العرّاف المغرق في
الغياب
كمال أبو ديب
(سوريا)
المتنبي ساحر كلمات، وعرّاف أفكار. ملحميّ اللهجة، وسمفوني التآليف.
ناصع الحضور، مغرق في الغياب، جليّ وخفيّ، أليف وغريب، روح صارخة في عنفوان
امتلاكها للعالم، وروح منكسرة في أسى انهيارها في مواجهة العالم. البطولة
في أوجها والهزيمة في قيعانها. وفي ذلك كله يكمن سر بقائه، وديمومة فتنته
للوعي العربي وللاوعي، بقدر واحد.
سره الحقيقي، للعامة، في أمرين: كان
حامل القيم والمثل العليا التي تجسد بها الثقافة جوهر حضورها في التاريخ.
في زمن الانهيار والتشظي العربي، كان كالحدث الحمراء في صلابة بنيانها،
وموج المنايا حولها متلاطم. وأظن هذه الصورة بين أجمل ما جسَّد به المتنبي
نفسه والذات العربية المتمثلة فيه وفي سيف الدولة كما ابتكره هو.
أي أن
المتنبي كان من هذه الوجهة، وجهة تجسيده للمثل العليا والقيم ذات الديمومة،
شاعر الجماعة، صوت الذات الجمعية في بعديها التاريخي والمستقبلي. لكنه –
في اللحظة نفسها - كان أضخم ذات فردية في التايخ الشعري العربي. وسحره الحق
يكمن في توحد هذين البعدين فيه، مندمجين في لغة شعرية فاتنة، وإيقاع فذ،
وذكاء شعري خارق. تمثلت كلها في كونه يصهر الفكر الخالص في بركان الزخم
الانفعالي. وذلك سر كل شاعر عظيم بحق: صهر الفكر في الشعور، توحيد الذات
الجماعية بالذات الفردية، وتجسيد التجربة والرؤيا في لغة وإيقاع أيقونيين،
كما أسميهما. الشاعر الذي يعرف كيف يصف قلعة تبنى شامخة في الفضاء، والرماح
تتقاذف حولها، بلغة تقول: «بناها فأعلى والقنا تقرع القنا» فيجسد شموخ
البناء وتصارع الرماح بشموخ الألفات وتضارب القافات، ثم ينتقل في الشطر
الثاني إلى الواوات وصورة التموج وترطبة التاء والطاء والميم المتكررتين،
فيقول: «وموج المنايا حولها متلاطمو» لا يقال فيه إلا أنه يملك عصا موسى
السحرية في استحضار المكونات الصوتية والتصورية إلى جسد الفكرة والتجربة
والانفعال الذي يتفجر منه الكلام.
الذكاء الشعري سر الشعر الأكبر، وقد
أدرك العرب ذلك حين اشتقوا الشعر من الفطنة. والشاعر الظيم شاعر ألمعي
الذكاء، والمتنبي كان ذلك، وغيره قلائل. وندرة الذكاء طابع الشعر في
زماننا، ولذلك لا ننتج شعراء عظماء بحق.
كان كلٌّ من سميرَيْ المتنبي
وخليليه، المعري وأبو تمام، واحد قبله وواحد بعده، مثله في بعد واحد فقط:
الأول شاعر فكر وذات فردية لكنه لم يكن سار لغة، والثاني شاعر لغة مترف
لكنه ضامر الذات. في المتنبي اجتمع البعدان وتآلفا وتوحداً. ونادراً ما
انفصما، وحين انفصما كان شعره عادياً.
للخاصة، سحر المتنبي في لغته
الشعرية، وفي اغترابه في العالم، في قلقه، وتمزقه، وإخفاقه، وضياعه،
وتناوسه بين شهوة الحياة شهوة السلطة والمجد، وبين الاستجداء للعطف والحب
والمكانة. مأساته في عشقه لسيف الدولة، وفي حبه لأخته، وموته التافه -هو
شاعر الرماح والسيوف - ولغته المتكسرة حنيناً وتوقاً وأسى وندماً على حبيب
أضاعه بصلف أو بحمق، مأساة تبقى. وانتهاكه للمألوف والسائد في اللغة
والصورة والعلاقة بين الشاعر والسيد السياسي مالك القوة، وصرخته في وجه
السلطة أنه خير من تسعى به قدم، مع افتقاره إلى عطاء مالك القوة، مأساة
المعاصرين أيضاً.
في جانب مني، عرفت المتنبي وعشته: عشته أنا ثانية لي،
أنا مندغمة بكل الاغتراب والوحشة وانتهاك السائد وعشق اللعب بالكلام وتيه
الروح في عالم داكن، وعشته في علاقته السرية بعاشقه ذي السلطان وكونه في
لحظة السيد وفي لحظة المستجدي. سلخت عنه قشرة البطولة والذكورة وشهوة المجد
وتجسيد القيم العليا، وصوته الجماعي، وكتبته وكتبني متقاطعين متشابكين
تائهين معاً، قلقين مع الريح القلقة، مبهمين لا يعرفنا أحد ولا نعرف أحداً.
فيه وجدتُني، وفي أنا وجدني في وجودي له. وكنا في عذاباتنا كل منا يندب
الثاني ويلوّعه، ويواسيه، وبه يتعزى وبه يستعين على براح، وله يهمس بما لا
يهمس لأحد، ويبوح بما لا يباح. كتبته في لغة لينة، هشة، خالية من صراخ
البطولات وضجيجها، وفي إيقاع النثر المتكسر الخافت، وبعثرت تجمّع نفسه
نثاراً على الصفحات، وكتبته في صفحات سوداء لا كلام فيها. لكن كما أن أحداً
لم يفقه ما هو، لم يفقه أحد ما فعلته أنا: ذاته الثانية. تركته يرسم
ويدوّن مذكرات مبهمة بقلمه ويتأود في أوج الشهوة لعاشقه السلطان. أفرغته من
محتواه المألوف المتوارث، من الفحولة الذكورية في المعركة، إلى الفحولة
الصوتية في الكلام الشعر. قلبته عَقْساً على رَقِب. لكن، كما قال هو: لم
يَقْفَهْ حَدَأٌ. وذلك أيضاً سر اغترابه في العالم، لا عنه وحسب. وقد جسد
هذا الاغتراب والإبهام واللافهم في أعظم «ما» كتبت في تاريخ العربية حين
صرخ:
«يقولون لي: «ما» أنت، في كل بلدة و «ما» تبتغي؟ ما أبتغي جل أن
يُسْمَى».
ولو قال: يقولون لي: «من» أنت، لما كان النمتبي ولا ذاتي
الثانية.
وقد قلت له: جلَّ أن يُسمى؟ أم جلّ أن يكون يا أحمد؟ فقال:
ومثلك يسأل يا كمال؟
وغمزني بعين فارغة ترنو إلى البعيد القصيّ الذي لم
يكن هناك.
****
السيف لم يفارقه في مساره
شوقي أبي شقرا
(لبنان)
هو ديوان المتنبي الذي طبعه ميخائيل رحمة في الدولة العلية وشرحه
اليازجيان ناصيف وإبراهيم، هذا الديوان جالسني وجالسته قبيل الغفوة في
الليل شبه الهادئ في قرية بيت شباب وأنا على سريري. وكان الديوان الذي
فتحته مراراً وقرأت قصائد منه مرارا،ً وكل مرة هو ملتقى المرارة والسخط على
الحياة، على السياسة، على الغزل، على المجد والمناصب، وعلى السفر
والترحال.
وكما قلمه جرى طويلاً فإن السيف لم يفارق المتنبي في مساره،
إن في الليل وإن في النهار، إن في السلم وإن في الهيجاء، وسائر الميادين.
وها
أنا أذهب إذاً إليه، وتنضح لي من الديوان أشياء وأشياء. منها أن البلاغة
عند المتنبي، عارمة ومتينة الى أن تصير كتلة من الأبجدية ومن العواطف
المتلاطمة، والمتشابكة. ومنها أن المتنبي ذو كبرياء لا يطيق المهانة ولا
يطيق الهوان وأنه سريع في بوحه بحيث أنه يرتجل أحياناً من فرط براعته في
النظم ومن فرط امتلاكه لغته، وهو أيضاً شديد الحرص على هذه اللغة، ويكاد
يكون بطلاً فيها، لأنه طالما طوعها وروضها وأخذها من عمقها الى عمقه، وبها
عبّر أفضل تعبير عما به وعما يخالجه من الأوجاع وعمّا يريد أن يبرهنه لمن
حوله، للوسط الشعري الذي كان في عليائه وفي مداه الحقيقي وكان الشعراء
يتبارون في الأحلى وفي الأجمل، وفي بلوغ القافية التي ترن رنين الإبداع.
ومن
علامات المتنبي أنه شاعر السياسة كما يفهمها هو، وكما يتراءى له أنها في
خدمة طموحه وما ينبغي أن يكون له من مساحة واسعة إنما تسع مغامرته في
الانتقال من حاكم الى آخر، وكاد أن يكون مختصاً بهؤلاء الحكام، ولا سيما
سيف الدولة، وهذا جعله ينطق بالقصائد المهيبة في إيوانه، وفي الأمكنة
المختلفة والأزمنة المختلفة.
ومن علامات المتنبي أنه حين لا يرتضي
الجفاء والبعد عنه والحسرات المتراكمة، يعمد الى الخلاصات، الى الحكمة والى
الأمثال، ومن هنا انه في أيامه وفي العهود السياسية، قام بالتأريخ وكذلك
قام بالأكثر، فكان ظاهرة في ألم الفراق وفضائل الممدوح وفي أنه يبرد قلبه
أو تضربه الحرارة كلما أحس أن الشخص أمامه لا يصعد الى مستواه ولا يكون في
أضوائه، في أخلاقه، في مداره الحقيقي، فكان المتألم وما عنده سوى الشعر سوى
قصائد القافية التي تصعب أحياناً والتي لا تلائم سواه، بل لا تصادف من
القوة والليونة أمراً سواه، وكان يصبّ في مرماه الشعري، نهراً من الغضب ومن
البدائع والألوان ليشكل عندئذ خصوصية تسمح له بأن يعلو بها وأن يرتاح في
فضائه الى كونه أبدع وقدّم نماذج طويلة من العذاب ومن الضروب الأدبية التي
تصل الى مطارح ليست قريبة لمن يشاء.
ويسكر المتنبي بالقصيدة عنده، فهو
يشغلها شغل النول والحرير ويربطها بعضاً الى بعض، وعبرها يضع لكل مقام
قولاً ومعاني، فهو تارة مرتاح مطمئن، وهو تارة في مأزق العلاقة مع الغير،
وحين يصطدم بالآخر غير السويّ له، يرخي قريحته ويسرد الظلم والجبانة والقوة
ويرتفع الى السؤدد الى المتطلبات الإنسانية عامة، ويصعب أن نراه في موقع
الخطأ أو الانكفاء، بل يلازم فضاءه النقي وحيث تموج أيضاً حشرات الحقد
والتلوث، وينضم الى قافلة الشعراء الكبار الذين لهم أناهم، ولهم أنانية
العيش والبقاء، ويسابق الوقت ويسابق الشعر، ومن حيث لا يدري كانت له الكلمة
التي تستمر في التراث.
وكذلك له الموضوع الواحد، أو جبلة السياسة، أو
كل هذه الكومة من الأنس ومن العبارات المتناثرة عنده، وهي التي تمنحه لقب
الظاهرة ولقب الشاغل، ولقب المتناقض وهل من نهر يسرح في الطبيعة الا يكون
متناقضاً؟ وهل المتنبي الا المتناقض؟ ولم يكن النهر الذي يتجمد، بل سار وشق
الجغرافيا الشعرية الى نصفين، يملأ هو أحدهما مع قلة.
وفي الضفة الأخرى
هناك العاديون، وهناك الذين ان مدحوا أو رثوا أو كان بوحهم عزيزاً وغزيراً
لا يصلون الى درجة مغامرته ومعالم أسطورته. ولذلك نقبل الشاعر ونقبل
الإنسان الذي، في النهاية، خطفه سيف الخصم في إحدى الليالي، أما نجمته
فإنها تضيء كل التضاريس وكل الوحي.
****
شاعر القيمة التي لا يسقطها التقادم
محمد أحمد السويدي
(الامارات)
لدي قناعة بأن الزمان هو المقياس الأهم عند النظر الى الإبداع في أي شكل
من أشكاله، لأن الصفة الأهم في كل قيمة حقيقية هي أنها لا تسقط بالتقادم،
وكل ابداع أصيل يحمل في رحمه بذوراً، تظل حية دائماً على رغم سفرها في
الزمن، وهي وإن بدت كامنة إلا أنها في انتظار مياه جديدة لتكشف عن زهورها
وثمارها، هذه المياه هي ما تحمله كل مرحلة تاريخية من وعي خاص ومفاهيم
جديدة للأشياء.
واذا كان هذا القانون ينطبق على كل أشكال الابداع، فإن
الشعر يقف في صداره هذه الأشكال، لأنه – كما يقول أوكتافيو باز – جُبِلَ من
عين جوهر التاريخ والمجتمع: اللغة، واذا كان التاريخ لا يتحقق إلا على
حسابنا باعتبارنا مواده الخام، فإن الشعر يغيّر هذه العلاقة تغييراً جذرياً
لأنه يتحقق على حساب التاريخ، لأن للشعر مهمة واحدة: أن يحوّل (طبيعة)
التاريخ.
في إطار هذا التصور، ليس غريباً ما نشهده من احتفاء الأمم
العريقة بمبدعيها وفنانيها الذين أسهموا بإبداعهم في مسار حضارتها، أو ذلك
الانشغال الذي تبديه تلك الأمم بالبحث في نتاج مبدعيها الكبار واعادة
اكتشافهم وتسليط الضوء على مناطق جديدة في ابداعهم مرة تلو الأخرى مستعينين
بما تكشف عنه العصور من قوانين وأدوات بحث.
فما من أمة إلا واحتفت
بعظيم من عظمائها، تعيد اكتشافه وقراءته مرة بعد مرة، شكسبير عند الانكليز،
باشو عند اليابانيين، حافظ الشيرازي عند الفرس وطاغور عند الهند، وغيرهم
الكثير، والعرب ليسوا استثناء من ذلك، فلماذا ننظر بعجـب الى ما يمكـن
تسميته بحالة الانشغال العربي بالمتنبي! على رغم أنني أكاد أجزم أنه على
كثرة ما أنجزنا من كتابات حول شعره وسيرته، فإن المتنبي لم يحظ بدراسات
قيّمة ومتعمقة كالتي حظيت بها قامات شبيهة به عند الأمم الأخرى كشكسبير
مثلاً.
والغريب في الحالة العربية، هو أن البعض يعتبر الاهتمام بشاعر
عظيم هو عودة غير مقبولة الى الماضي، وكأن كل عودة الى الماضي هي تخلّف،
كما أن البعض يجد في الاختلاف حول شاعر أو مبدع عظيم مبرراً لرفض الانشغال
به، وكأن الاختلاف فكرياً على سبيل المثل مع المتنبي ينفي عنه عظمته كشاعر،
وهو أمر عارٍ عن الصحة والموضوعية، فالأصل أننا لا نتبع المتنبي، انما
نتبع نهجاً علمياً في النظر الى الأمور، وأن نضع في الوقت نفسه منجزه
وسيرته موضع النقاش والدراسة، وما يقره البحث الموضوعي نقره الى ان تنفيه
حقائق أخرى، وأضيف الى ذلك أن تجربة صناعة المتنبي لمجده وحدها جديرة
بالدرس والتأمل.
ليس الهدف إذاً من تناول المتنبي بالدرس هو إنصافه من
عدمه، ولا أن نحاكيـه، بـل الهـدف هو قـراءة الزمان من خلاله والتعـرف على
موقـفـنا من هذا العالم، لأن أي محاولة لإعـادة قراءة مبدع عظيم بقدر أكبر
من التحرر هي خطوة في سبيل إنصاف أنفسنا، بأن نكـون أكثـر موضوعيـة في
قـراءة ماضينا وذواتنا، وأن نتعلم ألاّ نثبت عند رأي ونعامله وكأنه يقين لا
يقبل المراجعة، كأن نقول إن الماضي أسود أو أبيض، وانما علينا أن نجلو ما
هو حميد ونفصله عما هو غث وسيئ، لنستطيع فهم دورنا في الحضارة الإنسانية.
مقطع
القول هنا ان الاهتمام بالمتنبي لا يعني أن نتفق معه في كل ما جاء به،
فليس منا من يوافقه مثلاً في مبالغته المرضية بالفخر بذاته، أو في عنصريته،
وليس منا من يتبنى الصورة التي رسمها بشعره – على روعة هذا الشعر – لكافور
الأشيدي أو لغيره من دون إعادة نظر وتفكير.
إلا أن هذه الصورة لا تكتمل
من دون أن نقف على تفاصيل المفارقة الضخمة التي تتجلى لنا عند الإلمام
بطبيعة العصر الذي عاشه هذا الشاعر، بما ساده من ترد وتقلب أحوال، وغياب
لمنطق الأمور، ووصول نكرات الى سدة الحكم عبر البطش وسفك الدماء وظلم الناس
وإشاعة الخوف والرهبة بين الرعية، وهو جو في اعتقادي له أثره في من عاش
فيه، وينبغي أن نضعه في اعتبارنا ونحن نعيد قراءة المتنبي لنتعرف على طبيعة
الدوافع التي حركته في إطارها الزمني، وهو تحديداً ما قمت بفعله في
«يوميات دير العاقول» التي حاولت أن تكون موسوعة شاملة عن القرن الرابع
الهجري زاوية انطلاقها ومرتكزها سيرة حياة الشاعر العربي الكبير أبو الطيب
المتنبي، لأعيد من خلالها «تركيب العصر» بحيث لا يعود الزمان مفككاً كما
ورد في الكتب، السياسة في جانب، والأدب والاقتصاد والمجتمع والشارع كل في
جانب، بل تتبعت تلك الخيوط التي صنعت ذلك النسيج.
يبقى السؤال: ولماذا
المتنبي؟ لماذا هو الشاعر على رغم ما أثاره من جدل وما حظي به من اتهامات!
ولا أجد رداً على ذلك سوى اقتباس ما قاله أوفيد في خاتمة رائعته «التحولات»
مخاطباً جوبيتر، لأن المتنبي سيظل حياً بشعره مهما اختلفنا معه أو حوله.
يقول أوفيد في خاتمة رائعته «التحوّلات»:
«أتممتُ الآن عملاً/ ليس في
مقدرو جوبيتر هدمه،/ لا اللّهب، ولا الحديد، ولا الزمن الذي لا يشبع./
فليأتِ اليوم المحتوم متى شاء،/ لن تكون له حقوق إلاّ على جسدي،/ فليضع
حدّاً لمجرى حياتي الغامض:/ الجزء الأنبل فيّ سينطلق، خالداً، سيسمو على
الكواكب، وسيكون اسمي عصيّاً على الفناء./ وأينما توغلت روما،/ بعيداً في
الأرض التي تسودها،/ ستقرأني الشعوب،/ أنا الذائع الصيّت./ ولئن صدق حدسُ
الشعراء،/ سأحيا على مدى الزمان».
****
كان قدوة نفسه
كاظم جهاد
(العراق)
تتلخّص مفارقة المتنبّي المأسويّة بعدم اكتفائه بفرادته الشعريّة
وإصراره العنيد والمُهين على إردافها بمكانة في السّلطة السياسيّة. هي حالة
أنموذجيّة، بما تتمتّع به المفردة «أنموذجيّ» من ازدواج تأسيسيّ أشار إليه
دريدا في غير موضع. فهو أنموذج فريد في التّعبير عن حالته الخاصّة، ولكنّه
يطرح أيضاً نفسه قدوة تُحتذى ومثالاً يُنسَج على منواله. وبالفعل، طالما
تكرّر مثال المتنبّي في تاريخ الأدب العربيّ القديم والحديث، ونحن نجد بين
معاصرينا من تبلغ لديهم حالة المتنبّي، حتّى لا نقول عقدته، حدوداً من
التّكرار واقتفاء الأثر تُشعر المراقب بأسف ورأفة عميقيَن.
مبعث الأسف
والرّأفة هو أنّ هذا التّكرار يحاكي بما يشبه الملهاة سلوكاً شكّل في حدوثه
الأوّل، بحسب عبارة ماركس، حالة مأسويّة. ينبغي أن نحشّد كل معارف
التّحليل النفسيّ، في صيغته الفرويديّة الأرثوذوكسيّة أو في صيَغه
المنقَّحة، على يد رنيه جيرار مثلاً، لنفهم سرّ هذا الانجراف وراء سلطة
متلمّصة وزمنيّة ينجرّ إليه كائن أسلسَ له الفنّ قياده بصورة مدهشة.
ذلك
أنّ في طمع المتنبّي بمنصب يأتيه من سيف الدّولة أو من كافور عمى عن قوّته
الشعريّة وطمعاً بقوّة الآخرين. إنّ ذكاء مختلاًّ وموهبة فاسدة يصوّران له
أنّ «سعادته لن تكتمل إلاّ متى باركتْها نظرة الآخرين» (ريلكه). شهوة
السّلطة كمناسبة لنيل الاعتراف تجد في نظرنا أحد تنويعاتها في شهوة
الاعتراف الكونيّ والإقرار العالميّ التي يجنّد لها بعض الأدباء العرب
اليوم طاقاتهم، وتجبرهم على إسداء خدمات معلنة أو مخفيّة لأكثر من سلطة،
وعلى أن يتحوّلوا هم أنفسهم إلى سلطة أدبيّة أو إعلاميّة أو مؤسّساتيّة
تهمّش المتمرّد وتستعبد القريب. وكلّما اتّسعت رقعة الاعتراف المرحليّ
تعمّقت المسافة بينهم وبين الفنّ، بصورة تبشّرهم بزوال قريب ومأسويّ يعملون
هم كلّ شيء لإزالة شبحه ولا يفعلون في الحقيقة إلاّ أن يزيدوه قرباً. ذلك
أنّ ما فاتَ ماركس أن يلتفت إليه في عبارته الشّهيرة هو أنّ الملهاة تتحوّل
بتكرارها إلى مأساة. ووراء هذا كلّه (وليس يتّسع المجال لبلورة هذا
التّحليل) يقف فقر قديم لم يقبل به صاحبه أو مَن كان ضحيّته، وعمى عن سلطان
الفنّ وإهانة له على أعتاب سلطات أخرى.
هو مسار متعثّر يتبعه محرومون
كثيرون من أعياد الطّفولة ووجاهة الأصول. يرى فرويد أنّ تكرار المأساة -
الملهاة وتفاقم الجراح النّاجمة عن هذا الوهم المضني يهبان المرء الواقع في
هذا الفخّ الأليم، إذا كان فطناً وفنّاناً حقّاً، صحوة تدفعه إلى تغيير
مساره والاضطلاع بفقره والاكتفاء بالحظوة التي يقيمها له الفنّ في حاضره
وفي ضمير الأجيال. لا نعرف إذا كان المتنبّي، لو طال به العمر وأخطأه سيف
ابن أخت فاتك الأسديّ، مهجوّه القديم، سيحقّق مثل هذه الصّحوة ويطلق العنان
لعاطفته التي بقيت ملجومة في مجمل شعره، لا تتفتّق عنها إلاّ أبيات
معدودة. لكنّ في البطء الذي يبديه بعض معاصرينا في تحقيق مثْل هذه الصّحوة
ما يجعلنا نأسف لعالَم الأدب ونأسى لأنّ درس فرويد الأساسيّ هذا لا يلقى
تطبيقه إلاّ في ما ندر.
****
سرّه ليس في تفوقه الفني
شوقي بغدادي
(سوريا)
إذا كان من سر لأسطورة المتنبي فهو لا يعود الى عنصر التفوق الفني. فأبو
تمام مثلاً كان الأفضل في نصاعة التعبير الشعري ودقة أدائه والقدرة على
إغنائه بروح التجديد والاغتراب، والبحتري كان الأحسن في السبك الغنائي
الجامع بين الرقة والسهولة والجزالة، حتى لقد اعترف المتنبي نفسه بذلك حين
قال: «أنا وأبو تمام حكيمان، والشاعر البحتري»، فبماذا إذاً تجاوز المتنبي
هذين بل كل أقرانه من الشعراء العرب؟
السر في اعتقادي كامن في الطاقة
الشعرية التي استطاعت أن تتمثل الى حد بعيد الروح الوجدانية العربية
كخصوصية جماعية كونتها منذ القدم عناصر الحياة البدوية في الجاهلية والتي
بدا المتنبي حيالها وكأنه الشاعر الوحيد الذي استطاع أن يمتص هذه الخصوصية
أكثر من غيره بعد ثلاثة قرون ونيف من تحولات الحضارة الجديدة لمجتمع التمدن
الإسلامي ويعبر عنها بأسطع تجلياتها في موضوعي «البطولة» – كما لدى
الشعراء الفرسان في الفخر بالذات أو بالقبيلة – و «الحكمة» الناجمة عن
الخبرة الحياتية والممارسة أكثر من الثقافة الفلسفية. وحده المتنبي هو الذي
حافظ على هذا الرمز التقليدي للبطل العربي للبدوي العريق، والحكيم الخبير
حتى في سياق مدائحه ومراثيه وأهاجيه وكأنه يلخص في شخصه، وسيرة حياته
وموته، وفي شعره البداوة الجاهلية التي لم تفارقها روحها في أعماق اللاشعور
الوجداني العربي. إن العرب لا يسحرهم شيء مثل كاريزما البطل في السياسة
كما في الشعر. فلا الأخطل ولا الفرزدق ولا بشار ولا ابن الرومي ولا أبو
تمام ولا البحتري أو المعري وأبو فراس والشريف... ليس أي من هؤلاء وغيرهم
كان يمثل الرمز الذي قدمه المتنبي عن نفسه شاعراً وشخصاً... إنه باختصار
الخلاصة المكثفة لأعمق ما في ذائقتنا الشعرية الجماعية وخصوصيتنا القومية
ذات الطابع البدوي وقد واتتها الموهبة الكبيرة كي تجد تعبيرها الأفضل عن
وحدة لا مثيل لها بين الجماعة والفرد أو بين الأمة والشخص الموهوب فنياً.
****
شاعر على حافة العدمية
بول شاوول
(لبنان)
لا أعـرف إذا كان المتـنبـي ما زال يـشغل السـاحة الشعرية العربية، في
هذا الزمن الذي تراجع فيه كل شيء، وتقطعت أوصال الثقافة بأزمنتها
وسيرورتها. والسؤال لو طرح استطلاعاً حتى على الشعراء والمثقفين والطلاب
وبعض الدكاترة: من قرأ أو من يقرأ المتنبي، وحتى من «يعرفه» أو يتذكره؟ وقد
تكون النتيجة كارثية! بعضهم حفظ للامتحان، وآخر للتدريس، وآخر احتفظ بصورة
من الكليشيات المعروفة عن المتنبي، ومن ضمن وضع الشاعر خارج القراءة
النقدية، المتحراة، المتفحصة، المنقبة.
لكن افتراضاً ان المتنبي ما زال
يشغل الساحة العربية من خلال مقولة «مالئ الدنيا وشاغل الناس» (ولكن أين)،
لا سيما عند قلة القلة، فإن ذلك يعود بالدرجة الأولى الى قوة شعره من
ناحية، والى شخصيته «الدرامية»، المتقلبة، النرجسية المدفوعة بالطموح
الشخصي. ولهذا فالكلام على «مشروع» سياسي عند المتنبي كلام ربما أبعد منه.
ذلك أن الشعر السياسي هو من صلب الشعرية العربية منذ الجاهلية (النابغة،
عمرو بن كلثوم... امرؤ القيس...) وحتى العصور العباسية مروراً بالراشدية
والأموية وبعض الهوامش كالخوارج والصعاليك... ولهذا من الطبيعي أن يشتغل
المتنبي في السياسة من ضمن سقوف الموروث والبلاط أو السلطان أو من ضمن هاجس
التكسب، والارتزاق، وليس ممارسة لمشروع. فالمتنبي كان مشروع نفسه، عمل كل
شيء لتحقيق مشروعه: الإمارة هنا أو السلطة هناك أو المال هنالك. ولا نظن أن
الأمر يختلف في هذا المجال إلا نسبياً بين تعاطي شاعرنا مع سيف الدولة ومع
كافور... مع تفاوت «التقدير».
من هنا نفهم نرجسيته أيضاً. وهي من ناحية
كانت جزءاً من شعرية «الفخر» وهي كانت باباً من أبواب الشعر، (من الفخر
الجماعي (القبلي) الى الفخر الفردي). على ان نرجسيته هذه كانت أيضاً جزءاً
من النرجسيات العمومية عند الشعراء. ولكن المتنبي ذهب أبعد من ذلك. ذهب
أبعد من «أنا الذي نظر الأعمى الى أدبي...» الى «ما مقامي بأرض نخلة إلا
كمقام المسيح بين اليهود»، فهو يتماهى مع المتنبين، (تيمناً بلقبه)، ولا
ننسى تماهي أو ذوبان أو حلولية الصوفيين بأمته أيضاً.
ومن ضمن الشعرية
العربية كانت المناسبات أيضاً (أصلاً كل شعر هو مناسبي بشكل أو آخر). كل
الشعر العربي القـديم تقريـبـاً مناسبي. وهذا لا يغير المتنبي، سواء في
مدحه، أو هجائه... أو رثائه لأنه كان من ضمن الموروث السـائـد. لكن تكمن
قوة المتنبي انه شحن المناسبة بأبعد منها. ربما تحولت معه، من أفقها الخاص
(النرجسي) الى ما هو أبعد منها وصولاً الينا (والعكس صحيح). وهذا تحديداً
ما يـشيـر الى ان شعرية المتنبي هي التي ميزته أو أفردت له الحيز الخاص بين
الشعراء، مئات الشعراء مدحوا، ورثوا، وهجوا، وتكسبوا. لكن كانت «المناسبة»
أو الوسيلة دون شعـريـة المتنبي، كل ذلك يـعني ان سر أسطورته يوحي أبعد من
شعره الى شخصه؟ ربما!
فالطريقة التي قتل فيها المتنبي كانت «مفارقة»
تدل أكثر من سواها على متناقضاته: فهذا الشاعر الطموح، المتزلف، المتكسب،
المتقلب، (والعظيم في تقلباته)، قتلته قولته «الخيل والليل والبيداء
تعرفني...». فهذا الذي لم يعن دائماً ما يقول لا سيما في مديحه (مدح كافور
بأكثر من 12 قصيدة!)، ها هو ينضم الى قوله (النرجسي) وهو يفتخر بنفسه. ربما
كانت رسالته الأخيرة هذه ان الشاعر تحييه قولته وهي تميته. وهذا يعني،
بشكل أو آخر، نوعاً من «التزام» الذات، والتزام قيم متصورة أو وهمية عن
الذات. (فالكلام عن الذات قد يكون كله مجرد تخيل لا سيما السر الذاتية).
لكن الثمن هنا كان فادحاً! حيث ارتجل المتنبي فكرة عن نفسه وكان ضحيتها.
بمعنى كأنما ارتجل نصاً مسرحياً عن نفسه، وأراد أن يلعب الدور حتى النهاية
«كناطح صخرة». هنا بالذات يمكن ان نحار في أن نرى هذا الشاعر «ميلودرامياً»
أو تراجيدياً! ربما يكون الاثنين معاً! وربما عبرهما أقرب الى العبثية.
ونظن ان المتنبي على رغم كل شيء هو شخصية عبثية بامتياز. وهنا المفارقة أو
سواها: يجسد الشخصية العبثية التي تحركها تراجيديا سياسية أو ذاتية أو حتى
وجودية، فهذا ما يقربنا من المتنبي. فلا فخره، ولا مديحه، ولا تقلباته،
إنما هذا الحس المتلاشي حتى العدم بالأشياء.
وربما مبرر هذا الحس العبثي
كل تصرفاته، ذلك انه ما كان ليرى في هذا العالم سوى شخوص وديكورات وأدوار
زائلة غير معقولة لا أكثر ولا أقل. لكن عبثيته من النوع الذي يضع صاحبه
دائماً على حافة الهاوية. أي على حافة التراجيديا... أي مصارعة واقع عبثي
بسلاحه أحياناً، وبالتواطؤ أحياناً أخرى، ومواجهته وإن عرف أو أحس بأن
المواجهة خاسرة سلفاً.
المتنبي، اليوم، كأنه سر من أسرار التراجيديا
التي تلازم الشعراء والكتاب والناس الكبار.
أو ليس هذا ما يفسر ان
المتنبي لم يكن يجد نفسه (في حقائقه الداخلية) إلا في لحظات الهزيمة...
ورثاء الذات والعالم والخيبات؟
فلنتذكر «عيد بأية حال...» ونتحرى هذا
النص لنجد كم كان المتنبي كائناً تراجيدياً حتى الغربة أحياناً... لكن حتى
الهاوية أكثر فأكثر!
بهذا المعنى لا يمكن إلا أن أرى المتنبي شاعراً
ملعوناً... بكل ما تعني العبارة من تفلّت وعدمية ونرجسية وجنون وسخرية حتى
الانتحار!
ألم يكن عصره (العصر العباسي الرابع) يطل على آخر الهزائم
العربية، وسط التفكك الشامل، والسير نحو التلاشي والهزيمة!
فلماذا لا
يكون المتنبي نيغاتيفاً لهذه الصورة العمومية المتفككة، المتلاشية، العبثية
لكن من ضمن مواجهة دونكيشوتية تضاعف عدميته... وتراجيديته ونرجسيته!
أوليست
هي حالنا جميعاً في هذه المرحلة؟ أوليس لأننا نعيش ما عاشه المتنبي في
أزمنة «الأفول»، والانهيارات، نتماهى به، بكل تناقضاته، وشغفه وجنونه
وأنانيته كشروط ما... لحماية الذات أو لعنة العالم! ولا جدوى... هذا الكائن
الهش؟