالي والمحتوم لكتابة الشعر.
لا تهم
هنا فروق أسلوبية، بل تهمنا تقنية أبياته وصفاتها الجوهرية، ونوع الحكمة
(الجمالية) التي تصلح لكل زمان، وأيضاً تسند حزناً وصراحة وإن تعاطت الهجاء
والمديح في معايير عصره (نفعلهما الآن في عصرنا وإن بطرق ملتوية) وتحت نظر
حاسديه وملوكه وظُلاّمه، في الاستخدام الاجتماعي لشكل بعض شعره، وفي
اختياره الذي يتحمل عواقبه!
كل الشعر ملتبس في كل الأحوال. كل الشعر
مأسوي، حتى الضاحك منه. فعل الشعر بحد ذاته عمل درامي. نغفر للأنا المتضخمة
عند المتنبي فهي تليق به.إنها ذاكرته الثانية الممتدة بغموض الى دلالات
جديدة في كنه الشعر وأصله، والمتنبي تحديداً هو تلك التسوية بين «الأنا»
والشعر. لقد كتبها من دون صبر أو دهاء، الأمر الذي يُضمره كل الشعراء. لا
تُمكن تصفية ريادة المتنبي، مداحاً كان أم هجاء أم مريضاً في أناه. مفتونون
به حتى اللحظة، إنها لعنة شعره المتشاوف.
****
شاعر أجير... شاء عاشقوه أم كرهوا
غازي القصيبي
(السعودية)
في نهاية العصر العباسي الأول تحول الخليفة الى رمز لا حول له ولا قوة
«خليفة في قفص» كما يقول الشطر الشهير. وانتقلت السلطة السياسية الى دويلات
تتقاسم العالم العربي، ويمتد نفوذها وينحسر بحسب الأحوال وحسب مواهب
الحاكم وقدراته.
لم يعد هناك بلاط واحد يقصده الشعراء بحثاً عن المال
والمجد وتعددت القصور بتعدد السلالات الحاكمة. اضطر الشعراء الى مواجهة هذا
الوضع الجديد، لم يكن من سبيل أمامهم سوى ان ينتقلوا من حاكم دويلة الى
حاكم دويلة عارضين خدماتهم على من يريد شراءها. وهكذا تحول الشعراء/
الموظفون الكبار المثبتون على وظائف في بلاط أمير المؤمنين الى إجراء
يبحثون عن رب العمل السخي كما يبحث البدو الرحل عن المطر.
كل خصائص
الشعر العباسي في مرحلته الذهبية تبدو لنا في شعر الشعراء/ الأجراء، إلا
انها تبدو مصابة بتضخم شبيه بمرض الفيل. الغلو في المديح اصبح القاعدة
الرئيسة التي تقاس بها جودة الشعر، ويكفي هنا أن أشير الى هذا البيت
«البشع» لا أجد كلمة أخرى، للمتنبي: «لو الفلك الدوار أبغضت سعيه/ لعوقه
شيء عن الدوران».
الغزل في الغلمان أصبح القاعدة العامة التي لا يخرج
عنها سوى القلة. زاد شعر الهجاء بذاءة وفحشاً كما زاد شعر المجون مجوناً.
ظهر
صنف جديد من الشعراء لم يعرف من قبل وهم «شعراء الكدية» أو التسول، ولجأ
هؤلاء الى سلاح الابتزاز. إذا لم يصلحوا على ما يريدون مقابل المديح لجأوا
الى هجاء مقزز في إسفافه.
اتجه الشاعر/ الأجير شأنه شأن الأجراء في كل
زمان ومكان الى اكثر أرباب العمل سخاء وأصر أصحاب العمل – مثل شيلوك في
تاجر البندقية – على ان يتقاضوا مقابل ما دفعوه، ولنا هنا ان نتذكر أن
المتنبي تلقى مقابل قصيدة من افضل قصائده ديناراً واحداً. ودخلت القصيدة
التاريخ تحمل هذا الاسم: «القصيدة الدينارية» حقيقة الأمر ان المتنبي صور
الكابوس الذي عانى منه الشعراء في هذه الحقبة بدقة تتركنا – وجهاً لوجه –
امام الكابوس.
حاول المتنبي ان يكون شاعراً/ ملكاً – هل يوجد سبب آخر
يفسر إصراره المستميت على ولاية؟ - ولم ينجح. وحاول ان يكون شاعراً/ فارساً
ولم يوفق. جرب وظيفة في بلاط سيف الدولة الا انه ما لبث ان ملها. كان
المتنبي – شاء عاشقوه او كرهوا – شاعراً/ أجيراً يتنقل بين مختلف أصحاب
العمل. كانت النقمة المتأججة على هوان الشاعر/ الأجير هي الدافع الذي قاد
حياة شاعرنا الصاخبة الى نهايتها الدامية. الشاعر الذي فشل في ان يكون
ملكاً. مات وهو يقاتل كالملوك ولسان حاله يردد:
«وفؤادي من الملوك...
وان كان/لساني يٌرى من الشعراء».
لولا كبرياء المتنبي الشهيرة لقال «من
الأجراء» ولعل هذا هو المعنى الذي كان في بطن الشاعر. لم يكن ليخطر ببال
الشاعر الجاهلي ان هناك فرقاً يذكر بين الشاعر والملك، إلا ان دوام الحال
من المحال.
لا بد لنا هنا من أن نتوقف قليلاً عند ظاهرة المتنبي ما الذي
حول شاعراً/ أجيراً الى اعظم شعراء العربية في نظر البعض والى واحد من
أعظمهم في نظر الجميع؟ وما الذي يجعل منه، في أيامنا هذه أكثر معاصرة من
معظم المعاصرين؟ ولماذا يروي الناس حتى العامة منهم، أبياته من المحيط الى
الخليج؟ كتبت آلاف الرسائل والبحوث عن المتنبي، ولا تزال تكتب، ومن
المستحيل في عجالة كهذه ان أضيف جديداً وان كان بوسعي ان ادلي بدلوي في
الدلاء.
كان المتنبي ككل شاعر عظيم قادراً على تصوير النفس البشرية
مجردة من قيود الزمان والمكان، لم يكن يصور ضياعه وحده، ولكن ضياع كل إنسان
حين قال: «على قلق كأن الريح تحتي/ أوجهها جنوباً أو شمالاً».
ولم يكن
يتحدث عن النهاية المأساوية لحب مر به شخصياً بل عن النهاية الفاجعة لكل حب
عبر التاريخ حين أعلن: «نصيبك في حياتك من حبيب/ نصيبك في منامك من خيال».
وكان
المتنبي يعبر عن شعور كل من جرب هوان الرياء عندما قال: «ومن نكد الدنيا
على الحر أن يرى/ عدواً له ما من صداقته بد».
إلا ان المتنبي بجانب
تناغمه مع النفس البشرية المجردة، كان يملك حاسة سادسة، لا نعرف كيف ولماذا
جاءت، جعلته وثيق الصلة بالنفس العربية، تحديداً، وبكل همومها وتطلعاتها
(ولعل هـذا ما قـصده الأستاذ إبراهيم العريض حين اعتبره ابن العربية
«البكر»).
عبر المتنبي بصدق عن ظمأ هذه النفس المتحرق الى الأمجاد. وسخر
من قيادات زمنه: الأصنام التي لا تحمل عفة الأصنام، والأرانب النائمة
بعيون مفتوحة، ووصف باحتقار الشعوب الخانعة التي ترعى وكأنها قطعان غنم.
وتحدث بوجع عن عيش الذليل الذي يتحول الى موت أسوأ من الموت الحقيقي. ولم
يتورع عن وصف الأمة بأسرها بأنها أضحوكة الأمم. هل يستطيع عربي معاصر أن
ينكر ان هذه المشاهد العربية الأليمة لا تزال أمامنا بعد أكثر من ألف سنة
من رحيل الشاعر؟ وهل يستطيع أحد ان ينكر أنه لا يوجد بين الشعراء المعاصرين
من عبر عن الفجيعة إزاء هذه المشاهد تعبيراً يرقى الى مستوى المتنبي؟